يحار لها من كل ممتحن عقل
ونحن كأشباح نمثل دورنا
كما شاء كتاب الرواية من قبل
مضى علي شهر في مكة، وأنا أستنشق أخبار شقيقي، وأتوسم في كل شاب رائقة ملامح المصريين، مرة أقول هذا ومرة أقول ذاك، فلما أعيتني الحيل وخفت من ضياع الوقت بدون فائدة وتاقت نفسي إلى العمل، قلت لسيدي الحاج علي: إني أحب أن أفتح محلا تجاريا، وسألته أن يسمح لي بالإقامة خارج المنزل؛ فقد طالت مدة الضيافة وعزمت على تأجير محل أقيم فيه، فقال: لسنا يا ولدي في مصر وإنما نحن في بلاد العرب بلاد الكرم، ولا إخالك لا تعرف عوائدهم التي توارثوها عن أجدادهم، ولسنا كذلك في أوروبا حيث يترك الولد بيت أبيه حينما يتزوج ويصبح الولد وأبوه لا علاقة بينهما، فتلك عوائدهم وهذه عوائدنا، وهل تستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! ولقد رأيت في بلادكم ميلا لعوائد الأجانب، وياللأسف عوائدهم الفاسدة التي لا تلائم بلادنا، وهذا التقليد الأعمى هو من أدواء الشرق المعضلة! فهلا قلدتموهم في حب بلادهم وغيرتهم على إخوانهم وحب الاستقلال والسعي وراء المنفعة العمومية والعمل والنشاط! فليكن في علمك يا ولدي أني أحببتك لما فيك من الخصال الحميدة والفضائل التي يمدح عليها الشبان، ووجودك في منزلي لا يزيد مصاريفي ولا يقلل ثروتي، فربما دل طلبك هذا على بخلك أو كرهك لمعاشرتنا. - حاشا يا سيدي أن أقابل معروفك الذي أسرتني به بغير الشكران، وإني ما قصدت بطلبي إلا محبة السعي وراء معيشتي وخدمتكم. وأما أمر تقليدنا للأوروبيين فإني مع الأسف أوافقك على ما تقول، فإن هذا التقليد الأعمى منذر بفقد الاستقلال ومضعف لعصبية الأمة، ومهما قلد المقلد فإنه لا يزال معتبرا عند الأوروبي شرقيا، وهي كلمة تدل عندهم على الجهل وعدم أحقية الاعتبار، ولكن لو قلدناهم كما تقول في حب بلادهم والمطالبة بالحقوق المهضومة وثبتنا على ذلك، عرفوا أن الشرقي ليس هو ذاك الجاهل المحتقر، بل هو إنسان مثلهم له ما لهم وعليه ما عليهم. - تعجبني أفكارك السامية، أكثر الله من أمثالك!
وحيث إني مسافر إلى الهند لإحضار البضائع فسأجعلك رئيسا لحسابات محل تجارتي، واعلم أن ثقتي بك عظيمة فحققها بأعمالك، وأنا أسأل الله أن يوفقك للاجتماع بشقيقك الذي تكبدت لأجله كل هذه المشاق. - بهذه الطريقة تلقي على عاتقي تبعة لست كفئا لحملها، ولكن أود أن أوجد لي محلا صغيرا أبيع فيه وآخذ البضائع من عندكم كما تشتري التجار، ويكون مكسبي وخسارتي راجعين علي، فماذا ترى في هذا المشروع؟ - لا بأس به حيث أردته.
وبعد مضي خمسة أيام كنت في خلالها أذهب إلى المخزن العمومي لانتقاء البضائع وتثمينها، فتحت دكانا، وأرسل لي الحاج علي عاملا يقوم بخدمة المحل ومساومة المشترين، وكنت أجلس كعادة التجار على مقعد مفروش بالحشايا، وكانت البضائع من أبسطة عجمية وفضيات حجازية وكشامير هندية، وما شاكل ذلك من الزخرفة الشرقية، وجعل لي الحاج علي محلا في منزله أجد فيه ما يلزمني من مطعم ومشرب.
ولا بد أن أذكر هنا أن بيت الحاج علي ينقسم إلى قسمين: أحدهما للحريم، والآخر للرجال، وكلاهما منفصل عن الآخر كمال الانفصال، ولكل خدم وحشم مخصوصة، وقد بلغني أن زوجة الحاج مكية الأصل، ولذلك تقيم دائما في مكة، وله زوجة أخرى من بومباي، وقد ولدت له المكية بنتا يضرب المثل بجمالها في مكة، أما امرأته الهندية فلم أسمع عنها لأن الذي كان يخبرني بذلك خادم أمين نبيه للغاية، يقرأ ويكتب ويطالع في كتب الأدب، وله إلمام ببعض العلوم العربية، ولقد أحبني كثيرا كما أحببته لأنه كان سميري في وحدتي وأنيسي في غربتي، وكنا نتحادث كثيرا ونتسامر طويلا، وهو يعتني بأمري جدا. ولقد أحسنت باتخاذي محلا للتجارة؛ لأني تمكنت من معرفة عوائد البلد وأحوال أهلها، وكلما جاء أحد لشراء شيء، سألته عن أمر شاب لا يعرف له أب وغير ذلك من الأسئلة، فمضت مدة تنيف على ثلاثة شهور ولم أسمع عن شريف شيئا فزاد ضجري وكدت أيأس من لقياه.
ففي ذات ليلة جاءني ذلك الخادم النبيه فوجدني جالسا وبيدي كتاب أقرأ فيه، فقال لي: ألا تعرف ما سيحصل الليلة في منزل الحاج علي؟
فأجبته أني لا أعرف شيئا، وسألته عن مقصده وماذا سيحصل فقال: ربما فقدت حياة شريفة بجوارك، حياة بريئة من الذنوب، ولا من يرحم ولا من ينصف المظلوم. - حياة تفقد بجواري لا ذنب لها! ما هذا الكلام؟! وما السبب في قتلها؟! - تقتل حفظا للشرف وصيانة للعرض كما يقولون. - إذا فصاحبها مدنس للشرف، هاتك للعرض، ومثله لا يعد بريئا عندنا، فهل يعد بريئا عندكم؟ - وهل في الحب ذنب أو عار يا سيدي؟ فلو أحببت في عمرك أو عرفت ما هو الحب لبرأت ذلك المسكين الذي يروح ضحية التمسك بالعوائد القديمة. - أما الحب فقد عرفته وذقت مرارته، ولعمري إن قلبي ليشفق على كل عاشق أودى به الغرام إلى ركوب ما لا تحمد عقباه، ولكن ما دخل العوائد في مسألة هذا العاشق الذي يقتل الليلة؟ وما السبب في قتله؟ أفصح لأن قلبي يكاد يتفطر من ذكر القتل. - تعلم أن عادة بلادنا تمنع الإنسان أن يزوج ابنته إلا إلى رجل يمكنه أن يسلسل نسبه إلى فلان المشهور، ولم يبق عليهم إلا أن يقولوا إلى القمر أو يكون ابن أحد أغنياء البلد وسراتها، ولا يلتفت إلى حب الفتاة لخطيبها ورغبتها في زواجه. - هذه العادة موجودة عندنا توارثناها عن أجدادنا، وبعضها مستحسن عقلا وعادة، وباقيها مستهجن حسا ومعنى، أما أنا ففي اعتقادي أن المحافظة على الأنساب وعدم زواج الابنة إلا لمن كان طيب العنصر كريم الأصل والأخلاق أمر واجب، ولكن تحتم زواجها بأحد الأغنياء غلط فاحش ورأي فاسد؛ لأن الأغنياء ليسوا جميعا ذوي أصول عريقة في الحسب والنسب، وإن كان الاعتقاد عندنا أن الغني هو الكريم الأصل وأن الفقير هو الدنيء، حتى إن الغني لا يزوج ابنته إلا لابن من يماثله في الثروة بدون أخلاق وآداب ذلك الابن أو سيره الخارجي، وبدون وجود أدني محبة بين العروسين، وهذا من أعظم الأسباب في فساد أخلاق كثيرين من الفتيان والفتيات، وما ظنك بشاب تعود على السهر في محال اللهو ومغازلة بنات الهوى يتزوج بفتاة لم يتوطد بينه وبينها حب طاهر، ولم يعرف قيمة الزواج وواجب العائلة؟ لا شك أنه يمضي مع عروسه بضع أيام يتمتع فيها باللذة البهيمية ثم يتحول الحال ليعود لسابق عادته، ومن شب على شيء شاب عليه. وأما الفتاة فمتى رأت بعلها يتركها ولا يعود إلا وهو يتمايل سكرا، فهيهات وألف هيهات أن تسلم في عرضها، والشباب والجدة مفسدة أي مفسدة! ولكنا أضعنا الوقت في الكلام وتركنا ما يجب علينا عمله نحو هذا العاشق المعرض للقتل، في حكايته؟ - إن محادثتك يا سيدي تنسي الإنسان نفسه، وتجذب فكره كما يجذب المغناطيس الحديد، وأما حكاية هذا العاشق فإنه شاب نبيه من أعقل شبان مكة وأشجعهم، وقد أحب ابنة الحاج علي وأحبته، ويشهد الله أنها تحبه أضعاف ما يحبها فهي الجانية عليه. - ومن الذي يود قتله؟ هل يحبها أحد سواه؟ - لا، إن الذي يود قتله هو سيدي الحاج علي؛ لأنه لا يرغب أن تهوى ابنته هذا الشاب أو تتزوج به. - إذا كان شابا نبيها عاقلا ويحبها وتحبه، فلم لا يتزوجها؟ - قلت لك يا سيدي إن الاعتبار عندنا بالنسب وهذا الشاب لا يعرف له أب ولا جد، وإنما يقال عنه إنه حفيد مولاي شرف الدين الذي اعتنى بتربيته، وبعضهم يقول إنه ابن خادم كان عنده، وبعضهم يقول إنه مملوك اشتراه من أحد تجار الشام، والحقيقة مستورة، إنما يظهر من طباعه أنه كريم العنصر؛ لأنهم يقولون: «إذا خفي أصل الفتى دل عليه فعله.»
أيها القارئ، هذا شعاع أمل بدا من سم خياط، خفق له قلبي ورقص له فؤادي طربا وسرورا، ولا إخالك ألا تفهم عواطفي في مثل تلك الساعة التي سمعت فيها من الخادم عن ذلك الشاب، فليت هذا الشعاع أخرجنا من الظلمات إلى النور! - أين يكون هذا الفتى؟ لا بد أن أنقذه من مخالب الموت؛ حيث تقول إنه شاب مهذب نبيه. - لقد أمر سيدي الحاج علي رجلين من أعوانه بالكمون وراء سور الحديقة، حتى إذا جاء هذا الفتى لمقابلة حبيبته كما يفعل أغلب الليالي فتكا به ونقلا جثته إلى الجبل، وقد بلغني من مصدر يوثق به أنهم أغروا خادمة أسما - ابنة الحاج علي - بالذهاب إلى ذلك الشاب برسالة من أسما تدعوه للمقابلة، وأمر الحبيبة لا يخالف. - ولم لم تخبرني بهذا حتى كنا سعينا في خلاصه قبل هذا الوقت وأنذرناه بسوء العقبى، هل تعرفه جيدا؟ - أعرفه جيدا لأني أحبه كثيرا. - هل تعرف لنا طريقا لخلاصه؟ - الرأي عندي أن نذهب خارج السور، ومتى رأينا شبحا قادما وتحققنا أنه شريف و ...
صفحة غير معروفة