بينما كان مروان مندهشا في عالمه الفردوسي، كان الطبيب قد نقله من غرفة العناية المركزة إلى غرفة خاصة، وبقيت حميدة بجواره، وأخبرتهم عن طرد الممرض راجح الذي كان يبتزهم بشراء الأدوية، ويخبرهم أن صحة أبيهم جيدة. كان أولاده يقفون أمام جسده الملقى في غرفة العناية، يستغربون من علامات الدهشة المرسومة على وجه أبيهم، وذلك اللون الوردي الذي طغى على جسده. ومما زاد من دهشتهم أن والدهم ساعة يبدو على وجهه الغضب، وتارة ترتسم على شفتيه الابتسامة، حتى إن الدكتور اندهش من ذلك. يقول إنه لم يواجه حالة مثل حالة أبيهم. القلب يعمل ببطء شديد، وكذلك الرئة، وسيظل يعتمد على جهاز التنفس الاصطناعي. وجميع أطباء المستشفى لم يعرفوا حتى الآن التشخيص الحقيقي لحالته الغريبة.
ذهب علي ومعاوية إلى الطبيب المعالج، يستوضحان منه الأمر أكثر. قال الطبيب: «أبوكما في وضع حرج جدا، يعاني من حالة مرضية نادرة. لا يستجيب للأدوية، سنعمل بكل ما لدينا، وسنستعين بخبرات أجنبية عبر النت بأطباء من الخارج. لا تقلقوا». عاد علي ومعاوية إلى والدتهما مختلفين في الرأي كعادتهما. علي لا يريد أن يخبر والدته عن الخبر السيئ، ومعاوية يريد أن يضع أمه أمام الأمر الواقع. كادا أن يتشاجرا في المستشفى كما يتشاجران في إدارة السوبر ماركت، لا سيما والأسعار ترتفع أثناء الحرب. وصلا إلى غرفة والدتهما فتوقفا عن الشجار، وهما يشاهدان وجه أبيهما مرسوما عليه علامات الذهول. أما حميدة فكانت تذرف الدموع، وهي ترى زوجها يموت ببطء. تقول لهم: «أبوكم جسده بارد كالجثة الهامدة، وبشرته كما ترون بدأت تتحول إلى لون أزرق. جهزوا له قبرا.» ثم جلس علي ومعاوية في شرفة الغرفة ينظران إلى رحى الحرب التي تدور، ليست بعيدة منهم في المدينة.
الفصل الثاني
حين يصل الإنسان إلى أعلى مرتبة إنسانية، يكون نبي نفسه.
1
بينما كانت رائحة الموت تزكم الأنوف، كانت المركبة تحلق بمروان فوق مبنى ضخم ذي شكل سداسي، لونه كقوس قزح، على سطحه منتزه ومسبح ورائحة عطرة تملأ الجو، وحوريتان تجلسان إلى جواره. هبطت على ساحة صغيرة دائرية الشكل في فناء المبنى. نزلوا جميعا واستلمت السائقة كرت برقم موقع السيارة، ثم مشوا خطوات معدودة، والتفت مروان إلى الخلف، فلم ير المركبة. لم يسأل؛ فكل شيء غريب بالنسبة له في هذا العالم. كان مروان يشعر بالإحراج من بنطلونه القصير إلى فوق الركبة، وصدره العاري كأنه فتاة متبرجة، وهو الذي يستهجن البشر الذين يتشبهون بالنسوة. استغرب وهو يشاهد الناس من جنسيات مختلفة؛ آسيوية، إفريقية، أوروبية .. كأنه في مدينة عالمية. لم ير أحدا منهم ملتحيا، كان بعضهم ينظر بغرابة إلى شعر ساقيه وصدره.
دخلوا المستشفى ومروان ينظر بدهشة إلى كل ما تقع عليه عيناه. وقف مذهولا أمام أناس يمشون في الهواء ويصعدون، كأنهم على سلم كهربائي يأخذهم إلى الأعلى، لا يوجد سوى شريطين على جانبيه معلقا في الهواء! خاف مروان أن يضع قدمه عليه، ثم تشجع بعد صعود النسوة، وصعد وهن يبتسمن من سلوك شريكهن الغريب. شعر مروان أنه يطير في الجو، يا لها من روعة وهو في هذا العالم الساحر! فكر أنه في حالة رؤيا للمستقبل، كما كان النبي «دنيال» يرى المستقبل في رؤياه، لا سيما بعد أن أكدت له النسوة أن المدينة هي صنعاء ذاتها. وسيعرف قريبا في أي زمن هو!
وقف مروان أمام موظف التسجيل في المستشفى، الذي أخذ يبتسم من شعر مروان النابت في وجهه وصدره وسيقانه، كاد أن يضحك حين سمع مروان يتحدث عن اسمه «مروان ناجي مدهش الراعي» وكذلك وضعت النسوة أيديهن على أفواههن، وبلعن ضحكاتهن. ضرطت إحداهن فضحك مروان ، والتفت الناس إليه تعجبا. وموظف التسجيل يبحث عن اسم مروان في سجلات الحاسوب، فلم يجده. قال: عفوا لا يوجد أحد بهذا الاسم. هذا الرجل غريب، كما أن اسمه وشكله وسلوكه غريب أيضا.
اقتربت إحدى النسوة لتقول له ما جعلته يستغرب أكثر، وشك أنه أصيب بمرض لم يعد له وجود، وهو «الجنون» مرض العصور القديمة: شريكنا أصيب بداء غريب منذ ستة أيام، يتخيل نفسه شخصا آخر، حتى إنه لم يعد يعرف اللغة العالمية، يتحدث العربية فقط. يدعي أنه مروان، واسمه الحقيقي «كريم نورين»، وها هو يضحك عاليا متجاهلا القوانين.
بحث الموظف في الحاسوب عن اسم كريم نورين، واندهش من الشبه الكبير بين المدعو مروان وكريم، هذا ما حيره. ولم يخبر النسوة بخوفه بأن يكون مرض الجنون قد عاد إلى العالم الجديد. يسأل نفسه: ترى ماذا جرى لكريم؟!
صفحة غير معروفة