أكتب إليك هذا وأنا على وشك مفارقة أوطاني المحبوبة التي أذكرك بواجبها، وهذه صورتي تذكارا لما كان بيننا من الوداد، فربما تأتي منيتي في تلك البلاد. وسأكتب لك من زمن إلى آخر بما ألاقيه إذا سمحت الفرص. وأسألك أن تهدي وافر تسليماتي إلى أصدقائي جميعا، وعليك ألف سلام من صديقك.
أمين
ثم كتبت على ظهر الصورة هذين البيتين:
تركت روحي لمن أهوى بمصر كما
شاء النوى فاستكانت وهي محصورة
وهذه صورتي سارت إليه لكي
تكون بين يديه الروح والصورة
وبعد كتابة عنواني الجوابين أعطيتهما للساعي وأوصيته بتوصيلهما إلى بوسطة المينا وكافأته على ذلك. وبعد قليل من الزمن أقلعت الباخرة، وسارت تمخر عباب الماء وتتهادي كالعروس على بساط أزرق، بسم الله مجراها ومرساها، وأنا لا أزال واقفا على ظهر المركب أنظر النظرة الأخيرة إلى مصر، والدمع يسيل على خدودي، والناس وقوف بجانبي يشيرون بالمناديل إلى إخوانهم وأقاربهم، وبالطبع لم يكن لي بينهم من يشير بمنديله سوى قلب حبيبتي في باخوص وقلوب بعض إخواني في المدرسة وهم بين أساتذتهم يتلقون الدروس، فإنها كانت كما أظن تخفق ردا على خفقان قلبي، كأنها مناديل تشير لبعضها وتتماوج في الريح. ثم خرجت المركب من الميناء وصارت تبعد عن مصر حتى لم نعد نرى إلا أطراف الأشجار، وبعد قليل اختفى كل شيء عن أعيننا، وحقا لا يعرف الإنسان مقدار محبة الأوطان إلا عند الفراق، ولطالما قرأت عمن ارتحلوا عن أوطانهم وذكروا لواعج البعاد، ولكن بلاغة كلامهم لم تؤثر علي أو تعرفني شغف الإنسان ببلده وحبه لمسقط رأسه بعشر معشار ما شعرت به عندما غاب عن عيني منظر البلاد، فنزلت إلى حجرتي في الدرجة الثانية أبكي بكاء مرا متذكرا والدي وحبيبتي ومربيتي والرمل والمدرسة والتلامذة، وابتدأت أشعر بدوار في رأسي ظننته لحزني ولكن ظهر لي أنه من اهتزاز المركب، حيث لم أركب البحر إلا في قوارب الإسكندرية قصد الفسحة، ثم تقايأت وسقطت مغشيا علي؛ فجيء بالطبيب ووضعوني في الفراش، وغلب علي النعاس فلم أفق إلا في اليوم التالي، فقصدت ظهر المركب بعد تناول الإفطار فوجدت المسافرين في صحة جيدة يتمتعون بهواء البحر النقي، فأخذت في المشي ذهابا وإيابا، وكانت الباخرة مسافرة إلى سواكن ومعرجة على جدة. وبعد أن تمشيت قليلا وعقلي مملوء بالأفكار، جلست على مقعد هناك بجوار رجل يبلغ نحو الأربعين من عمره يظهر عليه أنه هندي الأصل، فلما جلست قال لي: أظن حضرتك مصري الأصل لأنه يظهر عليك. - نعم يا سيدي. - ألم تركب البحر قبل هذه المرة؟ - كنت أركب القوارب الصغيرة للنزهة وأنا في إسكندرية. - هل أنت من سكان الإسكندرية؟ - أي نعم، وإنما نقيم في الرمل. - أهل الإسكندرية عندهم نشاط أكثر من سكان القاهرة، ويحبون البلاد أكثر من غيرهم، ويظهر أن روح الحرية دبت في نفوسهم. - صدقت يا سيدي، وهل كنت في إسكندرية؟ - أي نعم يا ولدي، وإني هندي الأصل، إلا أني أحضر في هذا الوقت إلى مصر لشراء بعض بضائع منها، آخذها إلى مكة لتشتريها الهنود والأفغانيون والجاويون وغيرهم، كما أني أحضر من تلك البلاد ما تشتريه الحجاج المصريون. - وإلى أين تسافر الآن؟ - إلى مكة. - ما أسعدني يا سيدي! فإني مسافر أيضا إلى مكة. - مكة؟! ولم تسافر الآن؟ ولأي سبب؟ هل تقيم هناك حتى موسم الحج؟ - لا، ولكن لي هناك مهمة إذا قضيتها رجعت حالا، وإلا انتظرت لقضاء فريضة الحج الشريف وعدت إلى مصر إذا تحققت من عدم نجاحي. - لولا أنك ذكرت لي أنك مصري لما ظننتك كذلك، ولا إخالك إلا صادقا كما يظهر عليك. وهل يترك مصري مصر ويسافر إلى خارج بلده؟! وكثير منهم لا يعرف سوى الجلوس على القهاوي طول النهار، وفي محال الملاهي في الليل، ولا يعرف أحدهم السفر ولا لذته، بل قد سمعت مع العجب أن شبان القاهرة لا يرون إسكندرية وبالعكس، حتى إنهم لا يعرفون عن بلادهم وآثارها إلا من كتب السياح والمؤرخين والجغرافيين. - صدقت يا سيدي، فذلك من عيوب شباننا، لا يعرفون للمنتديات العلمية فائدة، ولا يقبلون على الجمعيات الأدبية، ولا يعرفون إلا اليسير عن جغرافية بلادهم حتى يضعها الغريب أمام أعينهم، وهذا ما يجعلني أعتقد أن السفر إلى الخارج بالنسبة للشبان المصريين لا يفيد الأمة، فالأولى أنهم يتجولون في بلادهم لا لكي ينظروا الآثار فقط بل لكي يعرفوا القرى وعوائد الفلاح المصري في الوجهين القبلي والبحري؛ ليكونوا على بصيرة من أحوال أمتهم ودرجتها في الهيئة الاجتماعية والعالم المتمدن، ليضعوا أمام أعينهم رفع شأنها بالطرق المفيدة لها، وأنا أؤكد لك أن بعض الشبان الذين حازوا الشهادات العالية في المدارس لا يعرفون كيف يزرع القمح ولا القطن، بل لا يعرفون محصولات بلادهم ونحو ذلك، مع أنك لو سألته عن محصولات مملكة أجنبية لذكرها لك وعدد لك شهرة كل مدينة وتعداد أهلها وإذا رأى فلاحا مصريا هزأ به وظنه بهيما، مع أن ذلك الفلاح العاري الصدر والقدمين هو عماد البلاد ومنه تتكون معظم الأمة، حتى إن بعض هؤلاء الشبان يظن أن الأمة المصرية هي الفئة التي تجلس على القهاوي؛ تدخن النرجيلة وتلعب النرد والشطرنج والورق وتقرأ الجرائد وتتكلم في السياسة، لكن مع ذلك فأنا أبشر حضرتكم أن الوقت آخذ في التحول، وأن بعض الشبان عرفوا واجب بلادهم وتولد عندهم حب العمل والنشاط اقتداء بأميرهم والناس على دين ملوكهم. - ولكن يمكنهم أن يعيدوا سالف مجدهم؟ - «طول العمر يبلغ الأمل»، وإنا على أي حال لا نيأس ما دامت بلادنا مفتوحة للمدنية، ونحن نجاهر بما نفتكر والجرائد تبعث في الأفراد حب العلم وتبث روح العلم والتعليم، وكل شيء آخذ في التقدم، ولا بد من يوم تتعلم فيه الأمة وتقف أمام العالم تطالب بالحقوق المهضومة. - إذا كان في بلادكم من أمثالك عدد يسير، فإن ذلك يبشر بالنجاح. - يوجد عدد غير يسير، وأنا أقل إخواني الذين تعلموا التعليم المنبثة فيه روح الوطنية والاتحاد. - لقد أفرحتني وأعجبني كلامك أيها الشاب المهذب، ولكن ألا تخبرني بأشغالك بمكة؟
فأخبرته بأمر شقيقي فقال لي: إني لأعجب من بسالتك وإقدامك أيها الشاب، فليت من أمثالك في مصر والشرق كثيرين، أتحب أن تقيم عندي في مكة وتشتغل في التجارة حتى تتمكن من معرفة أخيك؟ - إني أقبل ذلك شاكرا مروءتك، آملا أن أخدمك بصداقة. - لا أحتاج لدليل سوى ما يظهر عليك من شرف المبدأ، فإن ما قلته دليل على حسن تربيتك، واعلم يا ولدي أن ليس لي أولاد ذكور وليس عندي إلا ابنة واحدة، فكن كابني مدة إقامتك معنا حتى تحصل على مرادك، وسأساعدك بكل جهدي لتعثر على شقيقك، وعلى ظني أنه يجب على كل شرقي أن يعضد أمثالك، فإنكم خلاصة الشرق وبكم وبأولادكم يرجع الشرق إلى سالف مجده.
فشكرته على حسن عواطفه، ثم سألني عن اسمي فأخبرته إياه، واسمه سيدي الحاج علي. ولقد كنا نجتمع كل يوم ونتباحث في موضوعات شتى، فظهر لي من عبارته أنه رجل خبير حنكته التجارب وأرضعته الأيام أفاويق الحكم، وأن له ثروة واسعة ومقاما كبيرا بين تجار المشرق، حرا في أفكاره، كريما في أمواله، تقيا في دينه، وكان ذا قامة معتدلة وعينين ضيقتين سوداوين ولحية سوداء يتخللها بعض شعرات بيضاء، وهو يلبس العمامة الهندية ويتزيا بزي الأعجام ، ويتكلم العربية والإنجليزية والهندية، وله تجارة في مكة والمدينة وبمباي، وكان معه من الخدم اثنان، وأخبرت أن عائلته تقيم في مكة.
صفحة غير معروفة