فتش عن الحب
هذه السيدة هي اللادي هستر ستانهوب، التي أصبحت في الأدب الغربي أسطورة مشهورة منذ كانت بقيد الحياة قبل أكثر من مائة سنة.
هجرت بلادها وعولت على الإقامة في الشرق بقية حياتها، فحجت إلى بيت المقدس واختارت لها مكانا بجوار صيدا بين عشائر الدروز، أقامت فيه من سنة 1813 إلى أن أدركتها الوفاة بعد ست وعشرين سنة وهي تناهز الثالثة والستين.
أما سر هذه الهجرة فهو «هوسة حب» قلبت بهوسة دين؛ فقد كانت تحب السير جون مور فمات فيئست من الدنيا، واعتزمت أن تتبتل بعيدا عن كل ما يذكرها بهواها، ثم تطور معها شعور الحب المفقود إلى شعور الزهد والأمل في البعث القريب، فداخلها الاعتقاد أن السيد المسيح سيعود إلى الدنيا وهي قريبة من بيت المقدس، وهيأت لاستقباله مطية يركبها لتمشي هي في ركابه، وغيرت زيها الأوربي فعاشت بقية حياتها في الملابس الشرقية، ولا سيما ملابس البدو من الرجال!
وكانت لا تبالي الخطر ولا تخاف البادية، فلما اعتزمت أن تزور هياكل بعلبك - وفيها ذكريات عشتروت ربة الحب - حذرها النصحاء وخوفوها من أبناء الصحراء، فضربت بتحذيرهم عرض الحائط ولم تندم على هذه المجازفة؛ لأنها ذهبت وعادت في أمان برعاية زعماء البدو، الذين رحبوا بها واستقبلوها بين عمدان الهيكل بموكب من أجمل الفتيات البدويات، يرقصن ويهزجن وينشدن لها الأناشيد، وأنزلوا أجملهن من قوس النصر متدلية على حبل مضفور بالأزهار لتضع على رأسها إكليل الحفاوة والإكرام، وقد سرها المقام بين أبناء البادية وبناتها، فنصبت خيامها في جوار المعبد نحو أسبوع.
قال العلامة جوليان هكسلي، وقد عبر بصومعتها في رحلة الأونيسكو التي تولى رياستها: «أي شريط سينمائي كان خليقا أن يؤخذ من هذا المنظر.» وقد طافت به ذكرى هذه الناسكة «العشتروتية» وهو يتأمل هياكل تدمر، وطافت به ذكراها وهو يصعد من صيدا إلى قصر المختارة، حيث احتفى به وبزملائه زعيم شاب من الدروز من بيت جنبلاط.
حرب الجان في السويس
وظهرت في اللغة الإنجليزية كتب شتى عن هذه الأميرة الناسكة، منها كتاب ألفته السيدة حصلب اللبنانية، وكتاب ألفته النبيلة الإنجليزية الدوقة كليفلاند، ومنها فصل مسهب في كتاب السائح كنجليك «في مطلع الفجر»، أجاد فيه تمثيلها ومحاكاة أحاديثها التي دار معظمها على نابليون وإبراهيم باشا وبيرون ولامرتين، وكان هؤلاء جميعا هدف السخرية والفكاهة عن السيدة البارعة في المحاكاة، ولكن السر الخطير الذي كشفت عنه الناسكة الساحرة، إنما يدور على كنوز السويس المخبوءة ومعارك الحرب التي احتدمت حولها بين حراس السجن ونابليون تارة، وإبراهيم باشا تارة أخرى، ونقل المؤلف هذه الأحاديث في كتاب ألفه سنة 1835 وطبعه بعد ذلك بسنوات، وهذه شذرات منه عن عرق الذهب الذي يستولي صاحبه على ما شاء من الذخائر والكنوز.
قال فيما نقله عنها: «إن نابليون دس ذراعه في الكهف فيبست، ولكنه لم يرتعب ولم ينهزم، بل أمر جنوده بإطلاق المدافع فانطلقت على غير جدوى؛ إذ ماذا تجدي المدافع في حرب الجان؟! ثم جاء إبراهيم باشا بعد سنين بمدافعه الثقيلة وطلاسمه الخبيئة؛ لأنه كان من العارفين بالسحر وأسرار العزائم والتعاويذ، وكان محجبا محروسا من فعل الرصاص والقذائف النارية ينفضها من كسوته بعد انتهاء المعركة فتسقط كالتراب، ولكنه لم يفلح في استخلاص الودائع من حراسها وأرصادها.»
وقص كنجليك كثيرا من نبوءاتها عن الحروب العالمية فقال: «أنذرتنى النبية أننا مقبلون على أهوال وقلاقل تذهب بكل قيمة للأرض وما عليها، وأن الذين يعيشون في الشرق هم الجديرون وحدهم أن ينعموا بعظمة الحياة الجديدة، ونصحت لي أن أعمد في متسع من الوقت إلى التخلص من كل ما أملك في إنجلترا الهزيلة المسكينة، وأن أتخذ لي ملاذا في الأرض الآسيوية، ثم أشارت علي بأن أعود إلى سورية بعد ذهابي إلى مصر، فابتسمت بيني وبين نفسي؛ لأنني كنت على نية عقدتها وأبرمتها وفرغت منها؛ إذ قررت بعد زيارة الأهرام أن أستقل الباخرة من الإسكندرية إلى بلاد اليونان، إلا أن الإنسان يجاهد القدر عبثا، ويمضي في التدبير والله في التقدير؛ فإن النبية التي لم أصدقها كانت على صواب في نصيحتها، وكان الطاعون يهددني في معتقل الحجر الصحي لو أبحرت من الإسكندرية، فاضطررت إلى تغيير طريقي ولبثت بمصر برهة، ثم رجعت من طريق الصحراء مرة أخرى وعدت إلى جبال لبنان كما أنذرتني النبية من قبل.»
صفحة غير معروفة