وقد كان لامرتين يعني بذلك أن «الحكومة الملكية» عرفت واجبها قبل الثورة الفرنسية؛ لأنه كان ملكيا، وكانت أسرته كلها ملكية؛ مما عرض أباه للسجن في أيام الثورة وعرضه هو للهجرة من بلاده، وأعجب أطواره في الأدوار السياسية المسرحية أنه بعد كل هذا رشح نفسه لرئاسة الجمهورية، فلم يظفر بأصوات تذكر في معركة الرئاسة .
إلا أن الكلمة التي تذكر له في تلك الخطبة هي قولته المشهورة: «إن الدول تزعم أنها تريد أن تخلق من جبال لبنان سويسرة أخرى في الشرق، فاحذروا أيها السادة أن تجعلوها بولونيا أخرى.»
يريد أن يقول إن مطامع الدول قد تجني على أبناء لبنان، كما جنت على البولونيين فمزقت بلادهم بين آل رومانوف وآل هابسبرج وآل هوهنزلرت، وقد كانوا يحسبون أنهم من حماية فرنسا الأدبية في حرز أمين.
ورينان
وقد كان رينان كذلك من مساحير هذا الشرق المظلوم، وكان سحر الشرق عليه شديدا قاسيا؛ لأنه جرده من مسوح الكهان ومن نعمة الإيمان، إن صح ما رماه به أقطاب ذلك الزمان.
مات أبواه وتكفلت به أخته هنرييت، واشتغلت بالتعليم لتنفق على تعليمه في مدارس اللاهوت.
ولكنه جنح في دراسة اللغات السامية ليطلع على الكتب المقدسة في أصولها العبرية والعربية، فقاده الاطلاع إلى الشك، وقاده الشك إلى المجاهرة بآرائه التي أنكرها رجال الدين في زمانه، وأوشكت مسألته أن توقع في القصر الإمبراطوري مشكلة بيتية بين نابليون الثالث وزوجته أوجيني، فإنها كانت تناصر رجال الدين في حربهم للفيلسوف المارق، وكان هو يناصر رينان ويود لو أقامه في كرسي من كراسي الأستاذية بالكوليج دي فرانس.
غير أن الإمبراطور لم يشأ أن يستهدف لسخط المتدينين من جراء فلسفة رينان، فأقصاه عن فرنسا في بعثة علمية إلى سان، واغتبط رينان بهذا الإقصاء؛ لأنه كان مشوقا إلى دراسة اللغات الفينيقية والآرامية بين آثارها في بلادها، وكان يسره أن يطوف بين قرى لبنان ويسمع أسماءها التي تحمل أصولها العريقة، وتدل بالباء على بيت، وبالعين على عين، وبالرش على رأس، وتعيد إلى بحمدون ذكرى بيت حمدون، ورشيمة ذكرى رأس الماء، وعمشيت ذكرى عين شيت، فضلا عن التين والزيتون فيها، وهما من أقسام القرآن الكريم.
وابتلي في لبنان بلية أخرى لم تكن له في حساب؛ لأن صحبة أخته الدائمة أثارت غيرة زوجته، فانقضت عليهما هنيهة ثم عادت مغضبة مستريبة، وأضافت بحماقتها مصيبة أخرى من المصائب التي جرتها عليه حماقات الناس ، وحماقته هو في بعض السهوات والبدوات.
لقد كانت هنرييت في سنها تكاد أن تحسب أما له كما كانت أما له بالتربية والتثقيف، وكانت تعاونه في الكتابة وتصحح له الأخطاء، وتجتهد اجتهادها في تنقية أسلوبه من مسحة فولتير وأقرانه المتهكمين المستخفين، ومن رآها ظن أنها أكبر من سنها بعشر سنين، لشدة ما أصابها من شقاء العيش وهي تسعى لرزقين، وتترحل بين فرنسا وبولونيا وبين بولونيا وبرلين لتجمع من مرتب المربية الخاصة رزقا تعين به التلميذ المطرود والأستاذ المحروم.
صفحة غير معروفة