ذهب بروسي وعاد يحمل طبقا يشبه الجلي مصنوعا من الفاكهة، ثم عاد يعد وجبة طعام العشاء. جلس مروان يستمتع بطبق الطز الشهي، يسأل في نفسه: لماذا بروسي هو الوحيد الذي لم يصدق أنه مروان؟!
4
قبل الغروب أقبلت النسوة مرهقات من العمل. أخذن حماما في عجلة من أمرهن، وقدم بروسي وجبة العشاء. تحدث معهن عما دار من حديث بينه وبين بروسي، أخبرهن أنه لم يصدق كلام بروسي أو أنه يكذب. اقتربت منه فرضانا تلاطفه بقولها: لا يوجد من يكذب في هذا العصر، يا عزيزي. - لكنه يقول إن مدن الإسكندرية، دبي، سنغافورا، عدن، الحديدة، جدة، مومباي، كراتشي ومدنا سواحلية أخرى اختفت من الوجود! كيف أصدق هذا؟! - فعلا كلامه صحيح، وكذلك اختفت دول من خارطة العالم، مثل: هولندا، فيتنام، بنجلادش؟
حدث مروان نفسه: «يا للهول! ماذا جرى؟! كيف اختفت مدن سواحل العالم التي أعرفها؟! هذا شيء لا أستطيع أن أصدقه.» وعاد يسأل: هل الرجل لم يعد أقوى من المرأة؟ هذا غير معقول! - لم نعد نحن بحاجة لقوة الرجل، لدينا من هو أقوى منه. انظر إلى بروسي يستطيع أن يحمل مائتي كيلوجرام، وهناك غيره يحمل طنا. ويمكن للبعض أن ينام مع عشرات النساء مرة واحدة. - لماذا ترى أن النسوة سلبن حقوق الرجال؟ ولا ترى أنهن استرجعن حقوقهن المسلوبة. نحن نحافظ على الرجل ونهتم بشئونه، ونرعاه أحسن رعاية، وهو يستمتع باللقاء الروحي أكثر منا. ويمكن أن يعمل مثلنا في كل مكان إذا أراد. ولكن نفضل أن يبقى في المنزل لرعاية الأطفال؛ فسبع نساء قادرات على أن ينفقن على المنزل. لماذا نراك مندهشا لمصير الرجل؟ ثم إن الديموقراطية والعدالة مذهب هذا العصر. ونحن النسوة الأكثر عددا من الرجال. كان العالم عالما ذكوريا، شرع فيه الرجل كل شيء لصالحه وسفك الدماء منذ الأزل. لكن في عهد إدارة المرأة للعالم استطاعت أن تروض الرجل المتباهي بقوته وتسوسه.
كانت مريانا تنصت بصمت لما يفكر فيه مروان، وهو في صراع مع ذاته القديمة. اقتربت إلى جواره وأخذت تسرد له نبذة عن النظام العالمي في زمن الإنسان الجديد، قالت: العالم الحالي يا مروان دولة واحدة، وأمة واحدة، مقسم إلى سبعة أقاليم: المشرق الأقصى، الشرق الأوسط، إفريقيا، أوروبا، كندا الأمريكية، المدن اللاتينية، وأستراليا. وعاصمة العالم هي مدينة «سرجونشي». وكل إقليم مقسم إلى مقاطعات، يرأسها مدير محلي منتخب يدير المقاطعة لمدة أربع سنوات فقط، وكل مقاطعة تتكون من عدة مدن، ترشح شخصا عبر الكمبيوتر إلى المجلس الأعلى للأقاليم. وهذ المجلس بدوره يقوم بترشيح رئيس المجلس، وكل إقليم يدير العالم سبع سنوات، وهذا المنصب هو منصب فخري، فكل فرد يعرف واجبه تماما. وهناك علم واحد للدولة العالمية، رفع هذا العلم على سطح القمر أيضا. أظنك شاهدته.
تذكر مروان المنطقة الخضراء التي شاهدها على سطح القمر أول يوم له في هذا العالم. سأل ببهجة: «أجدك يا مريانا تفهمين مشاعري أفضل من الغير، أخبريني كيف أصبح العالم شعبا واحدا، ما لم تستطع تحقيقه جميع الأديان؟!» ردت قائلة له، وهو ينصت كطفل صغير: بدأ الفلاسفة أولا في هذا الأمر أثناء عملية التأمل «المانترا»، عن طريق الممارسة المستمرة والتفكير الانتمائي بالوعي الكوني، ونجحوا تدريجيا في التخلي عن النظرية الانتمائية غير السليمة التي تمجد الذات، حتى تحرر فيه الإنسان من كل قيود الأنانية. وهذا التأمل كان أساسا لعلماء الجنس البشري في هذا العصر، واكتشف علماء البيولوجية «الجين الأناني» وقاموا بكبحه. كانت الأنا تفرق بين أجناس البشر، وتستعبدهم وتشعل الحروب. تلك الأنا كانت ستضعف ذات يوم، وتكون تحت سيطرة العقل بعد آلاف السنين، لكن هذا العصر اختزل تلك المسافات والسنين من عمر البشرية؛ ليعيش عالم الإنسانية الحقيقية.
قارن مروان نسفه بما جرى له بالنبي دانيال في «سفر الرؤيا»، كان يرى المستقبل بطريقة رمزية ويفسر بعد ذلك، وبالنبي يوسف وهو يفسر رؤيا السنين العجاف، والسنين السمان، في رؤية الملك الفرعوني «أمنحوتب»، رأى مستقبل البلاد من خلال تلك الرؤيا. قامت مريانا من جواره، وهو يتساءل: «ترى ما مصير أولادي؟ هل هم أحياء بعد ذلك الانفجار؟ كيف اختفت المدن السواحلية في العالم؟!»
5
خرج مروان من المستشفى يوم الخامس عشر من شهر مايو، على سيارة الإسعاف تنقله إلى البيت الذي استأجروه في منطقة «السنينة» وكان منير حاضرا. أثناء مرورهم بجوار معسكر الدفاع الجوي، سقط الصاروخ الأول على المعسكر؛ فأسرع السائق بالمركبة، وعبر على حفر كثيرة فتدحرجت أسطوانة الأكسجين داخل السيارة.
سقط الصاروخ الثاني، وكانت هناك سيارة في الاتجاه المقابل، فاصطدمت بالسيارة التي تقل مروان، وقذفت به والأسطوانة معا إلى خارج السيارة. تحلق العابرون الخائفون حول مروان، أحدهم سأل أسرة مروان: أين سيدفنونه؟ يود مشاركتهم في الدفن. كانت القذائف ما زالت تهطل على المعسكر، ولم تعد السيارات تمر في جواره، ما عدا سيارة قمامة عبرت فارغة. أوقفها معاوية، وطلب من السائق أن يحمل أباه إلى البيت.
صفحة غير معروفة