يعني أن نستكشف تاريخ القدماء أن نعيش على النحو المقدس، أن ننصب قامتنا، ونسير باعتدال، أن نحترم إخواننا وأخواتنا من الأمم المختلفة والأعراق المختلفة. يعني هذا أن ننفتح مثل الهواء، مثل السماء؛ كي نتعرف على الجبال والمياه والرياح، وأضواء السماء، والنباتات، والكائنات ذوات الأربع، وذوات الست، والزواحف، والطيور. يعني هذا أن نقتل على النحو المقدس، أن نعرف الحب والأسف والغضب والسعادة على النحو المقدس، وأن نموت على النحو المقدس.
في حين أن هذه رؤية للماضي مصطبغة بصبغة رومانسية، فمن الواضح أنها تعبير عن حلم يوتوبي.
ثمة تقاليد يوتوبية بين سكان أستراليا الأصليين والشعوب الأولى في كندا، وشعب الماوري في نيوزيلندا، والهنود الأمريكيين الأصليين في الولايات المتحدة. وأفرز الصراع المناهض للكولونيالية حركات ألفية تضم عناصر يوتوبية قوية، مثل حركة «رقصة الشبح» في الولايات المتحدة. ثمة العشرات من تلك الحركات في أمريكا الجنوبية، ولا يزال عدد منها يعيش بين جماعات الماوري في نيوزيلندا، مثل كنيسة راتانا. وقد أحيت بعض جماعات الماوري أشكالا تقليدية من الكوميونية التي يظنون أنها توفر حياة أفضل لشعبهم من الحياة التي يمكن بلوغها عبر الاندماج في المجتمع الأكبر.
وهكذا، في مستعمرات المستوطنين في أمريكا الشمالية والجنوبية وأفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا، يمكننا أن نتتبع نمطا شائعا تدمر فيه مستعمرة يوتوبية ثقافات حية ومهمة بأساطيرها وقصصها التي كانت تعبر عن أحلام يوتوبية، ويستمر فيه حلم المستوطنين بحياة أفضل، ثم تنتهي الكولونيالية وتبزغ أحلام جديدة لكل من ذرية المستوطنين وذرية السكان الأصليين، ويعاد استكشاف الثقافات التي جرى قمعها.
أحيانا، اكتسبت الثقافات التي جرى تدميرها صبغة يوتوبية من قامعيها. حدث ذلك في مفهوم «الهمجي النبيل» الذي ظهر جليا أكثر من أي وقت آخر عقب الاحتكاك بالسكان المحليين في أمريكا الشمالية والجنوبية، على الرغم من أنه كانت له نماذج مماثلة في شعوب مثل السكوثيين التي وصفها الكتاب الإغريق والرومان الكلاسيكيون. كان ينظر إلى الهمجي النبيل على أنه أقرب إلى الطبيعة؛ ومن ثم على نحو ما أنقى وأبسط وأفضل من الذين يفترض أنهم متحضرون. ورغم المبالغة الواضحة في التبسيط، يؤكد البعض على وجود حقيقة خفية في الصورة. وقد نقل روجر ويليامز (1603-1683)، أحد المنشقين الدينيين الأمريكيين، عن أحد الهنود قوله: «نحن لا نرتدي ملابس، ونعبد آلهة عدة، لكن خطايانا أقل. أنتم بربريون وثنيون متوحشون، أرضكم هي أرض الهمجية.»
لكن أغلب الأدب اليوتوبي الذي كتبه السكان الأصليون هو ديستوبيات تصف المعاملة التي تلقوها على يد المستوطنين في زمن الاستيطان وحتى الوقت الراهن. على سبيل المثال، تقارن رواية «حدائق بين كثبان الرمال» (1999)، للكاتبة ذات الأصول الهندية الأمريكية ليزلي مارمون سيلكو (المولودة عام 1948)، بين يوتوبيا الحياة الهندية الأمريكية التقليدية والديستوبيا التي خلقتها سياسة الولايات المتحدة، وتصف قصيدة «المزرعة» (1996)، للكاتب ذي الأصول الهندية الأمريكية شيرمان ألكسي (المولود عام 1966)، الولايات المتحدة في المستقبل وهي تضم معسكرات اعتقال للهنود الأمريكيين. (3) الهجرة القسرية
أحيانا لم تكن عملية الاستيطان طوعية. جلب الأفارقة كعبيد إلى الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية، وكان المدانون بجرائم ينقلون إلى أستراليا وبعض المستعمرات الفرنسية، وكان الفرنسيون ينقلون عددا من العبيد إلى مستعمراتهم بالبحر الكاريبي أكثر مما كانوا ينقلون إلى أمريكا الشمالية أو الجنوبية. مكث الكثير منهم في تلك المستعمرات، لكن وقع عدد من ثورات العبيد، وأنهت ثورة هاييتي التي وقعت فيما بين عامي 1791 و1804 العبودية في ذلك البلد.
العبيد الذين كان يتم اصطحابهم إلى المكان الجديد نادرا ما كانوا في وضع يسمح لهم بكتابة رؤاهم عن حلمهم بحياة أفضل، لكن لا يعني ذلك أنه لم تكن لديهم مثل تلك الرؤى، وقد أنتجوا أغاني وقصصا وصل إلينا بعضها، وأشهرها الأناشيد الدينية الزنجية التي كان يتغنى بها العبيد في جنوب الولايات المتحدة، التي عادة ما كانت تعرض صورا للجنة التي سيفوزون بها بعد مآسي الحياة الدنيا، والأقل شهرة قصص «المكان الطيب العظيم» التي يرويها نفس هؤلاء الأشخاص؛ وهي قصص تناظر مباشرة قصة «أرض كوكين» التي ترجع للعصور الوسطى، أو حكايات الوفرة التي كانت تروى أثناء فترة الكساد العظيم؛ فالطعام الذي يأتي دون كد، والتحرر من أي سلطة، والدعة؛ كانت موضوعات أساسية فيها.
كما أنه نتيجة للمجاعة، كانت هجرة الأيرلنديين خارج أيرلندا في الغالب قسرية، وكانت أيرلندا حالة خاصة لسببين؛ إذ إنه بالنسبة لكثير من الأيرلنديين، ظلت أيرلندا مستعمرة بسبب أيرلندا الشمالية، وعلى النقيض من أغلب المهاجرين، كانت المجاعة تعني أنه كان من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، العودة إن لم تسر الأمور على ما يرام بالأرض الجديدة؛ ومن ثم كان الأيرلنديون من بعض النواحي لاجئين أكثر من كونهم مهاجرين، واستمر كثير منهم في التنقل من بلد إلى بلد حتى قبل استقرارهم في النهاية في مكان ما أو وفاتهم. (4) إسرائيل/فلسطين
ثمة بلد نادرا ما يوصف بأنه مستعمرة مستوطنين، رغم أنه كذلك بوضوح؛ هو إسرائيل. تضم الأعمال اليوتوبية اليهودية المبكرة قصة جنة عدن في سفر التكوين، والأنبياء، ونصوص عديدة غير موجودة في العهد القديم المسيحي ، بما فيها بعض الكتب والنصوص التي تعالج فكرة نهاية العالم، وتصف مجيء المخلص المنتظر، والمجتمع الديني المنعزل في خربة قمران ومجتمع شبيه يسمى ثيرابيوتاي في مصر. وفي القرن الثاني عشر، وضع الكاتب اليهودي يهودا اللاوي كتابا بعنوان «الخزري: الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل»، الذي يعتبر ضمن الأعمال الأولى، إضافة إلى كتابين إسلاميين من الفترة نفسها؛ وهما: «حي بن يقظان»، و«الرسالة الكاملية في السيرة النبوية»، التي تصف شخصا يعيش وحيدا على جزيرة منعزلة، وهي فكرة اشتهرت فيما بعد مع رواية دانيال ديفو «روبنسون كروزو».
صفحة غير معروفة