يعقوب بن زبدي
حنة أم مريم
عساف الملقب بخطيب صور
مريم المجدلية
فيليمون الصيدلي اليوناني
سمعان بطرس
قيافا رئيس الكهنة
يونا امرأة حافظ هيرودس
رفقة
فيلسوف فارسي في دمشق
داود أحد أتباعه
لوقا
متى
يوحنا بن زبدي
كاهن شاب في كفرناحوم
لاوي غني بجوار الناصرة
راع في جنوب لبنان
يوحنا المعمدان
يوسف الذي من الرامة
نثنائيل
سابا الأنطاكي
سالومة إلى صديقة لها
راحيل إحدى التلميذات
كلاوبا البتروني
نعمان الغداريني
توما
المقدم المنطقي
إحدى المريمات
رومانوس الشاعر اليوناني
لاوي التلميذ
أرملة الجليل
يهوذا نسيب يسوع
رجل من الصحراء
بطرس
ملاخي الفلكي البابلي
فيلسوف
أوريا الشيخ الناصري
نيقوذيموس الشاعر
يوسف الذي من الرامة بعد عشر سنوات
جاورجيوس البيروتي
مريم المجدلية
يوثام الناصري إلى أحد الرومانيين
أفراييم من أريحا
برقا التاجر الصوري
فومية
بنيامين الكاتب
زكا
يوناثان
حنة من بيت صيدا سنة 73
منسى المحامي الأورشليمي
يفتاح من قيصرية
يوحنا التلميذ الحبيب في شيخوخته
مانوس من بومبي إلى يوناني
بيلاطس البنطي
برثولماوس في أفسس
متى
أندراوس
رجل غني
يوحنا في بطمس
بطرس
إسكاف في أورشليم
سوسان الناصرية جارة مريم
يوسف الملقب بيوستوس
فيلبس
بربارة اليمونية
زوجة بيلاطس إلى امرأة رومانية
رجل خارج أورشليم
سركيس الراعي اليوناني الشيخ (الملقب بالمجنون)
حنانيا رئيس الكهنة
امرأة من جارات مريم
آحاز الجسيم صاحب الفندق
باراباس
كلوديوس قائد المئة الروماني
يعقوب أخو الرب
سمعان القيرواني
سيبورية أم يهوذا
امرأة من جبيل
مريم المجدلية
رجل من لبنان
يعقوب بن زبدي
حنة أم مريم
عساف الملقب بخطيب صور
مريم المجدلية
فيليمون الصيدلي اليوناني
سمعان بطرس
قيافا رئيس الكهنة
يونا امرأة حافظ هيرودس
رفقة
فيلسوف فارسي في دمشق
داود أحد أتباعه
لوقا
متى
يوحنا بن زبدي
كاهن شاب في كفرناحوم
لاوي غني بجوار الناصرة
راع في جنوب لبنان
يوحنا المعمدان
يوسف الذي من الرامة
نثنائيل
سابا الأنطاكي
سالومة إلى صديقة لها
راحيل إحدى التلميذات
كلاوبا البتروني
نعمان الغداريني
توما
المقدم المنطقي
إحدى المريمات
رومانوس الشاعر اليوناني
لاوي التلميذ
أرملة الجليل
يهوذا نسيب يسوع
رجل من الصحراء
بطرس
ملاخي الفلكي البابلي
فيلسوف
أوريا الشيخ الناصري
نيقوذيموس الشاعر
يوسف الذي من الرامة بعد عشر سنوات
جاورجيوس البيروتي
مريم المجدلية
يوثام الناصري إلى أحد الرومانيين
أفراييم من أريحا
برقا التاجر الصوري
فومية
بنيامين الكاتب
زكا
يوناثان
حنة من بيت صيدا سنة 73
منسى المحامي الأورشليمي
يفتاح من قيصرية
يوحنا التلميذ الحبيب في شيخوخته
مانوس من بومبي إلى يوناني
بيلاطس البنطي
برثولماوس في أفسس
متى
أندراوس
رجل غني
يوحنا في بطمس
بطرس
إسكاف في أورشليم
سوسان الناصرية جارة مريم
يوسف الملقب بيوستوس
فيلبس
بربارة اليمونية
زوجة بيلاطس إلى امرأة رومانية
رجل خارج أورشليم
سركيس الراعي اليوناني الشيخ (الملقب بالمجنون)
حنانيا رئيس الكهنة
امرأة من جارات مريم
آحاز الجسيم صاحب الفندق
باراباس
كلوديوس قائد المئة الروماني
يعقوب أخو الرب
سمعان القيرواني
سيبورية أم يهوذا
امرأة من جبيل
مريم المجدلية
رجل من لبنان
يسوع ابن الإنسان
يسوع ابن الإنسان
تأليف
جبران خليل جبران
ترجمة
أنطونيوس بشير
يعقوب بن زبدي
ممالك العالم
في يوم من أيام الربيع وقف يسوع في ساحة المدينة في أورشليم وشرع يخاطب الجموع عن ملكوت السماء.
فاتهم الكتبة والفريسيين بإقامتهم فخاخا وحفرهم حفرا في طريق الراغبين في الملكوت، موبخا وزاجرا.
وكان بين الجموع رجال يدافعون عن الفريسيين والكتبة، ففكروا في أن يقبضوا على يسوع وعلينا جميعا.
ولكنه تجنبهم وأعرض عنهم سائرا إلى البوابة الشمالية للمدينة.
وهناك نظر إلينا وقال: لم تأت ساعتي بعد. إن هنالك كثيرا سأقوله لكم وكثيرا سأفعله بينكم قبل أن أسلم نفسي للعالم.
ثم قال وفي صوته رنة الفرح والضحك: هلم بنا إلى الشمال لنلاقي الربيع. تعالوا معي إلى التلال؛ لأن الشتاء قد ولى وثلوج لبنان تنحدر إلى الأودية لتترنم مع الجداول.
قد قضت الحقول والكروم على النوم، واستيقظت لتحيي الشمس بتينها الأخضر وعنبها الرقيق.
وكان يمشي أمامنا ونحن نتبعه كل ذلك اليوم والذي تلاه.
وفي مساء اليوم الثالث وصلنا إلى قنة جبل حرمون، وهنالك وقف ينظر إلى مدن السهول.
فأشرق وجهه كأنه الذهب المحترق، وبسط ذراعيه، وقال لنا: انظروا إلى الأرض في ثوبها السندسي، وتأملوا كيف طرزت السواقي أهدابه بالفضة اللامعة.
حقا إن الأرض جميلة، وكل ما عليها جميل.
ولكن وراء كل ما تنظرون ملكوت سأحكمه وأسود فيه، فإذا شئتم ورغبتم من قلوبكم فأنتم أيضا ستذهبون إليه وتحكمون معي.
إن وجهي ووجوهكم لن تتقنع فيه، ولن تحمل يدنا سيفا ولا صولجانا، وسيحبنا رعايانا وسيعيشون بسلام من غير أن يعرفوا خوفا منا.
هكذا تكلم يسوع. أما أنا فإنني كنت أعمى عن جميع ممالك الأرض وكل المدن ذات الأسوار والقلاع، ولم تكن في قلبي سوى رغبة واحدة؛ أن أتبع المعلم إلى ملكوته.
وفي تلك اللحظة تقدم يهوذا الإسخريوطي ودنا من يسوع، وقال له: تأمل، إن ممالك العالم واسعة، ومدن داود وسليمان ستغلب الرومانيين. فإذا شئت أن تكون ملك اليهود فإننا نقف سيوفنا ورماحنا لتأييدك وفوزك على الغرباء.
ولما سمع يسوع هذا، التفت إلى يهوذا وأمائر الغضب تملأ محياه، وخاطبه بصوت راعب كرعد السماء قائلا له: تخلف عني يا شيطان! وهل يخطر لك أنني جئت في مواكب السنين لأحكم ثلة من النمل يوما واحدا؟
إن عرشي يفوق بصيرتك. وهل يمكن أن الذي يحوط الأرض بجناحيه ينشد ملجأ في عش مهجور منسي؟
أم هل يتشرف الحي ويترفع بواسطة لابسي الأكفان؟ «المصلوب».
إن مملكتي ليست من هذه الأرض، ومجلسي لم يبن على جماجم أسلافكم.
فإذا كنتم تنشدون مملكة غير مملكة الروح فالأجدر بكم أن تتركوني ها هنا، وتنحدروا إلى مغاور أمواتكم حيث يعقد ذوو الرءوس المتوجة منذ القديم مجالسهم في قبورهم ليعطوا مجدا لعظام جدودكم وآبائكم.
كيف تجرؤ أن تجربني بتاج من نفاية المادة في حين أن جبهتي تنشد إما الثريا وإما أشواككم؟
إلا أنني لولا حلم حلمه جنس منسي لما كنت آذن لشمسكم أن تشرق على صبري ولا لقمركم أن يبسط ظلي في طريقكم.
ولولا رغبة تقية اختلجت في قلب أم طاهرة لكنت جردت نفسي من أقمطتي وهربت راجعا إلى الفضاء.
ولولا الكآبة التي في أعماقكم جميعا لما كنت أقمت هنا للبكاء والنواح.
فمن أنت وما شأنك يا يهوذا الإسخريوطي؟ ولماذا تجربني؟
هل وزنتني في الميزان فوجدتني جديرا بأن أقود جيشا من الأقزام، وأدير مراكب من لا شكل له ضد عدو لا يجتمع إلا في بغضكم ولا يهجم إلا في مخاوفكم وأوهامكم؟
كثير هو الدود المجتمع حول قدمي، ولكنني لن أصليه ضربا. قد مللت الهزل والمجون وسئمت نفسي الشفقة على الدبابات التي تحسبني جبانا لأنني لا أتخطر بين أسوارها وقلاعها الحصينة.
إن من دواعي الشفقة أن أكون محتاجا إلى الرحمة حتى النهاية. وكم أود لو كنت قادرا على أن أدير خطواتي إلى عالم أكبر من هذا العالم، حيث يعيش رجال أعظم من رجاله، ولكن كيف أفعل ذلك؟
إن كاهنكم وإمبراطوركم يريدان دمي، وسينالان ضالتهما قبل سفري إلى ذلك العالم. إنني لن أغير سير الشريعة ولن أقيد الجهالة.
دع الجهل يستثمر ذاته حتى يمل ذريته.
دع العميان يقودون العميان إلى الحفرة.
ودع الموتى يدفنون الموتى حتى تختنق الأرض بأثمارها المريرة.
إن مملكتي ليست من هذه الأرض، مملكتي ستكون حيث اجتمع اثنان أو ثلاثة منكم بمحبة، وباحترام لجمال الحياة، وبغبطة وبهجة لتذكاري.
ثم التفت إلى يهوذا فجأة وقال: تخلف عني أيها الرجل، إن ممالككم لن تكون في مملكتي. •••
وكان الشفق فنظر إلينا وقال: فلننزل من هنا؛ لأن الليل يدنو منا، فلنسر في النور ما دام لنا النور.
ثم انحدر من التلال ونحن نتبعه. وكان يهوذا يتبعنا من بعيد.
وعندما وصلنا إلى السهول خيم الظلام.
فقال له توما بن ثيوفانس: يا معلم، قد دنا الظلام ونحن لا نرى الطريق، فإذا شئت سر بنا إلى أنوار تلك القرية لعلنا نجد طعاما ومأوى.
أما يسوع فأجاب توما قائلا: قد قدتكم إلى الأعالي عندما كنتم جياعا، وها قد أنزلتكم إلى السهول وقد تضاعف جوعكم، ولكنني لا أقدر أن أقيم معكم في هذه الليلة لأنني أود أن أكون وحدي.
فتقدم سمعان بطرس وقال: يا معلم، لا تتركنا نمشي وحدنا في الظلام، بل ائذن لنا أن نقيم معك في هذه الطريق الضيقة، فالليل وأشباحه لن تطيل إقامتها معنا؛ لأن الصباح سيجدنا قريبا إذا كنت تتعطف وتظل معنا.
فأجاب يسوع وقال: في هذه الليلة ستكون للثعالب أوجارها ولطيور السماء أعشاشها، ولكن ابن الإنسان ليس له على الأرض موضع يسند إليه رأسه. وأنا بالحقيقة أريد الآن أن أكون وحدي، فإذا تقتم إلي فإنكم ستجدونني ثانية على البحيرة حيث وجدتكم. •••
فانصرفنا عنه وقلوبنا تتمزق ألما لأننا لم نشأ أن نفارقه بطوعنا.
وكنا بين الهنيهة والأخرى نقف ونتلفت إلى الوراء لنراه في عظمة وحدته سائرا نحو الغرب.
أما الرجل الوحيد فينا الذي لم يلتفت إلى الوراء ليرى المعلم في كمال وحدته فهو يهوذا الإسخريوطي.
ومن تلك الساعة ساء خلق يهوذا وكثر اضطرابه، وأظلمت عيناه بسحب كثيفة من الغدر والشر.
حنة أم مريم
ميلاد يسوع
ولد يسوع حفيدي هنا في الناصرة في شهر كانون الأول. وفي الليلة التي ولد فيها يسوع زارنا رجال من المشرق، فقد كانوا أعجاما جاءوا إلى أسدريلون مع قوافل الميديين في طريقهم إلى مصر. وإذ لم يجدوا مكانا في الفندق طلبوا ملجأ في بيتنا.
وقد رحبت بهم وقلت لهم: إن ابنتي ولدت صبيا في هذه الليلة، وأنتم ولا شك تغضون الطرف عن قصوري إذا لم أقم بواجب الضيافة كما يليق بكم.
فشكروني على قبولهم في منزلي، وبعد العشاء قالوا لي: نود أن نرى الطفل الجديد.
وكان ابن مريم جميل الصورة، وهي أيضا كانت جميلة.
وعندما رأى الأعجام مريم وطفلها أخرجوا ذهبا وفضة من أكياسهم ومرا ولبانا، وطرحوها كلها عند قدمي الطفل.
ثم سجدوا وصلوا بلغة غريبة لم نفهمها.
وعندما ذهبت بهم إلى غرفة النوم التي أعددتها لهم دخلوا بملء الاحترام مما رأوا وشاهدوا.
وعند الصباح تركونا وساروا في طريقهم إلى مصر.
ولكن قبل انصرافهم قالوا لي: إن هذا الطفل وإن كان ابن يوم واحد فإننا قد رأينا نور إلهنا في عينيه وابتسامة إلهنا على شفتيه.
فنرجو منكم أن تحرسوه بعنايتكم ليحرسكم بعنايته.
وإذ قالوا هذا ركبوا جمالهم ولم نرهم بعد ذلك.
أما مريم فلم يكن فرحها ببكرها ليضاهي شدة دهشتها وذهولها أمامه.
فكانت تحدق إليه طويلا ثم تدير وجهها إلى النافذة وتتأمل السماء البعيدة منذهلة كأنها ترى رؤى سماوية.
وكان بين قلبها وقلبي أودية بعيدة العمق. «مريم أم يسوع».
وكان الصبي ينمو بالجسد والروح، وكان يختلف كل الاختلاف عن جميع أترابه؛ فكان محبا للوحدة، يصعب الحكم عليه، ولم أقدر أن أضع يدي عليه قط.
بيد أنه كان محبوبا من جميع أهل الناصرة. وفي أعماق قلبي عرفت السبب في ذلك.
وكثيرا ما كان يأخذ طعامنا ويعطيه لعابري السبيل، وكلما أعطيته شيئا من الحلوى كان يعطيه للأولاد رفقائه قبل أن يذوقه بفمه.
وكان يتسلق أشجار البستان ويقطف أثمارها ليحملها إلى غيره ممن لا أثمار في بساتينهم.
وكثيرا ما رأيته بعيني وهو يتسابق مع الأولاد، وإذ يرى أنه أسرع خطى منهم، يتباطأ في سيره حتى يسبقوه إلى المحجة قبل أن يصل هو إليها.
وكان في بعض الليالي عندما أقوده إلى فراشه يقول لي: أخبري أمي وغيرها أن جسدي فقط ينام، ولكن فكري سيظل رفيقا لهم حتى يأتي فكرهم إلى صباحي.
وغير هذا كثير من الآيات العجيبة التي كان يقولها لي في صبوته، ولكن ضعف ذاكرتي في شيخوختي يحول دون تذكرها.
واليوم يقولون لي إنني لن أراه فيما بعد، ولكن كيف أستطيع أن أصدق ما يقولون؟
إنني ما زلت أسمع ضحكه. وصوت وقع قدميه على أرض الدار لا يفارق أذني. وكلما قبلت وجنة ابنتي أشعر بعطر قبلاته يفوح في قلبي، وأحس بجسده الجميل يتموج في ذراعي.
ولكن، أليس من الغرابة العجيبة أن ابنتي لا تتكلم عن ابنها البكر أمامي أبدا؟
وكثيرا ما يخطر لي أن شوقي إليه أعظم من شوقها؛ لأنها تقف شاخصة أمام نور النهار كأنها تمثال من النحاس الصامت في حين أن قلبي يذوب في صدري ويجري منسكبا كالجدول، ومن يدري، فلعلها تعلم ما لا أعلم. ويا ليتها تحدثني بما تعرف من الأسرار الغامضة علي.
عساف الملقب بخطيب صور
خطاب يسوع
ماذا أقول عن خطابه؟ لا شك أن قوة خفية في شخصيته كانت تسلح كلماته بسحر عجيب، فتأخذ بمجامع قلوب سامعيه؛ لأنه كان جميل الصورة بهي المحيا.
وكان الرجال والنساء يحدقون إلى صورته الكاملة أكثر مما يصغون إلى مباحثه. ولكنه كثيرا ما كان يتكلم بقوة روح عجيبة، وتلك الروح كان لها السلطان الكامل على كل من سمعه.
قد سمعت في حداثتي خطباء روما وأثينا والإسكندرية، ولكن الناصري النذير كان يختلف كل الاختلاف عن جميعهم.
حصر أولئك همهم بترتيب الكلام بصورة تسحر الآذان، ولكنك إذ تسمع الناصري تشعر بأن قلبك يفارقك في الحال ويسير هائما في أصقاع لم يزرها أحد بعد.
فهو يقص عليك قصة أو يخاطبك بمثل، ولكن سورية لم تسمع بمثل قصصه وأمثاله في كل تاريخها؛ لأنه كان يحوك أمثاله وقصصه من خيوط الفصول كما يحوك الزمان نسيجه من خيوط السنين والأجيال.
وإليك مثالا من طريقته في بدء قصصه: خرج الزارع ليزرع زرعه.
أو كان لرجل غني كروم عديدة.
أو راع عد خرافه عند المساء فوجد خروفا ناقصا ...
ومثل هذه الكلمات تحمل سامعيه إلى ذواتهم الساذجة وإلى أيامهم القديمة الهادئة.
كلنا عند التحقيق زارع. وجميعنا نعشق الكرمة. وفي مراعي ذاكرتنا يوجد راع وقطيع وخروف ضال.
وهنالك أيضا محراث ومعصرة وبيدر.
أجل، قد عرف الناصري ينبوع ذاتنا القديمة وخبر الخيوط التي حاك القدير نسيجنا منها.
إن خطباء اليونان والرومان خاطبوا الناس عن الحياة في نظر الفكر، ولكن الناصري تكلم عن حنين كائن في أعماق القلب.
أولئك رأوا الحياة بعيون قد تكون أنقى قليلا من عينيك وعيني، أما هو فقد رأى الحياة بنور الله.
وكثيرا ما أفكر في أنه خاطب الجموع كما يخاطب الجبل السهل الوسيع. وكان في خطابه قوة لم تصل إليها أفكار أثينا وروما.
مريم المجدلية
اجتماعها بيسوع لأول مرة
رأيته لأول مرة في شهر حزيران، كان يمشي بين الزروع عندما مررت مع جواري، وكان وحيدا.
وكان انتظام وقع خطواته في الأرض مختلفا عن جميع الرجال ، وحركة جسمه لم أر مثلها قط في حياتي.
إن الرجال لا يمشون على الأرض كما مشى هو، وإلى هذه الساعة لا أدري إذا كان يسير بسرعة أو ببطء.
وكانت جواري يشرن إليه بأصابعهن ويتهامسن فيما بينهن والحياء يخيم فوقهن. أما أنا فوقفت لحظة ورفعت يدي لأحييه، ولكنه لم يلتفت، ولم ينظر إلي فأبغضته جدا، وشعرت بأن الدم يجمد في عروقي من شدة الغيظ، وفارقتني حرارة جسدي حتى صرت باردة كأنما أنا في عاصفة من الثلج هوجاء، وكنت أرتجف بكليتي.
وفي تلك الليلة رأيته في منامي، وقد أخبروني فيما بعد أنني كنت أصرخ صراخا شديدا في نومي، ولم أعرف طعم الراحة في فراشي في تلك الليلة ...
ثم رأيته ثانية في شهر آب، وكان ذلك من خلال نافذتي. فكان جالسا في ظل سروة أمام بستاني، وكان هادئا كأنه تمثال منحوت من الحجارة، كالأنصاب التي رأيتها قبلا في إنطاكية وغيرها من مدن الشمال.
في تلك الدقيقة جاءت خادمتي المصرية وقالت لي: إن ذلك الرجل هو هنا ثانية، وهو جالس هنالك أمام بستانك.
فحدقت إليه طويلا، فارتعشت نفسي في أعماقي لأنه كان جميلا.
كان جسمه فريدا، وقد تناسبت أعضاؤه، حتى خيل إلي أن كلا منها مسحور بحب رفيقه.
وفي الحال لبست أفخر أثوابي الدمشقية، وتركت بيتي وسرت إليه.
هل دفعتني وحدتي أم طيب شذاه حملني إليه؟ وهل مجاعة عيني الراغبة في الجمال، أم جماله الذي كان يفتش عن النور في عيني؟
إنني حتى الساعة لا أعلم.
مشيت إليه بأثوابي المعطرة وحذائي الذهبي، الذي أعطانيه القائد الروماني. نعم ذلك الحذاء بعينه! وعندما وصلت إليه قلت له: أنعمت صباحا.
فقال: نعمت صباحا يا ميريام.
ثم نظر إلي، فرأت في عيناه السوداوان ما لم يره رجل قبله، فشعرت فجأة كأنني عارية وخجلت في ذاتي.
بيد أنه لم يقل سوى: نعمت صباحا.
حينئذ قلت له: أفلا تريد أن تدخل إلى بيتي؟
فقال: أما أنا الآن في بيتك؟
إنني لم أعلم ما عناه آنئذ، ولكنني أعلم الآن.
فقلت له : أفلا تريد أن تشرب الخمر وتكسر الخبز معي؟ «مريم المجدلية».
فأجاب: بلى يا ميريام، ولكن ليس الآن.
ليس الآن. ليس الآن، هكذا قال لي، وكان صوت البحر في هاتين الكلمتين، وصوت الريح والأشجار، وعندما قالهما لي تكلمت الحياة مع الموت.
فاذكر يا صاح، ولا تنس أنني كنت ميتة؛ فقد كنت امرأة طلقت نفسها، وكنت أعيش بعيدة عن هذه الذات التي تراها الآن؛ فقد اختصصت بجميع الرجال، ولم أختص بأحد، فكانوا يدعونني عاهرة، وامرأة فيها سبعة شياطين. كنت ملعونة من الجميع ومحسودة من الجميع.
ولكن عندما نظر فجر عينيه إلى عيني غابت جميع كواكب ليلي وصرت ميريام، ميريام فقط، امرأة ضاعت عن الأرض التي عرفتها ووجدت نفسها في أماكن جديدة.
ثم قلت له ثانية: هلم إلى بيتي وشاركني بخمرتي وخبزي.
فقال: لماذا تلحين على أن أكون ضيفك؟
فقلت: أتوسل إليك أن تدخل إلى بيتي. وكان كل ما بي من الأرض وكل ما بي من السماء يناجيه ويدعوه ويطلبه.
حينئذ نظر إلي، فأشرقت ظهيرة عينيه على روحي، وقال: إن لك كثيرين من المحبين، بيد أنني أنا وحدي أحبك، فإن بقية الرجال يحبون أنفسهم في قربك، أما أنا فأحبك في نفسك. إن بقية الرجال ينظرون فيك إلى جمال يذوي قبل انتهاء سنيهم، أما الجمال الذي أراه أنا فيك فإنه لن يزول، وفي خريف أيامك لن يخاف ذلك الجمال أن ينظر إلى ذاته في مرآة، ولن يقدر أحد أن يعيبه.
أنا وحدي أحب ما لا يرى فيك.
ثم قال بصوت واطئ: امضي في طريقك الآن، وإذا كانت هذه السروة لك ولا تريدين أن أجلس في ظلها، فأنا أيضا أسير في طريقي.
فتوسلت إليه بدموع قائلة: يا معلم، ادخل إلى بيتي. إن لدي بخورا أحرقه أمامك، وطستا من الفضة لغسل قدميك. أنت غريب ولكنك لست بالغريب؛ لذلك أتضرع إليك أن تدخل إلى بيتي.
في تلك اللحظة وقف ونظر إلي كما تنظر الفصول إلى الحقل وتبسم، وقال ثانية: إن جميع الرجال يحبونك لأجل ذواتهم، أما أنا فأحبك لأجل ذاتك.
قال هذا وسار في طريقه. •••
ولكن ما من رجل مشى مشيته قط، هل ولدت في بستاني نسمة علوية ثم سارت إلى الشرق؟ أم هي عاصفة جاءت تزعزع كل شيء لترده إلى أسسه الأصلية؟
إنني لم أعلم. ولكن في ذلك اليوم ذبح غروب عينيه الوحش الذي كان في، فصرت امرأة، صرت ميريام؛ مريم المجدلية.
فيليمون الصيدلي اليوناني
يسوع أمير الأطباء
كان الناصري سيد الأطباء في شعبه، وما من رجل غيره عرف ما عرفه هو عن أجسادنا وعناصرها ومحتوياتها.
فقد أبرأ من أمراض غريبة لم يعرفها اليونانيون ولا المصريون. يقولون إنه أقام الأموات من القبور، وإذا كان هذا حقيقيا أم لا فإنه يظهر قوته؛ لأن أعاظم الأمور لا يمكن أن تنسب إلا لمن يستطيع أن يقوم بالأمور العظيمة.
ويقولون أيضا إن يسوع زار الهند وبلاد ما بين النهرين، وإن الكهنة الذين كانوا في تلك البلاد أعلنوا له المعرفة المخفية في أعماقنا.
ولكن من يدري، فقد تكون الآلهة منحته تلك المعرفة مباشرة وليس بواسطة الكهنة؛ لأن الذي تخفيه الآلهة عن جميع الناس جيلا كاملا كثيرا ما تعلنه لرجل واحد في لحظة واحدة، وأبولو إذ وضع يده على قلب الجهول الوضيع جعله حكيما رفيعا.
إن أبوابا كثيرة قد فتحت لأبناء صور وتيبت، وهنالك كثير من الأبواب التي كانت موصدة ومختومة فانفتحت أمام هذا الرجل؛ فقد دخل إلى هيكل النفس، الذي هو الجسد، ورأى الأرواح الشريرة التي تتآمر على قوتنا وبأسنا، كما رأى الأرواح الصالحة التي تغزل خيوطها.
وفي عقيدتي أنه كان يشفي المرضى على سبيل المقاومة والمعارضة، ولكن الطريقة التي اتخذها لنفسه لم تكن معلومة لدى فلاسفتنا، فكان يدهش الحمى بملامسته الجليدية فترتد هاربة، ويذهل الأعضاء اليابسة بقوة هدوئه العجيب فتطيعه وتعود إلى سلامتها.
أجل، قد عرف الناصري العصارة الزائلة في قشرة شجرتنا المتشققة - ولكن كيف اتصل بتلك العصارة بأصابعه؟ ذلك ما لا أعرفه! وعرف الفولاذ الصحيح تحت الصدئ - ولكن ما من رجل يقدر أن يحدثنا كيف حرر السيف من صدئه وأعاد إليه بريقه.
كثيرا ما يخطر لي أنه كان يصغي إلى أعمق الآلام التي في جميع الكائنات الحية أمام الشمس، فيعمد في الحال إلى رفعها ومساعدتها. ليس بمعرفته فقط بل بإظهار طريق قوتها لتنهض من آلامها صحيحة سالمة.
بيد أنه لم يعبأ قط بمقدرته كطبيب، بل كان جل همه معالجة المواضيع الدينية والسياسية في هذه البلاد. وأنا متألم لأجل هذا؛ لأننا قبل جميع الأشياء يجب أن نكون أصحاء الأجساد.
ولكن هؤلاء السوريين إذا أصابهم مرض لا يفتشون عن الدواء، بل ينشدون المباحثة والمجادلة. ومصيبتهم الكبرى أن أعظم أطبائهم أعرض عن فنه المفيد واختار أن يكون خطيبا في ساحة المدينة.
سمعان بطرس
دعوته مع أخيه
كنت على شاطئ البحيرة عندما رأيت يسوع، ربي ومعلمي، لأول مرة.
كان أخي أندراوس معي، وكنا نلقي شبكتنا في المياه.
وكانت الأمواج طاغية هائجة؛ ولذلك لم نمسك إلا قليلا من السمك وكان الحزن يملأ قلبينا.
فوقف يسوع بقربنا فجأة كأنه تكون في تلك اللحظة لأننا لم نره يدنو منا.
ثم دعانا كلا باسمه وقال: إذا تبعتماني فإني أقودكما إلى مدخل في الشاطئ حافل بالأسماك.
وإذ نظرت إلى وجهه سقطت الشبكة من يدي؛ لأن نورا أشرق في أعماقي فعرفته.
فتكلم أخي أندراوس، وقال له: نحن نعرف جميع مداخل هذه الشواطئ ونعرف أيضا أن الأسماك في مثل هذا اليوم الكثير الرياح تنشد أعماقا لا تصل إليها شباكنا.
فأجاب يسوع وقال: اتبعاني إذن إلى شواطئ البحر الأعظم فأجعلكما صيادي الناس. ولن تكون شباككما فارغة.
فتركنا سفينتنا وشباكنا وتبعناه.
أما أنا فقد تبعته مسوقا بقوة غير منظورة كانت تسير معه جنبا إلى جنب.
كنت أمشي إلى جانبه منقطع النفس، والعجب آخذ مني كل مأخذ، وكان أخي أندراوس وراءنا متحيرا منذهلا.
وفيما نحن نمشي على الرمل تشجعت وقلت له: يا سيد، أنا وأخي سنتبعك، وحيث سرت فنحن نسير معك، ولكن إذا حسن لديك أن تذهب معنا إلى منزلنا في هذه الليلة فإننا نتبارك بزيارتك. إن بيتنا ليس كبيرا وسقفنا ليس عاليا ، وستأكل طعاما حقيرا فيه. بيد أنك إذا دخلت إلى كوخنا فإنه يصير قصرا في عقيدتنا، وإذا كسرت الخبز معنا فإن أمراء الأرض يحسدوننا على جلوسنا في حضرتك.
فقال لي: نعم سأكون ضيفكم في هذه الليلة.
فطار قلبي فرحا من جوابه، وهكذا سرنا وراءه صامتين حتى وصلنا إلى البيت.
وعندما وقفنا على عتبة الباب قال يسوع: سلام لهذا البيت والساكنين فيه.
ثم دخل ونحن نتبعه.
وهنالك رحبت به زوجتي وحماتي وابنتي وخررن ساجدات أمامه، وقبلن أطراف أكمامه.
كن متحيرات كيف أنه وهو المختار الطيب يأتي ليكون ضيفنا؛ لأنهن كن رأينه قبلا في نهر الأردن عندما أعلنه يوحنا للشعب.
وفي الحال شرعت زوجتي وحماتي في تهيئة العشاء.
أما أخي أندراوس فكان حييا بطبيعته، ولكن إيمانه بيسوع كان أعمق من إيماني.
وأما ابنتي التي كانت آنئذ في الثانية عشرة من العمر فإنها وقفت إلى جانبه، وأمسكت طرف ثوبه خوفا منها أن يتركنا ويسير في الليل ثانية، فكانت متعلقة به كأنها خروف ضال وجد راعيه.
وعندما أعد العشاء جلسنا إلى المائدة فكسر الخبز وسكب الخمر، والتفت إلينا وقال: أيها الأصدقاء، باركوني الآن وشاركوني في هذا الطعام كما أن الأب قد باركنا بإعطائه لنا.
قال هذه الكلمات قبل أن يتناول كسرة واحدة؛ لأنه أراد أن يحافظ على العادة القديمة: إن الضيف المحترم يصير رب المنزل.
وإذ جلسنا معه حول المائدة شعرنا في أعماقنا بأننا جالسون إلى وليمة الملك العظيم.
وكانت ابنتي بترونيلة، الصغيرة الساذجة، تتأمل وجهه وتتبع بنظراتها حركات يديه، وكانت سحابة من الدموع تغشي عينيها.
وعندما ترك المائدة تبعناه وجلسنا حواليه تحت مظلة الدوالي.
كان يخاطبنا ونحن نصغي إليه وقلوبنا تخفق في أعماقنا كالعصافير.
فقد تكلم عن المجيء الثاني للإنسان، وعن فتح أبواب السماء، وعن الملائكة النازلين لحمل السلام والمسرة لجميع الناس، وعن الملائكة الصاعدين لحمل تشوقات الناس للرب الإله.
في تلك الدقيقة نظر إلى عيني وحدق إلى أعماق قلبي وقال: قد اخترتك أنت وأخاك، فيجب أن تذهبا معي. قد اشتغلتما وتعبتما وها أنا أريحكما. احملا نيري وتعلما مني؛ لأن قلبي ممتلئ بالسلام، وستجد فيه نفسكما موطنها وكمال حاجاتها.
وعندما قال هذا وقفت أنا وأخي أمامه وقلت له: يا معلم، سنتبعك إلى أقاصي الأرض، ولو كان حملنا ثقيلا كالجبال فإنا سنحمله في طريقنا إلى السماء، ونقبل كل هذا برضى وقناعة.
ثم قال له أخي أندراوس: يا معلم، نود أن نكون خيوطا بين يديك ونولك، فلك إذا شئت أن تحوك منا قماشا؛ لأننا نعلم أننا نكون في ثوب الكلي الرفعة.
فرفعت زوجتي رأسها، وقالت والدموع تملأ وجنتيها من شدة الفرح: مبارك أنت الآتي باسم الرب! طوبى للبطن الذي حملك والثدي الذي أرضعك!
كانت ابنتي جالسة عند قدميه تضمهما إلى صدرها.
أما حماتي التي كانت جالسة إلى عتبة الباب، فإنها لم تقل كلمة قط، ولكنها كانت تبكي بهدوء حتى امتلأ وشاحها من الدموع.
فمشى يسوع إليها ورفع رأسها وحدق إلى عينيها، وقال لها: أنت أم جميع هؤلاء الأصحاب، إنك تبكين الآن من الفرح؛ ولذلك سأحفظ دموعك في ذاكرتي.
حينئذ طلع البدر الجميل علينا، فنظر إليه يسوع هنيهة، وقال لنا: قد تأخرنا في سمرنا، فاذهبوا إلى فراشكم وليرافق الرب راحتكم، أما أنا فأظل في هذه المظلة حتى الفجر. قد ألقيت شبكتي في هذا اليوم فاصطدت رجلين، وأنا راض عن صيدي، فأستودعكم الآن وأرجو لكم ليلة سعيدة.
فقالت له حماتي: قد أعددنا لك فراشا في المنزل، فأتوسل إليك أن تدخل وتستريح.
فأجابها قائلا: إنني حقا أريد الراحة، ولكن ليس تحت السقوف، فاسمحوا لي أن أنام الليلة تحت مظلة الدوالي والنجوم.
فأسرعت وأخرجت الفراش والوسادة واللحاف، فنظر إليها مبتسما وقال: ها أنا أتكئ على فراش قد أعد مرتين!
حينئذ تركناه ودخلنا إلى البيت، وكانت ابنتي آخر من تركه ودخل، وكانت عيناها تنظران إليه حتى أغلقت الباب.
هكذا عرفت ربي ومعلمي لأول مرة.
ومع أنه مر على هذا أعوام عديدة فإنني أذكره كأنما حدث لي في هذا اليوم.
قيافا رئيس الكهنة
قد قتلناه بضمير نقي
يجدر بنا إذ نتكلم عن ذلك الرجل يسوع وعن موته أن نذكر حقيقتين بارزتين: سلامة التوراة في أيدينا، وسلامة المملكة في أيدي الرومانيين.
ولكن ذلك الرجل كان خطرا علينا وعلى رومة؛ فقد سمم أفكار الشعب البسيط، وقاد بسحر عجيب إلى الثورة علينا وعلى القيصر.
إن عبيدي أنفسهم، الرجال منهم والنساء، بعد أن سمعوه يخطب في ساحة المدينة، امتلئوا بروح التمرد والعصيان. وكثيرون منهم تركوا منزلي ورجعوا إلى الصحراء التي قدموا منها.
ولا تنس أيها القارئ أن التوراة هي أساس قوتنا وقبة نصرنا. وما من رجل يقدر أن يهلكنا طالما أن هذه القوة بأيدينا لنغل يده. وما من رجل يستطيع أن يخرب أورشليم وجدرانها قائمة على الحجر القديم الذي وضعه داود بيده.
فإذا كان لزرع إبراهيم أن يعيش وينمو، فإن هذه الأرض يجب أن تظل نقية.
وذلك الرجل يسوع كان يريد أن ينجسها بالمعصية؛ لذلك قتلناه بضمير نقي بصير بالعواقب، وسنقتل كل من يجرؤ أن ينجس شريعة موسى أو يضلل ميراثنا المقدس.
نحن وبيلاطس البنطي عرفنا الخطر الذي كان في ذلك الرجل؛ ولذلك رأينا من الحكمة أن نضع حدا لحياته.
وأنا باذل قصاراي لأنزل بأتباعه وبتعاليمه نفس ما أنزلته به.
إذا كانت اليهودية تود أن تعيش، فإن كل من يقاومها يجب أن يصير إلى التراب. وقبل أن تموت اليهودية سأغطي رأسي الأبيض بالرماد كما فعل صموئيل النبي، وسأمزق هذه الحلة المقدسة التي كانت لهارون، وألبس المسوح حتى أسير من هنا إلى الأبد.
يونا امرأة حافظ هيرودس
في الأولاد
لم يتزوج يسوع قط، ولكنه كان صديقا للنساء؛ فقد عرفهن كما يجب أن يعرفهن الجميع، في الصداقة النقية.
وكان يحب الأولاد كما يجب أن يحبهم الناس بالإيمان والفهم.
وكان في نور عينيه حنان الأب ومحبة الشقيق ولهفة الابن.
فهو يحمل صبيا صغيرا ويضعه على ركبتيه ويقول: بمثل هذا قوتكم وحريتكم، وبمثل هذا يتكون ملكوت الروح.
يقولون: إن يسوع لم يعبأ بشريعة موسى، وإنه كان كثير الصفح عن الزواني في أورشليم والبلاد المحيطة بها.
وأنا نفسي كنت في ذلك الوقت زانية في نظر الناس؛ لأنني أحببت رجلا لم يكن زوجا لي، وكان صدوقيا.
وفي أحد الأيام جاء الصدوقيون إلى بيتي وكان عشيقي معي، فقبضوا علي وحبسوني. أما عشيقي فهرب وتركني.
ثم قادوني إلى ساحة المدينة حيث كان يسوع يعلم الجموع.
وكانوا يرغبون في تقديمي إليه ليجربوه ويصطادوه بفخاخهم.
ولكن يسوع لم يحكم علي؛ فقد ألبس العار لمن جاءوا بي إليه ليلبسوني ثوب العار، وأوسعهم لوما وتوبيخا.
أما أنا فإنه أطلقني بسلام.
وبعد ذلك صارت جميع أثمار الحياة التي لا طعم لها لذيذة في فمي، والورود التي لا عطر لها صارت منبعا للعطر الجميل في منخري. فصرت امرأة لا تعرف الذكرى الفاسدة؛ أجل، صرت حرة، مرتفعة الرأس، كسائر بني البشر.
رفقة
عروس قانا
حدث هذا قبل أن عرفه الشعب.
كنت في بستان أمي أتعهد الورود عندما وقف يسوع أمام بوابتنا.
فقال: أنا عطشان، أتتفضلين علي بقليل من ماء بئركم؟
فركضت وأحضرت الكأس الفضية وملأتها ماء وسكبت فيها بضع نقط من قارورة الياسمين.
فشرب وارتوى وكان مسرورا.
ثم نظر في عيني، وقال لي: فلتحل عليك بركتي.
وعندما قال هذا شعرت بأن ريحا علوية تسير في جسدي، ففارقني ما تولاني من الحياء عند رؤيته، فقلت: يا سيدي، إنني مخطوبة لرجل من قانا الجليل، وسأزف إليه في اليوم الرابع من الأسبوع المقبل، أفلا تريد أن تحضر إلى عرسي فتبارك زواجي بحضورك؟
فأجاب وقال: سأحضر يا ابنتي.
وما أنسى قوله لي «يا ابنتي» في حين أنه كان شابا بعد، وأنا كنت في نحو العشرين من العمر.
ثم سار في طريقه. أما أنا فبقيت واقفة أمام بوابة البستان حتى دعتني أمي إلى البيت.
وفي اليوم الرابع من الأسبوع التالي أخذني أهلي إلى بيت عريسي وزفوني إليه.
وجاء يسوع تصحبه أمه وأخوه يعقوب.
وكانوا جالسين حول مائدة العرس مع ضيوفنا، ورفيقات صباي ينشدن لي أغاني الأعراس التي نظمها سليمان الملك. وكان يسوع يأكل من طعامنا ويشرب من خمرتنا ويتبسم لجميع الحاضرين. وكان يصغي إلى جميع أناشيد المحب الذي يحضر محبوبته إلى خيمته، وأغاني الكرام الشاب الذي أحب ابنة رب الكرم وقادها إلى بيت أمه. والأمير الذي رأى الفتاة الفقيرة فحملها إلى مملكته وتوجها بتاج آبائه.
ويلوح لي أنه كان يصغي إلى أناشيد أخرى غير هذه لم أقدر أنا أن أسمعها.
وعند غروب الشمس جاء والد العريس إلى أم يسوع وأسر إليها قائلا: لم يبق عندنا خمر لضيوفنا، ويوم العرس لم ينته بعد. فسمع يسوع ما أسر به الرجل إلى أمه وقال: إن ساقي الخمرة يعرف أنه لا يزال عندكم خمر كثير.
وهكذا كان بالحقيقة؛ فإن الخمر وجدت بكثرة طيلة إقامة الضيوف في منزلنا.
حينئذ شرع يسوع يخاطبنا، فكان يحدثنا بعجائب الأرض والسماء، ويشرح لنا عن ورود السماء التي تزهر عندما يمد الليل بساطه على الأرض، وعن ورود الأرض التي تزهر عندما تختفي الكواكب في نور النهار.
وكان يقص علينا قصصا وأمثالا، فيأخذ سحر صوته بمجامع قلوبنا، فنحدق إلى عينيه كأننا نرى رؤى سماوية متناسين الكأس والصحفة أمامنا.
وكنت أشعر وأنا أصغي إليه أنني في أرض قصية مجهولة.
وبعد هنيهة قال أحد الضيوف لوالد عريسي: قد أبقيت الخمر الجيدة إلى آخر الوليمة، وغيرك من المضيفين لا يفعلون هذا.
وجميع الذين كانوا في البيت آمنوا أن يسوع اجترح أعجوبة وأنه يجب أن تكون لهم خمرة في آخر وليمة العرس أطيب من الخمرة التي تقدم في بداءته.
أنا أيضا ظننت أن يسوع سكب الخمرة الجيدة، ولكنني لم أتعجب لأنني كنت قد أصغيت إلى كثير من العجائب في صوته.
وقد ظل صوته بعد ذلك قريبا من قلبي حتى ولدت ابني البكر.
وحتى اليوم يتحدث الناس في قريتنا وفي القرى المجاورة بكلام ضيفنا العزيز، وهم يقولون أبدا: إن روح يسوع الناصري هي أفضل خمرة وأعتقها.
فيلسوف فارسي في دمشق
الآلهة قديما وحديثا
إنني لا أقدر أن أنبئ بمصير هذا الرجل، ولا أستطيع أن أتنبأ بما سيحدث لتلاميذه.
فإن البذرة المختفية في قلب التفاحة هي شجرة غير منظورة، ولكن إذا سقطت تلك البذرة على صخرة فإنها ولا شك صائرة إلى لا شيء.
ولكنني أقول هذا: إن إله إسرائيل العتيق الأيام قاس لا يعرف الرحمة؛ ولذلك يجب أن يكون لإسرائيل إله جديد، إله لطيف رحوم ينظر إليهم باللين والشفقة، إله ينحدر مع أشعة الشمس ويسير على طريق حدودهم الضيقة، عوضا عن إلههم القديم الجالس أبدا في كرسي القضاء يزن أغلاطهم ويقيس هفواتهم.
يجب أن يكون لإسرائيل إله لا يعرف الحسد سبيلا إلى قلبه، ولا يحتفظ في ذاكرته بالكثير من سيئاتهم، إله لا ينتقم منهم بافتقاد ذنوب الآباء في الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع.
فالإنسان في سورية كأخيه الإنسان في كل مكان، فهو ينظر إلى مرآة فهمه وهنالك يجد إلهه، وهو يصنع الآلهة على صورته ومثاله، ويعبد كل ما تنعكس فيه صورته.
إلا أن الإنسان بالحقيقة يصلي إلى حنينه العميق لينهض ويكمل مجموع رغباته.
ليس في الوجود شيء أعمق من نفس الإنسان، والنفس هي العمق الذي ينشد ذاته؛ لأنه ليس ثمة صوت آخر ليتكلم ولا آذان أخرى لتسمع.
ونحن أنفسنا في بلاد فارس ننظر إلى وجوهنا في قرص الشمس ونرى أجسادنا راقصة في النار التي نشعلها على مذابحنا.
وفي عقيدتي أن إله يسوع، الذي دعاه أبا، لن يكون غريبا بين شعب هذا المعلم؛ ولذلك سيحقق رغباتهم.
إن آلهة مصر قد ألقوا عنهم أحمال الحجارة وهربوا إلى برية النوبة ليكونوا أحرارا بين الذين ما برحوا أحرارا من المعرفة.
وآلهة اليونان ورومة تسير شمسهم إلى الغروب؛ فقد كانوا كثيري الشبه بالناس؛ ولذلك لم يقدروا أن يعيشوا في تأملات الناس. والغابات التي نشأ فيها سحرهم قطعتها فئوس الأثينائيين والإسكندريين.
وفي هذه الأرض نرى الأماكن الرفيعة تتحول رفعتها إلى ضعة متشرعي بيروت ونساك إنطاكية.
فلا ترى غير الشيوخ والمتعبين من النساء والرجال يسيرون إلى هياكل آبائهم وأجدادهم، ولا ينشد بداءة الطريق إلا الذين ضلوا في آخرها.
ولكن هذا الرجل يسوع، هذا الناصري العجيب، قد تكلم عن إله يسع في ملئه جميع النفوس، وقد تعاظمت معرفته حتى سمت عن العقوبة وتسامت محبته حتى ترفعت عن ذكر خطايا خلائقه. وإله الناصري هذا سيجوز بعتبة جميع أبناء الأرض، وسيجلس إلى مواقدهم، وسيكون لهم بركة داخل جدرانهم ونورا في طريقهم.
بيد أن لي إلها هو إله زورستر، الإله الذي هو شمس في السماء، ونار على الأرض، ونور في حضن الإنسان، وأنا راض به، ولا حاجة بي إلى إله سواه.
داود أحد أتباعه
يسوع العملي
إنني لم أعرف معنى خطبه وأمثاله حتى فارقنا. نعم أنا لم أفهم شيئا من أقواله حتى اتخذت كلماته أشكالا حية أمام عيني وكونت ذواتها بأجساد تمشي في مواكب أيامي.
وإليكم ما حدث لي: كنت في إحدى الليالي جالسا في بيتي أتأمل وأتذكر كلماته وأعماله لأدونها في كتاب، فدخل ثلاثة لصوص في بيتي، ومع أنني عرفت أنهم جاءوا ليسرقوا ما عندي فإنني كنت مأخوذا بالإيمان بما كنت أفكر فيه إلى هذه الدرجة حتى إنني لم أقاومهم بالسيف، ولا سألتهم ماذا تفعلون ها هنا!
ولكني واظبت على كتابة مذكراتي عن المعلم.
وعندما انصرف اللصوص ذكرت قوله: من طلب رداءك فأعطه الثوب أيضا، وفهمت معناه.
وعندما جلست أدون أقواله لم يكن في الأرض رجل يستطيع أن يحولني عن عملي ولو سرق كل مقتنياتي.
لأنني مع شدة حرصي على مقتنياتي، واهتمامي بحماية ذاتي، فإني أعرف أين أجد هذا الكنز الأعظم.
لوقا
في المرائين
قد احتقر يسوع المرائين، وبالغ في تعنيفهم، وكان غضبه ينقض عليهم انقضاض الصاعقة، وكان صوته رعدا في آذانهم ترتعش لهوله قلوبهم.
وقد طلبوا موته لشدة خوفهم منه. وكانوا كالمناجذ في ظلمة الأرض، يعملون على هلاك خطواته، ولكنه لم يسقط في فخاخهم.
فكان يضحك منهم؛ لأنه عرف جيدا أن الروح يجب ألا يهزأ بهم، وألا يسار بهم إلى الحفرة.
وكان يمسك مرآة بيده، وهنالك يرى الكسالى والعرج والعابرين والساقطين في جوانب الطريق وهم يسيرون إلى القنة.
فأشفق على الجميع، ورغب في أن يرفعهم إلى ملء قامته ويحمل أثقالهم. أجل، فقد تمنى كثيرا لو يتكئ ضعفاؤهم على ذراع قوته.
لم يكن شديد الوطأة في حكمه على الكذاب أو اللص أو القاتل، ولكنه قضى قضاء مبرما على المرائين الذين يبرقعون وجوههم ويغطون أيديهم.
كثيرا ما وقفت مفكرا في ذلك القلب الذي كان يقتبل جميع القادمين من صحراء الحياة إلى مقدسه العظيم فيهبهم راحة وملجأ، ولم يغلق بابه إلا في وجه المرائين فقط.
حدث مرة فيما نحن جالسون معه في بستان الرمان أنني قلت له: يا معلم، أنت تصفح عن الخطأة، وتعزي جميع الضعفاء والسقماء، ولا ترفض إلا المرائين.
فقال لي: قد وضعت كلماتك في مواضعها عندما دعوت الخطأة ضعفاء وسقماء. نعم أنا أصفح عن ضعف أجسادهم وسقم أرواحهم؛ لأن قصورهم عن القيام بواجبهم قد وضع حملا على أكتافهم إما من آبائهم أو من جيرانهم.
غير أنني لا أحتمل المرائين؛ لأنهم يضعون النير الثقيل على رقاب المخلصين والطائعين.
أما الضعفاء الذين تسميهم خطأة، فهم كالفراخ التي لا ريش لها الساقطة من العش، ولكن المرائي نسر جالس على صخرة يتوقع فريسة بريئة لينقض عليها.
الضعفاء هم رجال ونساء ضائعون في الصحراء، ولكن المرائي غير ضائع، فهو يعرف الطريق ولكنه يضحك بين الرمال والرياح.
لأجل هذا لا أقبل المرائين في شركتي.
هكذا تكلم معلمنا، فلم أفهم معنى كلامه في ذلك الوقت ولكنني أفهم اليوم.
لذلك اجتمع المراءون في البلاد، وألقوا القبض عليه، وحكموا بقتله، ظانين أنهم مبررون بعدائه لهم. وكانوا يقربون شريعة موسى في مجمع اليهود شهادة وبينة ضده.
إن الذين يكسرون الشريعة عند بزوغ كل فجر، ثم يكسرونها ثانية عند غروب كل شمس هم الذين عملوا على موته.
متى
العظة على الجبل
في أحد أيام الحصاد دعانا يسوع وفريقا من أصدقائه الآخرين إلى التلال، وكانت الأرض تفوح بعطرها وقد تزينت بأبهى حلاها كأنها ابنة ملك عظيم في يوم زفافها. وكانت السماء عروسا لها.
وعندما وصل إلى الأعالي وقف في غابة الغار والهدوء يجلل طلعته البهية، وقال: استريحوا هنا وافتحوا نوافذ أفكاركم، ودوزنوا أوتار قلوبكم لأن لدي كثيرا أقوله لكم.
فاتكأنا على بساط العشب تحيط بنا ورود الصيف، وجلس يسوع في وسطنا.
فقال يسوع:
طوبى للرصينين بالروح.
طوبى لمن لا تقيدهم مقتنياتهم؛ لأنهم سيكونون أحرارا.
طوبى لمن يتذكرون آلامهم، وفي آلامهم يرقبون أفراحهم.
طوبى للجياع للحق والجمال؛ لأن مجاعتهم ستحمل لهم خبزا وعطشهم ماء عذبا.
طوبى للرءوفين؛ لأنهم سيتعزون بلطفهم ورأفتهم.
طوبى لأنقياء القلب؛ لأنهم سيكونون واحدا مع الله.
طوبى للرحماء؛ لأن الرحمة ستكون في نصيبهم.
طوبى لصانعي السلام؛ لأن أرواحهم ستقطن فوق المعركة وسيحولون حقول الخزاف إلى جنة غناء.
طوبى للمطاردين؛ لأن أقدامهم ستكون سريعة وسيكونون مجنحين.
افرحوا وابتهجوا؛ لأنكم قد وجدتم ملكوت السماوات في أعماقكم. إن مرنمي القدماء قد اضطهدوا عندما تغنوا بذلك الملكوت، وأنتم أيضا ستضطهدون، وفي هذا شرفكم وفيه أجركم.
أنتم ملح الأرض، فإذا فسد الملح فبماذا يصلح الطعام لقلب الإنسان؟
أنتم نور العالم، فلا تضعوا هذا النور تحت المكيال، بل فليشرق نوركم من الأعالي لجميع الذين ينشدون مدينة الله.
لا تظنوا أني جئت لأبطل شرائع الكتبة والفريسيين؛ لأن أيامي بينكم معدودة وكلماتي محدودة، وليس لدي سوى بضع ساعات سأكمل فيها شريعة ثانية وأوضح عهدا جديدا.
قد قيل لكم ألا تقتلوا. أما أنا فأقول لكم لا تغضبوا لغير سبب.
قد قضى عليكم القدماء أن تحملوا عجولكم وحملانكم وحمامكم إلى الهيكل، وأن تذبحوها على المذبح، لتتغذى مشام الرب برائحة دهنها، وتغفر بذلك زلاتكم.
أما أنا فأقول لكم: هل تقدرون أن تعطوا الرب ما كان له منذ البدء، أم هل تسكنون غضبه، وعرشه يسمو على الأعماق الصامتة، وهو يحوط الفضاء بذراعيه؟
فتشوا بالأحرى عن أخيكم وتصالحوا معه قبل أن تجيئوا إلى الهيكل، وأعطوا جاركم بمحبة مما عندكم؛ لأنه في نفس هؤلاء قد بنى الله هيكلا لن يخرب، وفي قلبهم قد أقام مذبحا لن ينقض.
قيل لكم: عين بعين وسن بسن. أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر؛ لأن المقاومة تغذي الشر وتزيده قوة، ولا ينتقم لنفسه غير الضعيف. أما الأقوياء بالروح فإنهم يسامحون، ولمن تقع عليه الأذية شرف سام بصفحه وسماحه.
الشجرة المثمرة وحدها يهزها الناس ويضربونها بالحجارة.
لا تهتموا بالغد، بل تأملوا باليوم لأنه يكفي اليوم أعجوبته.
لا تبالغوا في الاعتداد بأنفسكم عندما تعطون مما هو لكم، وانظروا بالأولى إلى حاجة من تعطون؛ لأن كل من يعطي غيره من المحتاجين يعطيه الأب نفسه بأوفر غزارة.
أعطوا كل محتاج حسب حاجته؛ لأن الأب لا يعطي ملحا للعطشان، ولا حجرا للجائع، ولا حليبا للمفطوم.
ولا تعطوا القدسات للكلاب، ولا تطرحوا درركم للخنازير؛ لأنكم بهذه العطايا تهزءون بها، وهي أيضا ستهزأ بعطاياكم، وقد يحملها بغضها إلى إهلاككم.
لا تكنزوا لكم كنوزا تفسد أو يسرقها اللصوص، بل اكنزوا لكم كنوزا لا تفسد ولا تسرق، ولكنها تزداد جمالا كلما ازدادت العيون الناظرة إليها؛ لأنه حيث يكون كنزك فهنالك قلبك أيضا.
قد قيل لكم: إن القاتل يجب أن يسلم للسيف، وإن اللص يجب أن يصلب، والزانية يجب أن ترجم. أما أنا فأقول لكم إنكم لستم أبرياء من جريمة القاتل واللص والزانية، وإذا حل العقاب بأجسادهم فإن أرواحكم تظلم في أعماقكم.
بالحقيقة إنه ما من جريمة يرتكبها رجل فرد أو امرأة وحدها. إن جميع الجرائم يشترك الجميع في ارتكابها. أما الذي يدفع الجزاء فإنه يقطع حلقة من السلسلة المعلقة حول كعابكم. وقد يكون يدفع بكآبته ثمن أفراحكم الزائلة.
هكذا تكلم يسوع، وقد رغبت في السجود أمامه احتراما وإجلالا، ولكن خجلي من ذاتي الحقيرة كان يمسك بي، فلم أقدر أن أتحرك من مكاني ولا أن أتلفظ بكلمة واحدة.
بيد أنني تشجعت أخيرا وقلت له: إنني أود أن أصلي في هذه الدقيقة، ولكن لساني ثقيل، فعلمني كيف أصلي.
فقال يسوع: إذا صليتم، فلينطق حنينكم بكلمات الصلاة، وفي أعماقي الآن حنين يود أن يصلي هكذا:
أبانا الذي في الأرض والسماوات، ليتقدس اسمك.
لتكن مشيئتك معنا كما هي في الفضاء.
أعطنا من خبزك كفاية ليومنا.
برأفتك اصفح عنا، ووسع مداركنا لنصفح بعضنا عن بعض.
سر بنا إليك، ومد يدك إلينا في الظلمة.
لأن لك الملك، وبك قوتنا وكمالنا.
وكان المساء، فنزل بنا يسوع من التلال ونحن نتبعه جميعا. أما أنا فكنت أتبعه وأنا أردد صلاته، متذكرا جميع أقواله؛ لأنني عرفت أن الكلمات التي تساقطت في ذلك اليوم قطع الثلج يجب أن تستقر وتتحجر كالبلور، وأن الأجنحة التي كانت تخفق فوق رءوسنا يجب أن تضرب الأرض كالحوافر الحديدية.
يوحنا بن زبدي
في أسماء يسوع المختلفة
قد أشرتم إلى أن فريقا منا يدعون يسوع «بالمسيح»، وغيرهم «الكلمة»، وآخرون يسمونه «الناصري»، وغيرهم «ابن الإنسان».
وها أنا آت لأوضح لكم معاني هذه الأسماء كما أعطي لي أن أفهمها.
فالمسيح، الذي كان في قديم الزمان، هو شعلة الألوهية التي تقيم في روح الإنسان، هو نسمة الحياة التي تزورنا، وتتخذ جسدا كأجسادنا.
هو مشيئة الله.
هو الكلمة الأولى التي تتكلم بأصواتنا وتقطن في آذاننا لنفهم ونعلم. وكلمة الرب إلهنا قد بنت بيتا من اللحم والعظم وصارت إنسانا مثلك ومثلي.
لأننا لم نقدر أن نسمع أنشودة الريح التي لا جسد لها، ولم نر ذاتنا العظمى سائرة في الضباب.
مرارا كثيرة جاء المسيح إلى العالم، وقد مشى في بلاد كثيرة، بيد أنه حسب غريبا بين الناس ومجنونا أبدا.
ولكن صدى صوته لم يذهب عبثا؛ لأن ذاكرة الإنسان كثيرا ما تحتفظ بما لا يعبأ له فكره ليحتفظ به.
هذا هو المسيح، أبعد أعماقنا وأرفع أعالينا، الذي يرافق الإنسان إلى الأبدية.
ألم تسمعوا به على مفارق الطرق في الهند، وفي أرض المجوس، وعلى رمال مصر؟
وهنا في بلادكم الشمالية قد تغنى شعراؤكم القدماء ببروميثيوس حامل النار، الذي تحققت فيه رغبات الإنسان، وتحطمت به قضبان القفص الذي قيد رجاء الناس فأطلق وصار حرا، وبأورفيوس الذي تجسد مع الصوت والقيثارة لينعش الروح في الحيوان والإنسان.
أولا تعرفون شيئا عن سيصر الملك، وزوروستر النبي الفارس، اللذين استيقظا من نوم الإنسان القديم ووقفا على فراش أحلامنا؟
إلا أننا نحن أنفسنا نصير مسحاء عندما نجتمع في الهيكل غير المنظور، في ألف سنة، حينئذ يخرج أحدنا متجسدا.
بيد أن آذاننا لا تتحول دائما للسماع، ولا عيوننا للنظر.
قد ولد يسوع الناصري ونشأ مثلنا، وكان أبوه وأمه كوالدينا، وكان هو إنسانا مثلنا.
ولكن المسيح «الكلمة» الذي كان في البدء الروح التي ترجو لنا أن نحيا حياة كاملة، كل هذا قد جاء إلى يسوع واتحد معه.
فالروح كانت يد الرب الشعرية، ويسوع كان قيثارة لها. الروح كانت مزمورا، ويسوع كان لحنا له.
ويسوع رجل الناصرة، كان المضيف والممثل للمسيح، الذي مشى معنا في الشمس ودعانا أصدقاءه.
إن تلال الجليل وأوديته لم تسمع في تلك الأيام سوى صوته، وعلى رغم حداثتي في ذلك العهد كنت أسير في طريقه وأقتفي خطواته.
أجل، قد اقتفيت خطواته وسرت في طريقه لأسمع كلمات المسيح من شفتي يسوع الجليلي.
إنكم تودون بلا شك أن تعلموا لماذا يدعوه فريق منا ابن الإنسان.
فهو نفسه قد رغب في أن نسميه بهذا الاسم؛ لأنه عرف مجاعة الإنسان وعطشه، ورأى الإنسان يفتش عن ذاته العظمى.
إن ابن الإنسان هو المسيح الرءوف الذي يريد أن يكون مع الجميع.
هو يسوع النذير الذي يرغب في قيادة جميع إخوته إلى المختار الحبيب الذي مسحه الله بزيت قدسه، هو الكلمة التي كان في البدء مع الله.
إن يسوع الجليلي مقيم في قلبي، وهو الإنسان المتسامي على الناس، والشاعر الذي يصنع الشعراء من جميعنا، بل هو الروح التي تقرع على أبواب أرواحنا لنستيقظ وننهض ونخرج لملاقاة الحقيقة العارية الواثقة بنفسها.
كاهن شاب في كفرناحوم
يسوع الساحر
كان ساحرا ملتويا معوجا، وعرافا يضلل البسطاء بسحره وتعزيمه، وكان يشعوذ بكلمات أنبيائنا ومقادس أجدادنا.
وكان يطلب شهوده حتى من الأموات، ويتخذ سلطانه وأعوانه من القبور الصامتة.
وكان يفتش عن نساء أورشليم وبنات المزارع بدهاء العناكب التي تفتش عن الذباب، وكان يصطادهن بفخاخه.
لأن النساء ضعيفات فارغات الرءوس، وهن يتبعن الرجل الذي تطمئن إلى كلماته العذبة أهواؤهن الباقية. ولولا هؤلاء النساء، السقيمات العقول، والمأخوذات بروحه الشريرة، لكان اسمه قد انمحى من ذاكرة الإنسان.
ومن هم الرجال الذين تبعوه؟
كانوا من الطبقة المكدونة والمدوسة بالأقدام، ولم يخطر لهم قط أن يثوروا على أسيادهم وهم على ما كانوا عليه من الجهل والخوف. ولكنه عندما وعدهم بالمراكز العالية في ملكوت سرابه استسلموا لأوهامه كما يستسلم الطين للخزاف.
أولا تعلمون أن العبد لا يرى غير السيادة في أحلامه، والضعيف الخامل لا يرى نفسه إلا أسدا؟
فالجليلي كان مشعوذا خداعا، وقد صفح عن خطايا جميع الخطاة ليسمع التهليل والهتاف «باوصنا» من أفواههم القذرة. وقد أطعم قلوب اليائسين والبؤساء ليكون له آذان كافية لسماع صوته وجيش يأتمر بأوامره.
وقد كسر السبت مع الذين يكسرونه ليكسب معاضدة الخارجين على الشريعة، وتكلم بالسوء على رؤساء كهنتنا ليلفت أنظار المجلس الأعلى إليه، ويزيد في شهرته عن طريق المعارضة.
طالما صرحت بأنني أبغض ذلك الرجل، نعم أبغضه أكثر من بغضي للرومانيين الذين يحكمون بلادنا. حتى إن مجيئه كان من الناصرة، وهي القرية التي لعنها أنبياؤنا، فصارت مزبلة للأمم، ولا يمكن أن يخرج منها شيء صالح.
لاوي غني بجوار الناصرة
يسوع النجار الماهر
كان نجارا ماهرا، فالأبواب التي صنعها لم يستطع لص أن يخلعها، والنوافذ التي عملها كانت حاضرة أبدا لتنفتح للريح الشرقية والغربية.
كان يصنع الصناديق من خشب الأرز فتأتي صقيلة متينة، والمحاريث والسفافيد من السنديان، فتجيء قوية سهلة الانقياد في يد الفلاح.
كان يحفر المقارئ (جمع مقرأ) لمجامعنا من خشب التوت الذهبي، وعلى جانبي الخشبتين اللتين يوضع عليهما الكتاب المقدس كان يضع جناحين منبسطين، وتحتهما رءوس ثيران وحمام وغزلان ذات عيون كبيرة.
كل هذا كان يتحدى في صنعه طريقة الكلدانيين واليونان، ولكن كان في فنه شيء لم يكن لا كلدانيا ولا يونانيا.
قد اشتغلت في بناء بيتي هذا أيد كثيرة منذ ثلاثين سنة؛ لأني فتشت عن البنائين والنجارين في جميع قرى الجليل، وكانت لكل منهم مهارة البناء وفنه، وكنت راضيا قانعا بكل ما صنعوه لي.
ولكن، هلم وانظر هذين البابين وتلك النافذة التي صنعها يسوع الناصري، فهي بدقة صنعها وثباتها تهزأ بكل ما في بيتي.
أفلا ترى أن هذين البابين يختلفان عن جميع الأبواب التي في البيت؟ وهذه النافذة المفتوحة للشرق، ألا تختلف عن بقية النوافذ؟
إن جميع أبوابي ونوافذي تستسلم لشريعة السنين، ما خلا هذه التي عملها هو، فهي وحدها ثابتة أمام عناصر الطبيعة.
تأمل هذه العوارض المتقاطعة، كيف وضع إحداها فوق الأخرى، وهذه المسامير كيف أنزلت من الوجه الواحد في العارضة فخرجت من الوجه الثاني، وهنالك لويت بدقة حتى لا تتزحزح من موضعها.
والعجيب الغريب في هذه القضية أن ذلك العامل الذي كان يستحق أجرة رجلين لم يقبض إلا أجرة رجل واحد فقط، وذلك العامل نفسه هو في عقيدة البعض نبي في بني إسرائيل.
فلو عرفت في ذلك الحين أن هذا الشاب الحامل المنشار والفأرة هو نبي لكنت طلبت إليه أن يتكلم عوضا عن أن يشتغل، ولكنت دفعت له الأجرة مضاعفة على كلماته.
وحتى الساعة لا يزال عمال كثيرون يشتغلون في بيتي وحقولي، ولكن كيف أقدر أن أميز بين الرجل الذي يده على محراثه والرجل الذي يد الله على يده؟
نعم، كيف أستطيع أن أعرف يد الله؟
راع في جنوب لبنان
مثل
رأيته لأول مرة في آخر الصيف يمشي على تلك الطريق مع ثلاثة رجال من رفاقه، وكان الوقت عند المساء، فوقف هنالك يتأمل الطريق في آخر المرج.
أما أنا فكنت أنفخ في مزماري، وقطيعي يرعى حوالي.
وعندما وقفت نهضت وسرت إليه ووقفت أمامه.
فسألني قائلا: أين قبر أليشع؟ أليس قريبا من هذا المكان؟
فأجبته: هو هناك يا سيدي، تحت تلك الرجمة. وما برح عابرو الطريق حتى اليوم يحمل كل منهم حجرا ويضعه في هذه التلة.
فشكرني وسار في طريقه ورفقاؤه يسيرون وراءه.
وبعد ثلاثة أيام قال لي غملائيل الذي كان راعيا مثلي: إن الرجل الذي مر بك هو نبي في اليهودية، ولكنني لم أصدقه، بيد أن ذكرى ذلك الرجل لم تفارق ذاكرتي. وعندما جاء الربيع مر يسوع بهذا المرج ثانية، وكان في هذه المرة وحده.
أما أنا فلم أكن أنفخ في مزماري في ذلك اليوم؛ لأنني كنت قد أضعت خروفا وكنت حزينا تملأ غيوم الكآبة سماء قلبي.
وعندما رأيته مشيت ووقفت أمامه صامتا؛ لأني أردت أن أتعزى. فنظر إلي وقال: أنت لا تنفخ في مزمارك اليوم، فمن أين جاءت الكآبة في عينيك؟
فأجبته: قد ضاع خروف من خرافي، وقد فتشت عنه في كل مكان فلم أجده ولا أعلم ماذا أعمل.
فسكت هنيهة ثم نظر إلي مبتسما وقال: انتظرني هنا ريثما أجد لك خروفك. وسار في طريقه حتى اختفى بين التلال.
وبعد ساعة من الزمان رجع، وخروفي يمشي إلى جانبه، وفيما هو واقف أمامي كان الخروف ينظر إلى وجهه كما نظرت أنا.
فأقبلت على الخروف أضمه إلى صدري بفرح عظيم.
فوضع يده على كتفي وقال: إنك منذ اليوم ستحب هذا الخروف أكثر من جميع الخراف في قطيعك؛ لأنه كان ضالا فوجد.
ثم ضممت خروفي ثانية إلى صدري بفرح عظيم، وكان الخروف يدنو مني وأنا صامت لا أنبس ببنت شفة.
وعندما رفعت رأسي لأشكر يسوع رأيته بعيدا عني، فلم أجسر على أن أتبعه.
يوحنا المعمدان
لواحد من تلاميذه
إنني لست صامتا في هذا السجن المظلم في حين أن صوت يسوع يتعالى في ساحة الحرب، ولا يقدر أحد أن يلقي علي يدا أو يقيد حريتي طالما أنه هو حر.
يقولون لي إن الأفاعي تنساب حول حقويه، ولكنني أجيب أن الأفاعي ستوقظ قوته ليسحقها بقدميه.
إنني لست سوى رعد في برقه. ومع أنني تكلمت أولا فإن الكلمة التي نطقت بها هي كلمته، والغاية التي سعيت إليها هي غايته.
قد قبضوا علي بدون إنذار، ولعلهم يلقون أيديهم عليه أيضا ولكنهم لن يفعلوا ذلك قبل أن يتلفظ بكل أقواله، وسيغلبهم.
ستمر عربته فوقهم، وستدوسهم حوافر خيوله، وسيكون منتصرا. سيخرجون إليه بسيوف وحراب، ولكنه سيجابههم بقوة الروح.
سيجري دمه على الأرض، ولكن قاتليه أنفسهم سيعرفون جراحه وآلامها، وسيتعمدون بدموعهم حتى يتطهروا من خطاياهم.
إن جيوشهم ستهجم على مدنه بالمجانق الحديدية، ولكنهم سيغرقون في طريقهم في نهر الأردن.
أما أسواره وأبراجه فستزداد ارتفاعا، ودروع محاربيه سيتضاعف بريقها في أشعة الشمس.
يقولون إنني متواطئ معه لنحض الشعب على النهوض للثورة ضد مملكة اليهودية.
وها أنا أجيب. ويا ليت لي نيرانا أصوغ منها كلماتي: إذا كانوا يحسبون بؤرة الإثم هذه مملكة، إذا فلتخرب ولتصر إلى لا شيء، وليحل بها ما حل بصادوم وعمورة، ولينس الرب هذا الجنس، ولتتحول هذه الأرض إلى رماد.
نعم أنا حليف يسوع الناصري وراء هذه الجدران الغليظة في سجني، وهو سيقود جيوشي بما فيها من الفرسان والمشاة. وأنا نفسي، وإن كنت قائدا في معسكر الرب، فإنني لست أهلا لأن أحل سيور حذائه.
اذهبوا إليه، وأعيدوا كلماتي على مسمعيه، واطلبوا إليه باسمي أن يعزيكم ويبارككم.
إنني لن أقيم طويلا في هذا المكان؛ لأنني في كل ليلة بين اليقظة واليقظة أشعر بأقدام بطيئة تدوس على الجسد بخطوات متناسقة، وعندما أصغي جيدا أسمع قطرات المطر تتساقط على جسدي.
اذهبوا إلى يسوع وقولوا له: يوحنا الكدورني الذي تمتلئ نفسه من الأشباح ثم يفرغها ثانية، يصلي من أجلك، في حين أن حفار القبور يقف قريبا منه، والسياف يمد يده لقبض أجرته.
يوسف الذي من الرامة
المطالب الأولية ليسوع
تودون أن تعرفوا المطلب الأول ليسوع، وها أنا بفرح أخبركم، ولكن ما من رجل يستطيع أن يلامس بأصابعه حياة الكرمة المباركة، أو ينظر بعينيه العصارة المقدسة التي تغذي أغصانها.
ومع أنني تذوقت عنب هذه الكرمة، وشربت الخمرة الجديدة من المعصرة، فأنا عاجز عن أن أخبركم بكل شيء.
ولكنني أقدر أن أحدثكم بما أعرفه عنه: إن معلمنا وحبيبنا لم يعش سوى ثلاثة فصول من فصول الأنبياء، وأنا أعني ربيع إنشاده، وصيف وجده، وخريف آلامه، وكل فصل من هذه الفصول كان عبارة عن ألف سنة.
فربيع إنشاده قضاه مترنما في الجليل، فهنالك كان يجمع محبيه حواليه، وعلى شواطئ البحيرة الخضراء تكلم أولا عن الأب، وعن العتق والحرية.
على بحيرة الجليل خسرنا أنفسنا لنجد طريقنا إلى الأب. أواه، ما أتفه ما خسرنا بالنسبة إلى ما ربحنا!
هنالك ترنم الملائكة في آذاننا وأمرونا أن نهجر الأرض المجدبة لنحظى بفردوس رغبات القلب.
هنالك كان يتكلم عن الحقول والمراعي الخضراء وعن منحدرات لبنان حيث تختبئ الزنابق الخضراء لكيلا تفطن لها القوافل المارة في غبار الوادي.
وهنالك كان يخاطبنا عن العوسج البري الذي يبتسم في الشمس ويقرب بخوره للريح المجتازة به.
وكان يقول: إن الزنابق والعوسج تعيش يوما واحدا، ولكن ذلك اليوم هو الأبدية التي تقضى بالحرية.
وفي أحد الأمساء، وقد جلسنا إلى حافة جدول صغير، قال لنا: انظروا إلى الجدول وأصغوا إلى موسيقاه، فهو ينشد أبدا. ومع أنه ينشد البحر أبدا فهو يترنم بأسراره من الظهيرة إلى الظهيرة.
أود لو أنكم تنشدون الأب كما ينشد هذا الجدول بحره.
ثم جاء صيف وجده، وبلغت إلينا حرارة محبته، فحصر كل كلامه بالآخرين، بالجار وعابر السبيل والغريب ورفقاء الصبوة.
فخاطبنا عن السائح المسافر من الشرق إلى مصر، والفلاح الراجع بثيرانه إلى بيته عند المساء، وضيف الساعة الذي يقوده أغلس الظلام إلى بابنا.
وكان يقول: إن جاركم هو ذاتكم غير المعروفة، تتجسد أمامكم لتصير منظورة. فمياهكم الهادئة ستعكس لكم وجهه، وإذا تأملتم بها جيدا فأنتم ولا شك ستنظرون وجوهكم.
وإذا أصغيتم في سكينة الليل فإنكم ستسمعونه متكلما وسيكون خفقان قلوبكم في كلماته.
فاعملوا به نفس ما تودون أن يعمله هو بكم.
هذه هي شريعتي، وأنا أقولها لكم ولأولادكم، وهم يقولونها لأولادهم حتى تنفق كنوز الزمان وتضمحل خزائن الأجيال.
وفي يوم ثان قال لنا: لا تكن وحدك في حياتك لأنك تعيش في أعمال الآخرين، وهم إن جهلوا يعيشون معك سحابة أيامك.
إنهم لا يقترفون جريمة من غير أن تكون يدك مع أيديهم.
وهم لا يسقطون من غير أن تسقط معهم، ولا ينهضون إلا وأنت تنهض معهم.
إن طريقهم إلى المقدس هي طريقك، وإذا نشزوا إلى قفر السقوط فأنت أيضا ناشز معهم.
أنت وقريبك بزرتان مزروعتان في حقل واحد. وأنتما تنموان معا وتتموجان معا أمام الريح، ولكن لا يستطيع أحدكما أن يدعي ملكية الحقل؛ لأن البزرة السائرة إلى النماء لا تقدر أن تدعي حتى ولا ملكية وجدها وافتتانها.
اليوم أنا معكم ، ولكنني غدا أمضي إلى الغرب، غير أنني قبل أن أمضي أقول لكم: إن جاركم هو ذاتكم غير المعروفة، تتجسد أمامكم لتصير منظورة. فانشدوه بمحبة لتعرفوا أنفسكم؛ لأنكم بهذه المعرفة فقط تستطيعون أن تكونوا إخوة لي.
ثم جاء خريف آلامه.
فخاطبنا عن الحرية، كما كان يخاطبنا في الجليل في ربيع إنشاده، ولكن كلماته في هذه المرة كانت تنشد أعمق أعماق فهمنا.
فكان يتكلم عن الأوراق التي لا تنشد أناشيدها إلا إذا حركتها الرياح. وعن الإنسان مشبها إياه بكأس يملأها ملاك الخدمة اليوم لتبرد عطش ملاك آخر. ومع ذلك فسواء كانت هذه الكأس ممتلئة أو فارغة فإنها تظل لامعة ببلورها على مائدة العلي القدير.
ومن أقواله: أنتم الكأس وأنتم الخمرة. فاشربوا من خمرة أنفسكم حتى الثمالة، أو تذكروني فتروى غلة عطشكم.
وفي طريقنا إلى الجنوب قال لنا: إن أورشليم، الجالسة بكبرياء على قنة مجدها، ستنحدر إلى أعماق جهنم الوادي المظلم، وفي وسط خرابها سأقف وحيدا.
وسيتحول الهيكل إلى غبار ورماد، وحول أروقته ستسمعون صراخ الأرامل والأيتام، والناس في عجلتهم للهرب سيتعامون عن رؤية وجوه إخوتهم؛ لأن الخوف سيشملهم جميعا.
ولكن حتى في ذلك الوقت، إذا اجتمع اثنان منكم وتلفظا باسمي ونظرا إلى الغرب، فإنكم تبصرونني فتتراجع أصداء كلماتي هذه إلى آذانكم.
وعندما وصلنا إلى تلة بيت عنيا قال: لنمض إلى أورشليم، فإن المدينة تنتظرنا، سأدخل البوابة راكبا على جحش، وسأخاطب الجموع.
إن الراغبين في تقييدي كثيرون، وأكثر منهم النافخون في النار ليحرقوني، ولكنكم بموتي ستجدون حياة وستكونون أحرارا.
إنهم يطلبون نسمة الحياة الحائمة بين القلب والفكر كما يحوم الخطاف بين الحقل وعشه، ولكن نسمة حياتي قد هربت منهم ولذلك لن يغلبوني.
إن الأسوار التي بناها الأب حولي لن تسقط، والأرض التي قدسها في كياني لن تتنجس.
فإذا جاء الفجر فإن الشمس ستتوج رأسي فأجتمع بكم لمجابهة النهار، وذلك النهار سيكون طويلا ولن يرى العالم مساءه.
يقول الكتبة والفريسيون إن الأرض متعطشة لدمي، ويسرني أن أبرد عطش الأرض بدمي، ولكن نقط هذا الدم ستنهض بأغصان السنديان والقيقب، وستحمل الرياح الشرقية بلوطها إلى جميع البلدان.
ثم قال أيضا: إن اليهودية تريد ملكا لتهجم على جيوش رومة.
إنني لا أريد أن أكون ملكا لها؛ لأن تيجان صهيون قد صنعت للجباه الصغيرة، وخاتم سليمان صغير على هذه الأصبع. تأملوا يدي، ألا ترون أنها أقوى من أن تحمل صولجانا، وأقدر من أن تمتشق حساما؟
ألا إنني لا أريد أن أثير السوري ضد الروماني. ولكن أنتم بكلماتي ستوقظون المدينة الغافلة، فتخاطبها روحي في فجرها الثاني.
إن كلماتي ستؤلف جيشا لا تراه العيون، حافلا بالخيول والعربات، وبغير فأس ولا حربة سأغلب كهنة أورشليم، وأنتصر على القياصرة.
إنني لا أجلس على عرش قد جلس عليه العبيد ليحكموا غيرهم من العبيد. كلا، ولا أريد أن أثور على أبناء إيطاليا.
ولكنني سأكون عاصفة في سمائهم، وأنشودة في نفسهم.
وسيذكرني الجميع، سيدعوني الجميع يسوع الممسوح.
جميع هذه الأقوال قالها يسوع خارج أسوار أورشليم قبل أن يدخل المدينة.
وقد انطبعت كلماته على صفحات القلوب كأنما حفرت بالأزاميل.
نثنائيل
لم يكن يسوع وديعا
يقولون إن يسوع الناصري كان وضيعا وديعا.
ويقولون إنه كان رجلا بارا عادلا، ولكنه كان ضعيفا، وإنه كثيرا ما كان يتحير وينذهل أمام الأقوياء والأشداء، وأنه عندما كان يقف أمام ذوي السلطان لم يكن سوى حمل أمام سباع.
أما أنا فأقول: إن يسوع كان له سلطان فوق جميع الناس، وإنه عرف قوته وأعلنها بين تلال الجليل، وفي مدن اليهودية وفينيقية.
فأي رجل ضعيف مستسلم يقول: أنا الحياة، وأنا طريق الحق؟ وأي رجل وديع وحقير يجرؤ أن يقول: أنا في الله أبينا وإلهنا الأب في؟
وأي رجل لا يعرف قوته يقول: إن من لا يؤمن بهذه الحياة ولا بالحياة الأبدية؟
وأي رجل لا يثق بالغد ويقدر أن يصرح بمثل هذا الإعلان: إن عالمكم سيزول ويتحول إلى رماد تذريه الريح قبل أن تزول كلمة من كلماتي؟
أم هل شك في قوته عندما قال للذين حملوا الزانية إليه ليجربوه: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر؟
وهل خاف ذوي السلطان عندما طرد الصيارفة من ساحة الهيكل مع أنهم كانوا من الكهنة؟
وهل كان مقصوص الجناحين عندما صرخ قائلا: إن مملكتي فوق ممالككم الأرضية؟ أم هل كان يختبئ بالألفاظ عندما قال المرة بعد المرة: انقضوا هذا الهيكل وأنا أعيد بناءه بثلاثة أيام؟
وهل يستطيع الجبان أن يهز يمينه في وجه ذوي السلطان فيدعوهم: كذبة أدنياء وقذرين منجسين؟
إن رجلا كانت له الجرأة على قول مثل هذا لأسياد اليهودية لا يمكن أن يكون وديعا، إلا أن النسر لا يبني عشه في الصفصاف الباكي، والسبع لا يفتش عن عرينه بين الأدغال.
قد سئمت والتهبت أحشائي من قول ضعفاء القلوب، إن يسوع كان وضيعا وديعا ليبرروا ضعتهم، وصغارة قلوبهم، وخصوصا عندما أسمع المدوسين بالأقدام ينشدون تعزيتهم بوضع المعلم في صفوفهم.
نعم، قد ضجر قلبي من أمثال هؤلاء، فأنا أبشر بصياد قدير وروح جبلية لا تعرف الغلبة.
سابا الأنطاكي
يصف شاوول الطرسوسي
سمعت في هذا اليوم شاوول الطرسوسي يبشر بالمسيح لليهود في هذه المدينة.
فهو يسمي نفسه بولس الآن، رسول الأمم.
قد عرفت هذا الرجل في حداثتي، وكان في تلك الأيام يضطهد أصدقاء الناصري، وأنا ما زلت أذكر جيدا مسرته ورضاه إذ كان يتأمل أصحابه وهم يرجمون الشاب النوراني إستفانوس.
إن بولس هذا رجل عجيب غريب، إن نفسه ليس بنفس الرجل الحر، فهو كثيرا ما يبدو كالحيوان في الغابة، طارده الصيادون وجرحوه فجاء ينشد كهفا يخفي ألمه عن العالم.
وهو لا يتكلم عن يسوع ولا يعيد أقواله، بل يعظ عن ماسيا الذي أنبأت عنه الأنبياء.
ومع أنه من علماء اليهود فهو يخاطب أصحابه اليهود باليونانية، ويونانيته عرجاء، وهو لا يحسن اختيار ألفاظه لمواضعها. بيد أنه رجل ذو قوة خفية، والناس يؤيدونه بإقبالهم على سماعه، وكثيرا ما يؤكد لهم أمورا عن نفسه لا يثق بها.
فنحن الذين عرفنا يسوع وسمعنا خطبه نقول إنه علم الإنسان كيف يحطم قيود عبوديته ليتحرر من سجون أمسه.
ولكن بولس هذا يصنع قيودا جديدة لرجل الغد . فهو يضرب بمطرقته على السندان باسم رجل هو نفسه لا يعرفه.
فالناصري يرغب إلينا أن نعيش الساعة بوجد وشوق.
أما رجل طرسوس هذا فإنه يأمرنا بالمحافظة على الشرائع المكتوبة في الكتب القديمة.
قد منح يسوع من نسمة روحه للميت الفاقد النسمة، وفي وحدة ليالي أؤمن وأفهم.
وعندما كان يجلس إلى المائدة كان يقص على الجالسين معه قصصا تزيد في بهجتهم وسعادتهم ولذة طعامهم وشرابهم.
ولكن بولس يحدد لنا رغيفنا وكأسنا.
فاسمحوا لي الآن أن أدير عيني إلى الطريق الأخرى.
سالومة إلى صديقة لها
رغبة لم تتحقق
كان كالحور اللامع في الشمس، وكالبحيرة بين التلال الوحيدة مشرقا في الشمس، وكان كالثلج على رءوس الجبال أبيض أبيض في الشمس. نعم، كان مثل هذه جميعها وقد أحببته، بيد أنني كنت أخاف أن أجلس في حضرته.
وكنت أود أن أقول له: قد قتلت صديقك في ساعة هوى في نفسي، فهل تغفر لي خطيئتي وأنت الرحوم الصفوح؟ أفلا تحل قيود شبابي من عماوة عملي لأمشي حرة طليقة في نورك العظيم؟
إنني واثقة بأنه كان يصفح عن رقصتي للحصول على رأس صديقه البار، إنني واثقة بأنه كان رأى في موضوعا من مواضيع تعاليمه؛ لأنه لم يكن في العالم من وادي مجاعة لم يعبره، ولا صحراء عطش لم يقطعها.
بلى، قد كان كالحور الجميل، وكالبحيرات بين التلال، وكالثلج على الجبال. وكنت أتوق لتبريد عطش شفتي في ثنايا ثوبه.
بيد أنه كان بعيدا عني، وأنا كنت خجولة، وكانت أمي تمنعني عن الذهاب إليه كلما دعاني حنيني إلى السير وراءه.
وكلما مر بنا كان قلبي يذوب من جماله، ولكن أمي كانت تقطب حاجبيها احتقارا، وتأمرني بالتحول عن النافذة إلى غرفتي، وكانت تصرخ بأعلى صوتها قائلة: ومن يكون هذا سوى أكول جراد آخر من الصحراء!
إن هو إلا مستهزئ خائن، ومشاغب يتعيش بإثارة نيران العصيان، لسلب صولجاننا وتاجنا، وحمل الثعالب وبنات آوى من بلاده اللعينة لتعوي في قصورنا وتجلس على عرشنا. اذهبي واحجبي وجهك من هذا النهار، وانتظري يوم يسقط رأسه، ولكن ليس على طبقك.
كل هذا قالته والدتي، ولكن قلبي لم يحفظ كلامها، فقد أحببته سرا وكان حبه يمنطق نومي باللهيب.
قد مضى اليوم، وقد ذهب بذهابه شيء عظيم كان في، ومن يدري، فقد يكون شبابي قد ذهب مني لأنه لم يطق أن يقيم هنا بعد أن رأى إله الشباب قتيلا.
راحيل إحدى التلميذات
هل كان يسوع رجلا أم مفكرا؟
كثيرا ما أفكر منذهلة فيما إذا كان يسوع رجلا ذا لحم ودم نظيرنا، أو فكرا بغير جسد، في العقل، أو فكرة تزور خيال الإنسان.
وكثيرا ما يخطر لي أنه لم يكن سوى حلم حلمه رجال ونساء لا عديد لهم، وقد رآه جميعهم في نوم أعمق من النوم، وفجر أهدأ من كل فجر.
ويظهر أننا إذ كنا نقص هذا الحلم بعضنا لبعض شرعنا نتخيله حقيقة وقعت بالفعل، وإذ منحناه جسدا من خيالنا وصوتا من حنيننا جعلناه أخيرا جوهرا حقيقيا لمادة وجودنا.
ولكن بالحقيقة إنه لم يكن حلما، فقد عرفناه ثلاث سنين ورأيناه رأي العين في نور الظهيرة اللامع.
قد لمسنا يديه وتبعناه من مكان إلى مكان. قد سمعنا خطبه ورأينا أعماله. وهل يخطر لكم أننا كنا فكرا ينشد غيره من الأفكار أو حلما هائما في منطقة الأحلام؟
إن الحوادث العظيمة تظهر دائما غريبة عن حياتنا اليومية، وإن كانت طبيعته مغروسة في طبيعتنا. وهي وإن أقامت فجأة في مجيئها وفجأة في مرورها بنا فإن جوهرها الحقيقي يرافق السنين والأجيال.
ويسوع الناصري هو نفسه الحادثة العظمى، فإن ذلك الرجل الذي نعرف أباه وأمه وإخوته كان نفسه أعجوبة حدثت في اليهودية. بلى، وكل عجائبه إذا وضعت عند قدميه لا تعلو إلى مساواة عقبيه.
وجميع الأنهار في جميع السنين لا تقدر أن تذهب بذكراه من قلوبنا.
فقد كان جبلا محترقا في الليل، ومع ذلك كان حرارة لطيفة وراء التلال، وكان عاصفة في الجو، ومع ذلك كان يتحرك بلطف في ضباب البحر.
كان يسوع سيلا جارفا منحدرا من الأعالي إلى السهول ليهدم كل شيء في طريقه، وكان في الوقت نفسه لطيفا كابتسامة الأطفال.
في كل سنة أنتظر زيارة الربيع لهذا الوادي، وفي كل سنة أنتظر الزنابق وبخور مريم، ولكن نفسي تكتئب في أعماقي كل سنة؛ لأنني طالما تقت لأفرح مع الربيع فلم أقدر.
ولكن عندما جاء يسوع إلى فصولي كان بالحقيقة ربيعا لأحلامي، وقد تحققت فيه مواعيد جميع السنين المقبلة، فقد ملأ قلبي فرحا، فنموت كالبنفسج خجولة في نور مجيئه.
واليوم لا تستطيع تقلبات فصول العالم التي لم تصر لنا بعد أن تمحو جماله من عالمنا هذا.
إلا أن يسوع لم يكن حلما ولا فكرة تمخضت بها أحلام الشعراء، بل كان رجلا مثلك ومثلي بالبصر والسمع واللمس، وفي جميع ما تبقى كان يختلف كل الاختلاف عن جميعنا.
فقد كان رجل أفراح، وعن طريق الفرح تعرف إلى كآبة جميع الناس، ومن أعالي سطوح كآبته رأى فرح جميع الناس.
إن الرؤى التي رآها لم نرها نحن، والأصوات التي سمعها لم نسمعها. وكان يتكلم مخاطبا جموعا غير منظورة، بل كثيرا ما تكلم بواسطتنا لأقوام لم يولدوا بعد.
وكان يسوع وحده في أكثر الأحيان، فقد كان بيننا ولكنه لم يكن واحدا منا. وكان على وجه من السماء. ونحن لا نقدر أن نرى أرض وحدته إلا في وحدتنا.
قد أحبنا حبا ممتلئا بالعطف والحنان. وكان قلبه معصرة. وأنت وأنا كان في منالنا أن نتقدم إليه بكئوسنا فنشرب حتى نرتوي.
إن أمرا واحدا لم أكن أفهمه في يسوع، وهو أنه كان كثير المجون مع سامعيه، فهو يخبرهم ملحة ويلعب بالألفاظ، ثم يضحك من أعماق قلبه حتى في الأوقات التي كانت ترتسم فيها الكآبة على عينيه وتمتزج بدقائق صوته. كل هذا لم أفهمه في ذلك الوقت، ولكني أفهمه الآن.
كثيرا ما أفكر في الأرض فأتمثلها امرأة حبلى ببكرها. وعندما ولد يسوع كان ابنها البكر، وعندما مات كان أول رجل يموت.
لأنه، ألم يظهر لك أن الأرض كانت صامتة في تلك الجمعة المظلمة، والسماوات كانت في حرب شديدة ضد السماوات؟
بل، ألم تشعر ، عندما اختفى وجهه عن أبصارنا، بأننا لم نكن سوى تذكارات هائمة في الضباب؟
كلاوبا البتروني
الشريعة والأنبياء
عندما تكلم يسوع صمت العالم كله ليصغي. إن كلماته لم تكن لآذاننا، بل بالأحرى للعناصر التي صنع الله منها هذه الأرض.
فقد خاطب البحر، الأم المتسعة الصدر التي ولدتنا. وخاطب الجبل، أخانا الأكبر الذي قنته وعد ورجاء.
وخاطب الملائكة الذين وراء البحر والجبل، الذين استودعناهم أحلامنا قبل أن يجف الطين الذي فينا في أشعة الشمس.
ولا يزال خطابه هاجعا في صدرنا كأغنية الحب نصف المنسية، وفي بعض المرات يخترق طريقه إلى ذاكرتنا.
كان خطابه بسيطا فرحا، وكانت رنة صوته كالماء العذب في أرض ناشفة.
وقد رفع يده مرة نحو السماء، فبدت أصابعه كأغصان الجميزة، وقال بصوت عظيم: قد خاطبكم أنبياء القدماء، وآذانكم ممتلئة من خطبهم. أما أنا فأقول لكم: أفرغوا آذانكم مما سمعتم.
وهذه الكلمات التي قالها يسوع: أما أنا فأقول لكم ... لم يتلفظ بها رجل من قومنا، ولا من العالم أجمع، بل حملها إلينا جوق من الساروفيم في مروره بسماء اليهودية.
وكان يقتطف أقوال الشريعة والأنبياء مثنى وثلاث ورباع ثم يضيف إليها في كل مرة قائلا: أما أنا فأقول لكم.
يا لها من كلمات نارية! يا لها من أمواج بحر لم تعرفها شواطئ أفكارنا! أما أنا فأقول لكم: يا لها من كواكب لامعة تنشد ظلمة النفس، ونفوس مستيقظة تنتظر جلال الفجر. «الفجر».
إن من يود أن يتكلم عن خطاب يسوع يجب أن يكون له خطابه أو صدى خطابه. أما أنا فليس لي خطابه ولا صداه، فأرجو من فضلك عذرا عن الشروع في قصة لا أقدر أن أكملها، ولكن النهاية ليست على شفتي بعد، فإنها ما زالت أغنية حب في الريح.
نعمان الغداريني
موت إستفانوس
قد تفرق تلاميذه؛ لأنه وصي لهم بالألم قبل أن يسبق إلى الموت، وأعداؤهم يصطادونهم صيد الغزلان وثعالب الحقول، ولا تزال جعبة الصياد ممتلئة بالسهام.
ولكن عندما يقبض العدو عليهم ويسوقهم إلى الموت يفرحون وتشرق وجوههم كوجه العروس في وليمة العرس. فقد ترك لهم أيضا وصية الفرح.
كان لي صديق من أهل الشمال اسمه إستفانوس. وبما أنه نادى بيسوع ابن الإنسان قادوه إلى ساحة المدينة ورجموه.
وعندما سقط إستفانوس على الأرض بسط ذراعيه كأنه يود أن يموت كما مات معلمه. وقد انبسطت ذراعاه كجناحين على أهبة الطيران. وقبل أن يضمحل آخر بريق في عينيه رأيت بأم عيني ابتسامة قدسية ترتسم على شفتيه. وما أشبه تلك الابتسامة بالنسيم الذي يأتي قبل نهاية الشتاء واعدا ومبشرا بقدوم الربيع! كيف أستطيع أن أصفها؟
يلوح لي أن إستفانوس كان يود أن يقول: إذا كان لي أن أمضي إلى عالم آخر، وهناك قبض علي قوم آخرون وساقوني إلى ساحة مدينتهم ليرجموني، فإنني حتى في ذلك العالم سأعلنه للناس من أجل الحق الذي كان فيه، ومن أجل الحق نفسه الذي هو في الآن.
وقد لاحظت بين المتفرجين على رجم إستفانوس رجلا واقفا أمامه ينظر بملء الفرح إلى الحجارة المتساقطة عليه.
وكان اسم ذلك الرجل شاوول الطرسوسي، وهو الذي سلم إستفانوس للكهنة والرومانيين والجموع ليرجموه.
كان شاوول أصلع الرأس قصير القامة، وكان معوج الكتفين، ولا تناسب في قوامه، ولم أكن أحبه.
وقد أخبروني أنه يبشر اليوم بيسوع من على السطوح، ولكن هذا الكلام صعب التصديق.
ولكن القبر لا يستطيع أن يقف في طريق سير يسوع إلى معسكر أعدائه ليروض شراستهم ويأسر أعظمهم.
بيد أنني لا أحب ذلك الرجل الطرسوسي، على رغم ما عرفته أنه بعد موت إستفانوس قد خمدت حدة شراسته وغلب على أمره في طريقه إلى دمشق. ولكن رأسه أكبر من قلبه. فهو لا يقدر أن يكون تلميذا أمينا ومع كل هذا فقد أكون مخطئا في حكمي؛ لأنني في الغالب مخطئ في أحكامي.
توما
يصف جده وشكوكه
قال لي جدي مرة، وكان متشرعا: لنحتفظ بالحق عندما يظهر الحق لنا.
وعندما دعاني يسوع لبيت دعوته؛ لأن أمره كان أقوى من إرادتي ولكنني لم أنس نصيحة جدي، رحمه الله.
وعندما كان يخاطبنا فيتحرك غيري من السامعين كأغصان الأشجار المتمايلة أمام هبوب الرياح، كنت أصغي إليه من غير أن أتحرك، ولكنني على رغم ذلك أحببته.
قد تركنا منذ ثلاث سنوات جماعة متفرقة تترنم باسمه، وتشهد له في جميع الأمم.
وقد دعيت في ذلك الوقت بتوما المشكك؛ لأن خيال جدي كان ألزم لي من ظلي، وكنت ألتمس إظهار الحقيقة لألمسها بيدي أبدا.
في ذلك العهد المظلم بالشك كنت أضع يدي في جرحي لأرى الدماء تنزف منه قبل أن أصدق ما بي من الألم.
ولكنني قد عرفت الآن أن الرجل الذي يحب بقلبه ويحتفظ بالشكوك في فكره، هو عبد محكوم عليه بالتجذيف في سفينة مظلمة، ينام أمام مجاذيفه ويحلم بحريته حتى توقظه سياط سيده.
فأنا كنت مثل هذا العبد، وقد حلمت بالحرية، ولكن نوم جدي كان يثقل أجفاني، وقد احتاج جسدي إلى سياط يومي.
إنني حتى في حضرة الناصري كنت أغمض عيني لأرى يدي مربوطتين إلى المجذاف.
الشك ألم أنسته وحدته أنه والإيمان توأمان.
الشك فرخ من الطير ضال وشقي. ومع أن أمه التي ولدته ستجده وتضمه إلى صدرها، فإنه يهرب منها حذرا خائفا.
ولن يعرف الشك سبيله إلى الحق حتى تشفى جراحه وتعود صحته.
فأنا شككت في يسوع حتى أظهر لي ذاته، ووضعت يدي في جراحه، حينئذ آمنت بالحقيقة، وبعد ذلك تحررت من أمسي ومن جميع شكوك الأمس التي ورثتها عن جدودي.
فقد دفن الميت في موتاه، والحي في سيعيش للملك الممسوح، ذلك الذي دعي ابن الإنسان.
فقد أخبروني في الأمس أنه يجب أن أسير مبشرا باسمه بين أبناء فارس والهند.
إنني ماض إلى عملي، ومن هذا اليوم إلى آخر أيامه، في الفجر وفي المساء، سأرى ربي قائما بجلال وسأسمعه متكلما.
المقدم المنطقي
يسوع الخارجي
تطلبون إلي أن أتكلم عن يسوع الناصري، ولدي عنه حديث مستفيض، ولكن لم يأت الوقت بعد، ولكن مهما قلت عنه الآن فهو الحق بعينه؛ لأن كل قول لا قيمة له ما لم يوضح الحقيقة.
إنه رجل مختل يثور على النظام، ومتسول يقاوم المقتنيات، وسكير لا يفرح إلا مع المحتالين والمرذولين.
لم يكن ابن الولاية الفخور، ولا ابن الإمبراطورية المتمتع بحمايتها كسائر المواطنين النافعين؛ ولذلك كان يحتقر الولاية والإمبراطورية.
كان يعيش حرا لا يعرف الواجب كطيور الهواء؛ ولذلك أنزله الصيادون إلى الأرض بسهامهم.
ما من رجل يدك قباب الأمس وينجو من حجارتها المتساقطة.
وما من رجل يفتح أبواب طوفان أسلافه من غير أن يختنق.
هي الشريعة. وبما أن ذلك الناصري كسر الشريعة صار هو وأتباعه البلداء إلى لا شيء.
وقد عاش في العالم كثيرون مثله من الرجال الذين أرادوا أن يغيروا مجرى حياتنا.
ولكنهم هم أنفسهم تغيروا، وكانوا خاسرين.
توجد دالية لا عنب فيها تنمو عند أسوار المدينة، وهي تمتد وتعرش على حجارة السور، فإذا قالت هذه الدالية في قلبها: إني سأخرب هذه الجدران بقوتي وثقل أغصاني، فماذا تقول لها بقية النباتات؟ إنها ولا شك تضحك من جنونها.
لأجل هذا تراني يا سيدي مضطرا إلى الضحك من هذا الرجل ومن تلاميذه المخدوعين به.
إحدى المريمات
كآبة وابتسامة
كان رأسه مرتفعا أبدا، ونور الرب كان في عينيه.
كان في الغالب كئيبا، ولكن كآبته كانت بلسما لجراح الحزانى والمستوحشين.
وعندما كان يبتسم كانت ابتسامته كمجاعة المشتاقين إلى غير المعروف، بل كانت كغبار الكواكب المتساقط على أجفان الأولاد، وكقطعة الخبز في الحلق.
كان كئيبا، ولكن كآبته كانت من النوع الذي ينهض إلى الشفتين ويتحول إلى ابتسامة.
فقد كانت كقناع ذهبي في الحرج عند دنو الخريف، وفي بعض المرات كانت تبدو لنا كأشعة القمر على شواطئ البحيرة.
فكان يبتسم كأن شفتيه تودان الغناء في وليمة عرس.
بيد أنه كان كئيبا بكآبة ذي الجناحين الذي لا يريد أن يحلق فوق رفيقه.
رومانوس الشاعر اليوناني
يسوع الشاعر
كان يسوع شاعرا، وكان يرى لعيوننا ويسمع لآذاننا، وكلماتنا الصامتة كانت على شفتيه، وأصابعه كانت تلامس ما لم نقدر نحن أن نحس به.
وكانت تطير من قلبه عصافير مغردة لا عديد لها. بعضها إلى الشمال وبعضها إلى الجنوب، وكانت الأزهار اللطيفة في جوانب التلال تسدد خطواته نحو السماوات.
كثيرا ما رأيته ينحني ليلامس أوراق الأعشاب، وفي قلبي كنت أسمعه يخاطبها قائلا: أيتها المخلوقات الصغيرة الخضراء، أنت ستكونين معي في ملكوتي كما سيكون معي سنديان بيسان وأرز لبنان.
وكان يحب كل ما هو جميل في الوجود، الوجوه الخجولة في الأولاد، والمر واللبان من الجنوب.
قد أحب رمانة أو كأسا من الخمر تقرب إليه بمودة، ولم يهمه أجاءت من غريب من الفندق أو من مضيف غني.
وكان يحب أزهار اللوز، وقد رأيته مرة يجمعها بيديه ويغطي وجهه بأوراقها كأنه يود أن يعانق بمحبته كل أشجار العالم. قد عرف البحر والسماوات، وتكلم عن الدرر التي لم تتخذ نورها من هذا النور، والكواكب القائمة فوق ليلنا.
وعرف الجبال كما تعرفها النسور، والأودية كما تعرفها السواقي والجداول، وكان في صمته صحراء، وفي كلامه جنة غناء.
نعم كان يسوع شاعرا قد أقام قلبه في مظلة تسمو على أعلى أعالينا. ومع أن ترانيمه أنشدت لآذاننا فقد أنشدت أيضا لآذان أخرى، وسمعها الناس في بلاد أخرى حيث الحياة كلها شباب دائم والزمان كله فجر مقيم.
قد حسبت نفسي شاعرا فيما مضى، ولكنني عندما وقفت أمامه في بيت عنيا عرفت للحال ما مقام الضارب على آلة ذات وتر واحد أمام الذي يأمر جميع الآلات وجميع الأوتار فتطيعه، فقد اجتمع في صوته ضحك الرعود، ودموع الأمطار، ورقص الرياح والأشجار.
ومذ عرفت هذا صارت قيثارتي ذات وتر واحد، ولم يعد لصوتي أن يحوك لا تذكارات الأمس ولا آمال الغد؛ ولذلك رميت بقيثارتي جانبا، وعولت على الاعتصام بالصمت. ولكنني عند كل شفق أصغي بجماع نفسي، لأسمع الشاعر الذي هو أمير جميع الشعراء.
لاوي التلميذ
في المجربين والمرائين
في أحد الأمساء مر يسوع ببيتي، فاستيقظت نفسي في أعماقي.
فخاطبني قائلا: هلم يا لاوي واتبعني.
فتبعته في ذلك اليوم.
وفي مساء اليوم التالي طلبت إليه أن يدخل بيتي ويشرفني بضيافته، فعبر فوق عتبتي هو وأصدقاؤه وباركني مع امرأتي وأولادي.
وكان في بيتي ضيوف غيره من الكتبة والعلماء ولكنهم كانوا ضده في قلوبهم.
وعندما جلسنا إلى المائدة سأله أحد الكتبة قائلا: أحقيقة أنك أنت وتلاميذك تكسرون الشريعة بإيقادكم نارا يوم السبت؟
فأجابه يسوع قائلا: نحن بالحقيقة نوقد نارا يوم السبت، فإننا نود أن ننير يوم السبت، ونحرق بمشعلنا كل القش اليابس المتجمع في جميع الأيام.
فقال له كاتب آخر: وقد أخبرونا أنك تشرب خمرا مع غير الأنقياء في الفندق.
فأجاب يسوع وقال: نعم وهذه أيضا نتنعم بها. أفهل جئنا إلى هنا إلا لنشاطر غير المتوجين فيكم رغيفهم وكأسهم؟
قليلون، بل أقل من القليلين هم الذين لا ريش لهم ولكنهم يجرءون على مقاومة الريح، وكثيرون هم المجنحون والمريشون الذين ما برحوا في أعشاشهم.
ونحن نطعم الجميع بمنقارنا، الكسالى والمجتهدين بالسوية.
فقال كاتب ثالث: ألم أسمع أنك تحامي عن زواني أورشليم؟
حينئذ رأيت بعيني كأن أعالي لبنان الصخرية قد ارتسمت على وجه يسوع، فقال: نعم، كل ما سمعتموه حقيقي.
ففي يوم الحساب ستقف هؤلاء النساء أمام عرش أبي وسيتنقين بدموعهن، أما أنتم فسيحكم عليكم بقيود دينونتكم.
إن بابل لم تخربها الزواني، ولكن بابل تحولت إلى رماد لكيلا تنظر عيون المرائين فيها نور النهار فيما بعد.
وكان كتبة آخرون يودون أن يسألوه أيضا، غير أنني أثرت عليهم بالصمت، لأنني عرفت أنه سيخذلهم. وبصفتهم ضيوفا في بيتي لم أشأ أن تلحقهم إهانة.
وعند انتصاف الليل ترك الكتبة منزلي وقد تخلعت نفوسهم.
حينئذ أغمضت عيني فرأيت، كما لو كنت في رؤيا، سبع نساء بثياب بيضاء واقفات حول يسوع. وكن واقفات بخشوع وقد صلبن أذرعهن على صدورهن وحنين رءوسهن. وإذ تأملت مليا بضباب حلمي نظرت وجه واحدة منهن فأشرق لامعا في ظلمة خيالي.
وكان ذلك الوجه وجه الزانية التي عاشت في أورشليم.
ثم فتحت عيني ونظرت إلى يسوع، فإذا هو يبتسم وينظر إلي وإلى جميع الذين لم يتركوا المائدة.
فأغمضت عيني ثانية، وهنالك رأيت في النور سبعة رجال بثياب بيضاء واقفين حول المعلم. وإذا تأملتهم عرفت وجها من وجوههم.
وكان ذلك الوجه وجه اللص الذي صلب فيما بعد عن يمينه وبعد ذلك ترك يسوع وأصحابه منزلي وساروا في طريقهم.
أرملة الجليل
يسوع القاسي
كان ابني بكرا لي، وكان الولد الوحيد الذي ولدته. وكان يشتغل في حقلنا، وكان راضيا بعمله حتى سمع الرجل المدعو يسوع يخاطب الجموع، حينئذ تغير ابني فجأة، كأن روحا غريبة غير صحيحة عانقت روحه.
فترك الحقل والبستان، وتركني أنا أيضا، وصار خاملا يعيش بين رعاع الطريق.
إن ذلك الرجل المدعو يسوع الناصري شرير؛ لأن: أي رجل صالح يفصل ابنا عن والدته؟
وكان آخر ما قاله لي ابني هكذا: أنا ماض مع أحد تلاميذه إلى البلاد الشمالية، لأنني قد جددت بناء حياتي على صخرة الناصري، أنت قد ولدتني وأنا شاكر لك صنيعك، ولكن الواجب الأسمى يدعوني إلى الذهاب، أما أنا تارك لك أرضنا الغنية وكل ما لنا من الفضة والذهب؟ إنني لن أحمل معي شيئا إلا هذا الثوب وهذه العصا.
هكذا خاطبني ابني وفارقني.
واليوم قد قبض الرومانيون والكهنة على يسوع وصلبوه، وحسنا فعلوا.
فإن الرجل الذي يفرق الابن عن أمه لا يمكن أن يكون من الله.
والرجل الذي يرسل أولادنا إلى مدن الأمم لا يقدر أن يكون لنا صديقا.
إنني أعرف أن ابني لن يرجع إلي، فقد رأيت ذلك في عينيه، ولأجل هذا أبغض يسوع الناصري الذي سبب وحدتي في هذا الحقل غير المفلوح وهذا البستان الذابل.
وقد أبغضت كل من يمدحه.
قيل لي منذ أيام إن يسوع قال مرة: إن أبي وأمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلامي ويتبعونني.
ولكن لماذا يجب على الأبناء أن يتركوا أمهاتهم ويتبعوا خطواته؟
ولماذا يجب أن ينسى حليب ثديي في سبيل ينبوع لم يذق بعد؟ وحرارة ذراعي يعرض عنها من أجل بلاد الشمال الباردة والممتلئة بالعداء؟
إلا أنني أبغض ذلك الناصري، وسأبغضه إلى آخر أيامي؛ لأنه سرق بكري وحرمني وحيدي.
يهوذا نسيب يسوع
موت يوحنا المعمدان
حدث في ليلة من ليالي آب أننا كنا مع المعلم في مرج قريب من البحيرة، وقد أطلق القدماء على هذا المرج اسم مرج الجماجم.
وكان يسوع مضطجعا على العشب يتأمل النجوم.
وحدث فجأة أن رجلين ركضا إلينا بأنفاس متقطعة، وكانت أمائر الألم مرتسمة على ملامحهما، فركعا على قدمي يسوع.
فوقف يسوع، وقال لهما: من أين جئتما؟
فأجابه أحدهما: من ماخاروس.
فنظر إليه يسوع مضطربا وقال: وما حل بيوحنا؟
فأجابه الرجل: قد قتلوه اليوم، وقد قطعوا رأسه في سجنه، فرفع يسوع رأسه، ثم مشى بعيدا عنا قليلا، وبعد هنيهة رجع ووقف في وسطنا.
فقال لنا: كان في منال الملك أن يقتل النبي قبل اليوم، بالحقيقة إن الملك قد جرب كل ملذات رعاياه، ولكن ملوك القدماء لم يكونوا بطيئين هكذا بإعطاء رأس نبي لصيادي الرءوس.
إنني لست حزينا من أجل يوحنا، بل أنا حزين من أجل هيرودوس الذي سمح بسقوط السيف. مسكين هو الملك! فهو كالحيوان الذي يقبضون عليه ويقودونه بحلقة وحبل.
ما أشقى رؤساء الربع هؤلاء! فإنهم إذ يتيهون في ظلمتهم يعثرون ويسقطون. وهل ترجون من البحر القذر إلا أسماكا ميتة؟
أنا لا أبغض الملوك، فليحكموا الناس، ولكن على شرط أن يكونوا أحكم من الناس.
ثم نظر المعلم إلى وجهي الرسولين الكئيبين وإلى وجوهنا وخاطبنا ثانية، وقال: قد ولد يوحنا مجروحا. وكان دم جرحه يفيض من كلامه، فقد كان حرية لم تتحرر بعد من ذاتها، وصبرا لا يعرف إلا المستقيمين والأبرار.
بالحقيقة إنه كان صوتا صارخا في أرض الذين لهم آذان ولا يسمعون، وقد أحببته في كآبته ووحدته.
وأحببت كبرياءه التي قدمت رأسها للسيف قبل أن تسلمه للتراب.
الحق أقول إن يوحنا بن زكريا هو آخر أبناء جنسه، وقد قتل كأسلافه بين عتبة الهيكل والمذبح.
ثم مشى ثانية بعيدا عنا قليلا.
وبعد دقيقة من الزمان رجع وقال: هكذا كان وهكذا سيكون. إن الذين يحكمون ساعة سيقتلون الذين يحكمون أعواما، وهكذا سيكون أبدا أنهم يعقدون مجالسهم ويحكمون على الرجل الذي لم يولد بعد، ويقضون بموته قبل أن يرتكب الجريمة.
إن ابن زكريا سيعيش معي في ملكوتي وسيكون نهاره طويلا.
ثم التفت إلى تلميذي يوحنا وقال: لكل عمل غده، وأنا نفسي قد أكون غدا لهذا العمل. فاذهبا إلى أصدقاء صديقي وقولا لهم إنني سأكون معهم.
فانصرف الرجلان في طريقهما، وكانا أقل كآبة من الوقت الذي وصلا فيه.
أما يسوع فاضطجع على العشب ثانية وبسط ذراعيه وعاد إلى التأمل بالنجوم.
وكانت ساعة متأخرة من الليل، وكنت متكئا بجانبه، أتوق إلى الراحة من كل قلبي، ولكن يدا خفية كانت تقرع على بوابة نومي؛ ولذلك بقيت مستيقظا حتى دعاني يسوع والفجر إلى الطريق.
رجل من الصحراء
في الصيارفة
كنت غريبا في أورشليم، وقد أتيت إلى المدينة المقدسة لأنظر الهيكل العظيم، وأقدم ذبيحتي على المذبح؛ لأن زوجتي ولدت صبيين توأمين لقبيلتي.
وبعد أن قدمت ذبيحتي وقفت في رواق الهيكل أنظر إلى الصيارفة وبائعي الحمام، وأصغي إلى الضجيج العظيم المتصاعد من الدار.
وفيما كنت واقفا دخل رجل فجأة ووقف في وسط الصيارفة وبائعي الحمام، وكان رجلا وقورا عظيما، وقد دخل بسرعة عجيبة.
وكان يحمل بيده حبلا مصنوعا من جلود التيوس، فشرع يقلب موائد الصيارفة ويضرب بائعي الطيور بحبله.
وقد سمعته يقول بصوت عظيم: أطلقوا هذه الطيور في الجو الذي هو عشها.
وكان الرجال والنساء يهربون من أمام وجهه، وهو يتحرك بينهم كما تتحرك زوبعة الرياح على تلال من الرمل.
كل هذا حدث بلحظة واحدة، ففرغت دار الهيكل من الصيارفة، ولكن الرجل وقف هناك وحده، وكان أتباعه يقفون بعيدا عنه.
ثم أدرت وجهي فرأيت رجلا آخر في رواق الهيكل، فسرت إليه وقلت له: هل لسيدي أن يخبرني من هو هذا الرجل الواقف وحده كأنه هيكل ثان؟ فأجابني وقال: هذا هو يسوع الناصري، النبي الذي ظهر أخيرا في الجليل، ولكن جميع الناس هنا في أورشليم يبغضونه.
فقلت: إن في قلبي من القوة ما يحملني لأن أكون مع سوطه، وفيه من الاستسلام ما يحملني للسجود عند قدميه.
أما يسوع فإنه رجع إلى رفقائه الذين كانوا ينتظرونه، ولكن قبل أن يصل إليهم رجعت ثلاث حمامات من حمام الهيكل فحطت واحدة على كتفه اليسرى والاثنتان عند قدميه، فوضع يده بلطف عجيب على كل منها، ثم تابع سيره، وكان في كل خطوة من خطواته فراسخ عديدة.
بربكم أخبروني بأية قوة ضرب المئات من الرجال والنساء وفرقهم من غير أقل مقاومة؟ فقد قيل لي إنهم كلهم أبغضوه، ولكن لم يجرؤ أحد أن يقف أمامه في ذلك اليوم، فهل قلع أنياب البغض في طريقه إلى دار الهيكل؟
بطرس
في مستقبل التلاميذ
ذهب بنا يسوع مرة عند غروب الشمس إلى قرية بيت صيدا، وكان التعب آخذا مأخذه من جماعتنا، وكان غبار الطريق محيقا بنا. فأتينا إلى منزل كبير في وسط بستان جميل، وكان رب البيت واقفا أمام البوابة.
فقال له يسوع: إن هؤلاء الرجال تعبون، وقد تقرحت أقدامهم من المشي، فدعهم ينامون في بيتك، فإن الليلة باردة وهم في حاجة إلى الدفء والراحة.
فأجاب الغني وقال: إنهم لن يناموا في بيتي.
فقال له يسوع: فاسمح لهم إذا أن يناموا في بستانك.
فأجاب الرجل: كلا، ولا أسمح لهم بالنوم في بستاني.
ثم التفت يسوع إلينا وقال: إن هذا مثال مما ستصيرون إليه في الغد، وهذا الحاضر يشبه مستقبلكم. إن جميع الأبواب ستقفل في وجوهكم، حتى إن البساتين المتكئة تحت النجوم ستقفل أبوابها دونكم.
فإذا صبرت أقدامكم على عناء الطريق وثبتم، تتبعوني، فإنكم قد تجدون طستا وفراشا، وربما خبزا وخمرا أيضا. ولكن إذا حدث ولم تجدوا شيئا من هذا فلا تنسوا في ذلك الوقت أنكم قد عبرتم صحراء واحدة من صحاري معلمكم.
هلم بنا نمضي من هنا.
أما الرجل الغني فإنه كان مضطربا، وقد تغير لون وجهه، وكان ينطق بكلمات لم أسمعها، فتحول عنا وارتد إلى بستانه.
وهكذا تبعنا يسوع على الطريق.
ملاخي الفلكي البابلي
في عجائب يسوع
تسألونني عن عجائب يسوع!
في كل ألف ألف سنة تجتمع الشمس والقمر وهذه الأرض وجميع شقيقاتها السيارات في خط مستقيم، ويتباحثن معا هنيهة واحدة.
ثم يتفرقن ببطء وينتظرن مرور ألف ألف سنة أخرى.
لا عجائب في الوجود وراء الفصول، ولكن أنت وأنا لا نعرف كل الفصول، وما قولك في فصل كامل يتجسد بشكل رجل واحد؟
في يسوع اجتمعت كل عناصر أجسادنا وأحلامنا طبقا للشريعة. وكل ما كان من قبله سابقا لأوانه قد وجد فيه أوانه.
يقولون إنه كان يعطي العميان بصرا والمقعدين مقدرة على المشي، وإنه كان يخرج الشياطين من المجانين.
قد لا يكون العمى إلا فكرة مظلمة يمكن التغلب عليها بفكرة ملتهبة، وقد لا يكون العضو المشلول إلا خمولا يمكن إيقاظه بالقوة المتحركة.
وقد يكون أن الشياطين، وهي العناصر القلقة في حياتنا، تخرجهم منا ملائكة السلامة والطمأنينة.
ويقولون إنه أعاد الموتى إلى الحياة، فإذا كنت تقدر أن تخبرني ما هو الموت فأنا حينئذ أخبرك ما هي الحياة.
نظرت مرة في أحد الحقول بلوطة هادئة لا قيمة لها ولا شأن، وعدت في الربيع فرأيت تلك البلوطة تمد جذورها في الأرض وتنهض لتصير سنديانة جبارة أمام وجه الشمس.
أنت ولا شك تحسب هذا أعجوبة، ولكن هذه الأعجوبة تصنع ألف ألف مرة في غفلة كل خريف وشوق كل ربيع.
فماذا يمنع حصولها في قلب الإنسان؟ أفلا تقدر الفصول أن تجتمع في يد إنسان ممسوح أو على شفتيه؟
فإذا كان إلهنا قد منح الأرض أن تحتضن البذور في حين أن البذور ميتة بحسب الظاهر، فلماذا لا يمنح قلب الإنسان أن ينفخ نسمة الحياة في قلب آخر، وإن كان هذا القلب ميتا بحسب الظاهر؟
قد تكلمت عن هذه العجائب التي لا أعيرها سوى القليل من الانتباه تجاه الأعجوبة الكبرى، التي هي الرجل نفسه، العابر السبيل، الرجل الذي حول نفاية الصدأ في إلى ذهب وهاج، وعلمني كيف أحب الذين يبغضونني. وبعمله هذا حمل إلي التعزية الكاملة وكلل نومي بالأحلام اللذيذة.
هذه هي الأعجوبة في حياتي.
كانت نفسي عمياء، وكانت نفسي عوجاء، وكان في أعماقي كثير من الأرواح القلقة، وكنت ميتا.
أما اليوم فأنا أرى بوضوح، وأمشي مستقيما، وقد عاودتني سلامتي وأنا أعيش لأشهد وأعلن عجائب كياني في كل ساعة من النهار.
وأنا لست من أتباعه، بل أنا فلكي شيخ، أزور حقول الفضاء مرة في كل فصل، وأحترم الشريعة وأصدق بعجائبها.
أنا الآن في شفق زماني، ولكنني كلما فتشت عن فجره إنما أفتش بالحقيقة عن شباب يسوع.
إن العمر ينشد الشباب أبدا، ولكن بي تفتش المعرفة عن الرؤيا.
فيلسوف
في العجب والجمال
عندما كان معنا كان ينظر إلينا وإلى أعمالنا بعين العجب؛ لأن عينيه لم تتقنعا ببرقع السنين، وكل ما رآه كان واضحا في نور شبابه.
ومع أنه سبر غور الجمال فقد كان ينذهل أبدا أمام سلامه وجلاله. وقد وقف أمام الأرض كما وقف الإنسان الأول أمام اليوم الأول.
أما نحن الذين تخدرت حواسنا فإننا ننظر في نور النهار الكامل، ولكننا لا نرى شيئا، فنحن نحجم آذاننا ولكننا لا نسمع، ونمد أيدينا ولكننا لا نلمس. ولو احترق أمامنا كل بخور العربية فإننا نسير في طريقنا من غير أن نشتم رائحة.
نحن لا نرى الزارع عائدا من حقله عند المساء، ولا نسمع مزمار الراعي وهو يقود قطيعه إلى العلف. لا نمد أذرعنا لنلامس غروب الشمس، ومشامنا لا تجوع فيما بعد لعبير زهور شارون.
أجل، نحن لا نكرم ملوكا بدون ممالك، ولا نسمع أنغام القيثارة ما لم نضع أوتارها بأيدينا، ولا نرى الولد الذي يلعب في بستان زيتوننا كما لو كان هو نفسه شجرة من الزيتون. وجميع الأقوال يجب أن تخرج من شفاه من اللحم، وإلا فنحن نحسب بعضنا بعضا خرسا وصما.
بالحقيقة إننا ننظر ولا نبصر، ونصغي ولا نسمع، ونأكل ونشرب ولكننا لا نذوق. وفي جميع هذا يقوم الفرق الأولي بين يسوع الناصري وبيننا.
فقد كانت جميع حواسه تتجدد فيه أبدا، وكان العالم في نظره جديدا دائما.
ولم يكن نظره إلى تمتمة الطفل بأقل من نظره إلى صراخ الإنسانية بكاملها، في حين أنها في نظرنا تمتمة طفل لا أكثر ولا أقل.
وكان جذر الشقيق الأصفر في عقيدته حنينا إلى الله، ولكنه ليس في نظرنا سوى جذر بسيط.
أوريا الشيخ الناصري
كان غريبا في وسطنا
كان غريبا في وسطنا ، وكانت حياته مستورة تحت نقاب مظلم، لم يسر في طريق إلهنا، ولكنه اتبع طرق الأشرار والأردياء.
قد ثارت صبوته ورفضت حلاوة الحليب الذي في طبيعتنا.
وكان شبابه ملتهبا كالقش اليابس المحترق في الليل.
وعندما صار رجلا حمل السلاح ضدنا جميعا.
إن أمثال هؤلاء الرجال يحبل بهم في جزر اللطف البشري ويولدون في العواصف الشريرة، وفي العواصف الهوجاء يعيشون يوما ثم يهلكون إلى الأبد.
ألا تتذكرونه جيدا وهو في عهد الفطام، يجادل شيوخنا العلماء ويهزأ بجلالهم ووقارهم؟
أفلا تذكرون شبابه، إذ عاش بين المنشار والإزميل رافضا أن يرافق أبناءنا وبناتنا في أيام الأعياد ومختارا العزلة لنفسه؟
ولم يكن يرد تحية لمن يحييه من المارة كأن طينته أرفع من طينتنا. قد رأيته أنا نفسي مرة في الحقل فحييته، فابتسم فقط، فرأيت في ابتسامته غطرسة واحتقارا.
وبعد ذلك بقليل من الزمن ذهبت ابنتي إلى الكرم مع رفيقاتها لتقطف العنب، وهي أيضا خاطبته فلم يرد عليها جوابا.
بيد أنه وجه خطابه لجميع العاملات في الكرم، كأن ابنتي لم تكن معهن.
وعندما ترك أهله وهام في البلاد خسر كل شيء وصار ثرثارا، وكان صوته كالمخلب ينشب في أجسادنا، ولا يزال صدى صوته ألما في ذاكرتنا.
إنه لم يتكلم بغير الشر عنا وعن آبائنا وأجدادنا، وكان لسانه كالسهام المسمومة في قلوبنا.
هذا هو يسوع.
ولو كان هذا ابنا لي لكنت أرسلته مع جيوش الرومانيين إلى بلاد العرب، ولكنت طلبت إلى القائد أن يضعه في مقدمة المقدمة من الجيش في ساحة الحرب لتذهب به سهام العدو وتحررني من غطرسته ووقاحته.
ولكن لا ابن لي، وأنا شاكر ربي على ذلك؛ لأنه ماذا كان يصيبني لو أن ابني كان عدوا لشعبه، وكان شعري الأبيض اليوم يطلب الرماد في عاره ولحيتي البيضاء تحتقر وتهان؟
نيقوذيموس الشاعر
أصغر الشيوخ في السنهدريم
كثيرون هم الأغنياء الذين يقولون إن يسوع وقف في طريق نفسه وقاوم ذاته، وإنه لم يعرف فكره، وفي ضياع هذه المعرفة عمل على تضليل ذاته.
بالحقيقة ما أكثر البوم التي لا تعرف من الأغاني غير ما شابه نعيبها.
أنا وأنت نعرف مشعوذي الكلام الذين لا يحترمون إلا من كان أكبر شعوذة منهم، هؤلاء هم الذين يحملون رءوسهم في سلال إلى السوق ويبيعونها بأول ثمن يعرض عليهم.
نحن نعرف الأقزام الذين يتحاملون على من تلمس رءوسهم السماء، ونعرف ما يقوله العوسج عن السنديانة والأرزة.
إنني أشفق عليهم لأنهم لا يقدرون أن يصعدوا إلى الأعالي.
إنني أشفق على الشوكة الجافة في حسدها للدردار الذي يجرؤ على الفصول.
ولكن الشفقة، ولو أحاط بها أسف جميع الملائكة، فهي لا تحمل لهم نورا.
إنني أعرف اللعين الذي يتمايل بأثوابه الرثة على أدنات الزرع ولكنه ميت أمام الزرع وأمام الريح المترنمة.
وأعرف العنكبوت التي لا جناح لها تحوك الشباك لاصطياد كل ذي جناح.
وأعرف الماكرين، ونافخي الأبواق، وضاربي الطبول، الذين لا يستطيعون في وفرة ضجيجهم أن يسمعوا قنبرة السماء، ولا الريح الشرقية في الغابة.
وأعرف الذي يجذف في جميع الجداول ولكنه لا يجد الينبوع، ويركض مع جميع الأنهار ولكنه لا يجرؤ على السير إلى البحر.
وأعرف الذي يقدم يديه البليدتين إلى رئيس البنائين في الهيكل، وعندما ترفض يداه البليدتان ينبري قائلا في ظلمة قلبه: سأهدم كل ما سيبني.
إنني أعرف جميع هؤلاء، فهم الذين يعترضون على أن يسوع قال مرة: إنني أحمل سلاما لكم، وفي مرة ثانية قال: إنني أحمل سيفا.
فهم لا يقدرون أن يفهموا أنه نطق بالحقيقة عندما قال: إنني أحمل سلاما لأبناء السلامة، وأضع سيفا بين من يحب السلام ومن يحب السيف.
ويتعجبون كيف أن الذي قال: إن مملكتي ليست من هذا العالم، قال أيضا: أعطوا ما لقيصر لقيصر. ولكنهم لا يعلمون أنهم إذا رغبوا حقا في أن يكونوا أحرارا ليدخلوا ملكوت رغبات قلوبهم، فالواجب يقضي عليهم ألا يقاوموا الحارس الواقف على بوابة حاجتهم، ففي مصلحتهم أن يدفعوا ذلك الرسم الحقير ليدخلوا إلى تلك المدينة.
هؤلاء هم القائلون: قد علم باللطف والحنان والمحبة العائلية ولكنه لم يحفل بأمه وبإخوته عندما كانوا يفتشون عنه في شوارع أورشليم.
وهم لا يعلمون أن أمه وإخوته كانوا يودون في مخاوف رغبتهم أن يرجعوه إلى مصنع النجار. أما هو فكان يريد أن يفتح عيوننا لنبصر فجر يوم جديد.
إن أمه وإخوته كانوا يريدون أن يعيش في ظل الموت. أما هو فقد استنهد الموت على تلك التلة ليظل حيا في ذاكرتنا التي لا تنام.
إنني أعرف هذه المناجذ التي تحفر الأنفاق بدون غاية معروفة. أليسوا هم الذين يتحاملون على يسوع بقولهم إنه كان يعظم نفسه عندما قال للجموع: أنا الطريق والباب للخلاص، وإنه دعا نفسه الحياة والقيامة؟
ولكن يسوع لم يدع لنفسه أكثر مما يدعي شهر أيار في مده.
أفما كان له أن يعلن الحقيقة اللامعة لأن لمعانها كان شديدا؟
فقد قال بالحقيقة إنه الطريق والحياة والقيامة للقلب، وأنا نفسي أشهد بصحة هذا القول.
أفلا تتذكرونني أنا نيقوذيموس، الذي لم يؤمن بغير الشريعة وأوامر الناموس، وكان في مقدمة الطائعين للقانون؟
فانظروا إلي الآن، تروا رجلا يمشي مع الحياة، ويضحك مع الشمس من ابتسامتها الأولى للجبال حتى تسلم نفسها إلى فراشها وراء التلال.
لماذا تتوقفون أمام كلمة الخلاص؟
فأنا نفسي بواسطته حصلت على خلاصي.
فلا يهمني اليوم ما سيصيبني في الغد؛ لأنني أعرف أن يسوع أنعش منامي وجعل لي من أحلامي البعيدة رفقاء وأصدقاء للطريق.
فهل أصير أصغر من إنسان إذا آمنت بمن هو أعظم من إنسان؟
إن حواجز اللحم والدم قد سقطت عندما خاطبني شاعر الجليل، وقد قبضت علي روح، فارتفعت إلى الأعالي، وفي وسط الهواء جمعت أجنحتي أغنية الهواء النقي.
وعندما نزلت عن متن الريح وظهرت غرابة آرائي في السنهدريم، فإنني حتى في ذلك المجلس الأعلى لم أخسر أغنيتي؛ لأن ضلوعي، التي هي أجنحتي بغير ريش، قد احتفظت بالأغنية وحرستها. وكل ما في الأرض الحقيرة من الفقر المدقع لن يستطيع أن يسلبني كنزي.
قد تكلمت بما فيه الكفاية، دع الطرش يدفنون تمتمة الحياة في آذانهم الميتة، فأنا راض بأنغام قيثارته التي كان يحملها ويضرب على أوتارها عندما سمروا يدي جسده على الصليب ونزفت منهما الدماء.
يوسف الذي من الرامة بعد عشر سنوات
الجدولان النابعان من قلب يسوع
كان في قلب الناصري جدولان يجريان: جدول القرابة مع الله الذي سماه أبا، وجدول الهيام الذي دعاه ملكوت العالم العلوي. وفي عزلتي طالما فكرت فيه، وتبعت هذين الجدولين النابعين من قلبه، فعلى حافة الجدول الأول وجدت نفسي، وكانت نفسي تارة متسولة وهائمة، وطورا أميرة في بستانها.
ثم تبعت الجدول الثاني في قلبه، وفي طريقي وجدت رجلا ضربه اللصوص وسرقوا ذهبه، ولكن الابتسامة لم تفارق شفتيه. ولكنني لم أبعد قليلا حتى وجدت اللصوص الذين سرقوه. وبعد أن تأملت وجوههم رأيت على وجناتهم دموعا لم تذرفها عيونهم بعد.
ثم سمعت خرير هذين الجدولين في أعماقي أنا أيضا، فامتلأت بهجة.
عندما زرت يسوع قبل أن يقبض عليه بيلاطس البنطي والشيوخ بيوم واحد، تكلمنا مليا. وسألته أسئلة كثيرة. وقد أجاب على جميع مسائلي بكمال المسرة. وعندما تركته عرفت أنه هو الرب والسيد لهذه الأرض التي نعيش فيها.
وقد سقطت الأرزة منذ عهد طويل ولكن عطرها سيقيم أبدا.
وسينشد زوايا الأرض الأربع إلى الأبد.
جاورجيوس البيروتي
في الغرباء
كان يسوع مع أصدقائه في حرج الصنوبر وراء سياجي، وكان يخاطبهم.
فوقفت قريبا من السياج أتسمع على كلامه، فقد عرفته من هو؛ لأن شهرته وصلت إلى هذه الشواطئ قبل أن زارها هو.
وعندما فرغ من كلامه تقدمت إليه وقلت له: هلم يا سيدي مع هؤلاء الرجال وشرف منزلي بزيارتك.
فنظر إلي مبتسما وقال: ليس في هذا اليوم يا صاح، ليس في هذا اليوم.
وكان في كلماته بركة، وشعرت بأن صوته يضمني كالرداء الصوفي في ليلة باردة.
ثم التفت نحو أصدقائه وقال: انظروا رجلا لا يحسبنا غرباء، ومع أنه لم ينظرنا قبل اليوم فهو يدعونا إلى بيته.
بالحقيقة إنه لا يوجد غرباء في ملكوتي. إن حياتنا هي حياة جميع الناس، وقد أعطيناها لنعرف جميع الناس، وبتلك المعرفة نحبهم.
إن أعمال جميع الناس هي أعمالنا بعينها الخفية والظاهرة.
أستحلفكم ألا تكونوا ذاتا واحدة، بل ذوات عديدة. مالك البيت ومن لا بيت له، الزارع والزرزور الذي يلتقط الحبوب قبل أن تنام في الأرض، المعطي الذي يعطي بشكر والمستعطي الذي يأخذ بكبرياء ومعرفة.
إن جمال النهار لا يقتصر على ما ترونه أنتم، بل يشمل ما يراه غيركم أيضا.
لأجل هذا قد اخترتكم من بين الكثيرين الذين اختاروني.
ثم نظر إلي وتبسم ثانية وقال: إنني أقول كل هذا لك أنت أيضا، وأنت أيضا ستذكر كلماتي.
ثم توسلت إليه قائلا: يا سيدي أفلا تزورني في بيتي؟
فأجاب: إنني أعرف قلبك وقد زرت بيتك الأكبر.
وعندما مشى قليلا مع تلاميذه قال: أسعد الله مساءك وليكبر الله بيتك حتى يؤوي جميع الهائمين في هذه الأرض.
مريم المجدلية
كان فمه كقلب الرمانة
كان فمه كقلب الرمانة، وكانت ظلال عينيه عميقة.
كان لطيفا كالرجل الذي يعرف قوته.
قد رأيت في أحلامي ملوك الأرض واقفين احتراما في حضرته.
إنني أود أن أتكلم عن وجهه، ولكن كيف أستطيع ذلك؟
فقد كان كالليلة التي لا ظلمة فيها، وكالنهار الذي لا يعرف ضجيج النهار. كان وجها كئيبا، ولكنه كان ممتلئا فرحا.
إنني أتذكر جيدا كيف رفع يده مرة نحو السماء، فبدت أصابعه المتفرقة كأغصان الدردار.
وأذكره جيدا وهو يقيس الماء بخطواته. إنه لم يكن يمشي. فهو نفسه كان طريقا فوق الطريق، كما أن السحابة التي فوق الأرض تنحدر لتنعش الأرض.
بيد أنني عندما وقفت أمامه وخاطبته كان رجلا، وكان وجهه يملأ عين الناظر إليه بقوة. وقد قال لي: ماذا تريدين يا ميريام؟
إنني لم أجاوبه، ولكن أجنحتي احتضنت سري، فسرت الحرارة في جسدي.
وإذ لم أقدر على احتمال نوره تركته وسرت في طريقي، ولكن عاري فارقني. ولم يبق لي سوى الحياة فقط، والرغبة في أن أكون وحدي لتضرب أصابعه على أوتار قلبي.
يوثام الناصري إلى أحد الرومانيين
في الحياة والوجود
أنت يا صديقي كجميع الرومانيين، تود أن تتصور الحياة أكثر من أن تحياها، وتفضل أن تحكم الأرض ولا تكون محكوما من الروح .
أنت تفضل أن تقهر الشعوب فيلعنك أبناؤهم، على أن تبقى في روما مباركا سعيدا.
أنت لا تفكر إلا في الجيوش الزاحفة والسفن الماخرة في البحر.
إذن كيف تستطيع أن تفهم يسوع الناصري، الرجل البسيط الوحيد الذي جاء بغير الجيوش والسفن، ليؤلف مملكة في القلب وإمبراطورية في حرية فضاء النفس؟
كيف تقدر أن تفهم هذا الرجل الذي لم يكن محاربا لكنه جاء بقوة الأثير القدير؟
فهو لم يكن إلها، بل كان إنسانا مثلنا، ولكن فيه نهض مر الأرض ليلاقي لبان السماء، وفي كلماته تعانقت تمتمتنا مع همس غير المنظور، وفي صوته سمعنا أنشودة لا يسبر غورها.
نعم، كان يسوع إنسانا ولم يكن إلها، وفي هذا منتهى عجبنا ودهشتنا.
ولكن أنتم الرومانيين لا تتعجبون إلا أمام الآلهة. وما من رجل يدهشكم؛ لأجل ذلك لا تفهمون الناصري.
فقد اختص هو بشباب الفكر، أما أنتم فقد اختصصتم بشيخوخته.
أنتم تحكموننا اليوم، ولكن فلننظر يوما آخر.
من يدري إذا كان هذا الرجل الذي لا جيوش ولا سفن لديه سيحكم الغد؟
نحن الذين نتبع الروح ستنسكب أعراقنا دماء في سفرنا وراءه. ولكن رومة ستضطجع كالهيكل العظمي في الشمس.
نحن سنتألم كثيرا، ولكننا سنصبر، وسنعيش، ولكن رومة يجب أن تصير إلى التراب.
ولكن إذا كانت رومة، بعد أن توضع من رفعتها وتصير إلى ضعتها، تتلفظ باسمه، فإنه يصغي إلى صوتها وينفخ في عظامها نسمة حياة جديدة، لتنهض ثانية مدينة حية بين مدن الأرض.
كل هذا سيفعله بغير جيوش ولا عبيد يجذفون في قواربه؛ لأنه سيكون وحيدا.
أفراييم من أريحا
وليمة العرس الثاني
عندما جاء ثانية إلى أريحا ذهبت إليه وقلت له: يا معلم، غدا يتخذ ابني لنفسه زوجة، فأرجو من فضلك أن تحضر إلى وليمة العرس وتشرفنا بحضورك، كما شرفت العرس في قانا الجليل.
فأجاب وقال: بالحقيقة إني كنت ضيفا في وليمة عرس مرة، ولكنني لن أكون ضيفا ثانية، فأنا نفسي اليوم عروس.
فقلت له: أتوسل إليك يا معلم أن تأتي إلى وليمة عرس ابني.
فتبسم كأنه يريد أن يوبخني، وقال: لماذا تتوسل إلي؟ ألا يوجد عندك كفاية من الخمر؟
فقلت له: إن زقاق الخمر ممتلئة يا معلم، بيد أنني أتضرع إليك أن تحضر إلى وليمة عرس ابني.
حينئذ قال لي: من يدري؟ فقد أحضر. نعم قد أحضر إذا كان قلبك مذبحا في هيكلك.
وفي الغد تزوج ابني، ولكن يسوع لم يأت إلى وليمة العرس.
ومع أنه جاءنا ضيوف كثيرون فقد شعرت بأنه لم يأت أحد.
بالحقيقة إنني أنا نفسي الذي أستقبل الضيوف لم أكن هناك.
ومن يدري؟ فلعل قلبي لم يكن مذبحا عندما دعوته. وقد أكون رغبت في أعجوبة ثانية.
برقا التاجر الصوري
في البيع والشراء
في عقيدتي أنه لا اليهود ولا الرومانيون فهموا يسوع، حتى ولا تلاميذه أنفسهم الذين يبشرون اليوم باسمه.
فالرومانيون قتلوه، وهذه كانت زلة لهم، والجليليون أحبوا أن يصنعوا منه إلها، وهذه كانت غلطة لهم.
كان يسوع من قلب الإنسان.
قد قطعت البحار السبعة بمراكبي، وتعاملت مع الملوك والأمراء والمحتالين والخداعين في ساحات المدن القصية، ولكنني لم أر رجلا يفهم التجار كما فهمهم يسوع.
سمعته مرة يضرب هذا المثل قال: سافر أحد التجار من بلاده إلى بلاد غريبة، وكان له خادمان، فأعطى كلا منهما قبضة من الذهب، وقال لهما: كما أنني أمضي إلى بلاد الغربة وراء الربح هكذا يجدر بكما أن تطلبا الربح من أموالكما، فاعتصما بالدقة في معاملة الناس أخذا وعطاء.
وبعد سنة رجع التاجر، فسأل خادميه عما فعلاه بذهبه، فقال له الخادم الأول: تأمل يا سيدي، فقد بعت واشتريت وربحت. فأجابه التاجر قائلا: الربح هو لك؛ لأنك تصرفت حسنا وكنت أمينا لي ولنفسك.
ثم وقف الخادم الثاني، وقال له: يا سيدي قد خفت أن أخسر أموالك ولذلك لم أشتر ولم أبع، وهو ذا مالك كله في هذا الكيس. فأخذ التاجر ذهبه، وقال له: يا قليل الإيمان، إنك لو تاجرت وخسرت لكان ذلك خيرا لك من أن تكون كسولا؛ لأنه كما أن الريح تفرق البذور وتنتظر الأثمار هكذا يجب أن يفعل كل التجار؛ لذلك كان الأجدر بك أن تخدم الآخرين.
وعندما تكلم يسوع بهذا، فإنه وإن لم يكن تاجرا فقد كشف القناع عن سر التجارة.
وفوق هذا. فإن أمثاله كثيرا ما كانت تحمل إلى فكري بلدانا أبعد من أسفاري، ولكنها أقرب من بيتي ومقتنياتي.
ولكن الناصري الشاب لم يكن إلها، ويؤلمني أن أرى أتباعه يسعون أن يعملوا من هذا الحكيم إلها!
فومية
رئيسة كاهنات صيدا إلى رفيقاتها الكاهنات
احملن أعوادكن لأغني.
اضربن على الأوتار الفضية والذهبية، فإني أريد أن أترنم بذكرى الرجل الشجاع الذي قتل وحش الوادي، ثم جلس ينظر إلى ما قتل بعين الشفقة.
احملن أعوادكن لنغني معا للسنديانة الرفيعة على الأعالي.
لنترنم بذكرى الرجل الذي يلمس قلبه السماء وتحيط يده بالأوقيانوس، الذي قبل شفتي الموت الشاحبتين، ولكنه يرتجف الآن أمام فم الحياة.
احملن أعوادكن لنغني معا للصياد الجريء على التلة، الذي اهتدى إلى الحيوان، وأطلق سهمه غير المنظور، فأسقط القرن والناب إلى الأرض.
احملن أعوادكن لنغني معا للشاب الباسل الذي غلب مدن الجبال، ومدن السهول المتجمعة كالأفاعي في الرمال، فهو لم يحارب ضد الأقزام بل ضد الآلهة الجائعة للحمنا والمتعطشة لدمنا.
وكالصقر الذهبي الأول لم يزاحم غير النسور؛ لأن أجنحته كانت كبيرة وفخورة، فلم تشأ أن تضرب من هو أضعف منها جناحا.
احملن أعوادكن لنغني معا أغنية البحر والجرف.
فالآلهة قد ماتوا، وهم مضطجعون بهدوء في الجزيرة المنسية في البحر المهجور. أما الذي قتلهم فإنه جالس على عرشه، قد كان في شرخ شبابه لأن الربيع لم يكن قد أعطاه لحية، وكان صيفه فتيا في حقله.
احملن أعوادكن لنغني معا للعاصفة في الغابة، التي تحطم الغصن اليابس والفرع العاري من الورق، بيد أنها ترسل الجذر الحي ليمعن في امتصاص حليبه من ثدي الأرض.
احملن أعوادكن لنترنم معا بأنشودة حبيبتنا الخالدة.
مهلا يا رفيقاتي، ولا تضربن على أوتاركن.
اتركن أعوادكن، فنحن لا نقدر أن نغني الآن.
لأن الهمس الضعيف الذي تبعثه ألحاننا لا يقدر أن يصل إلى عاصفة ولا قوة له على اختراق عظمة صمته.
اتركن أعوادكن وتجمعن حوالي لأعيد أقواله على مسامعكن وأخبركن بأعماله؛ لأن صدى صوته هو أعمق من محبتنا.
بنيامين الكاتب
دع الأموات يدفنون موتاهم
يقولون إن يسوع كان عدوا لرومة ولليهودية.
أما أنا فأقول إن يسوع لم يكن عدوا لإنسان ولا لجنس من الناس.
فقد سمعته يقول إن طيور الجو وقنن الجبال لا تهتم بالأفاعي في أجحارها وأنفاقها.
دع الموتى يدفنون موتاهم، والبس أثواب ذاتك بين الأحياء، وحلق رفيعا. لم أكن من تلاميذه. ولكنني تبعته مع الجماهير الكثيرة التي تبعته للتأمل بوجهه.
وكان ينظر إلى رومة وإلينا نحن عبيد رومة كما ينظر الأب إلى أولاده اللاعبين بلعبهم وهم يتخاصمون فيما بينهم على اللعبة الكبيرة، وكان يضحك من أعاليه.
أجل، كان يسوع أعظم من الولاية والأمة، بل كان أعظم من الثورة.
كان وحيدا منفردا، وكان يقظة كاملة.
وقد بكى كل ما لم نسكبه من الدموع وتبسم كل ثورتنا وتمردنا.
ونحن قد عرفنا أنه كان في طوقه أن يولد مع جميع غير المولودين بعد، فيساعدهم على أن يروا، ليس بعيونهم، بل ببصيرته.
كان يسوع بداءة لمملكة جديدة على الأرض، ولن يكون لتلك المملكة انتهاء.
فقد كان ابنا وحفيدا لجميع الملوك الذين بنوا مملكة الروح.
ولم يحكم عالمنا أحد قط إلا ملوك الروح.
زكا
في مصير يسوع
أنتم تؤمنون بما تسمعونه يقال أمامكم، فآمنوا بالأحرى بما لا يقال؛ لأن صمت الناس أقرب إلى الحقيقة من أقوالهم.
وتسألون إذا كان يسوع قادرا أن يتخلص من عار موته وينقذ أتباعه من الاضطهاد.
وأنا أجيب أنه بالحقيقة كان قادرا أن يتخلص من الموت لو أراد، بيد أنه لم يطلب السلامة، ولم يهمه أن يحمي قطيعه من ذئاب الليل.
فقد عرف قسمته، وعرف ما يحمله الغد لمحبيه المخلصين؛ ولذلك سبق فأنبأ بما سيصيب كل واحد منا. إنه لم ينشد موته ولكنه قبل الموت، كما أن الفلاح الذي يواري حنطته في قلب الأرض يقبل الشتاء، ثم ينتظر الربيع والحصاد، وكما يضع البناء أكبر الحجارة في الأساس.
إن جماعته قد تألفت من رجال من الجليل ومن منحدرات لبنان. وكان في منال معلمنا أن يرجع بنا إلى بلادنا فنعيش مع شبابه في بساتيننا حتى تأتي الشيخوخة فتردنا إلى قلب السنين.
هل قام في طريقه حاجز يرده إلى هياكل ضياعنا حيث كان الناس يقرءون الأنبياء ويحسرون القناع عن قلوبهم؟
ألم يقدر أن يقول: ها أنا ماض إلى الشرق مع الريح الغربية، وبقوله هذا يصرفنا بابتسامة على شفتيه؟
نعم كان قادرا أن يقول لنا: ارجعوا إلى أهلكم لأن العالم غير مستعد لاستقبالي؛ ولذلك سأرجع بعد ألف سنة، فعلموا أولادكم أن ينتظروا عودتي، فقد كان قادرا على كل هذا لو أراده.
ولكنه عرف أنه لكي يبني الهيكل غير المنظور يجب عليه أن يضع نفسه حجر زاوية في أساسه، ويضعنا حواليه حصى صغيرة تلتصق به لقوام البناء.
وعرف أيضا أن عصارة شجرته الممتدة أغصانها في السماء لا تأتي إلا من جذورها؛ ولذلك سكب دمه على جذورها، ولم يحسب ذلك ضحية بل ربحا.
الموت يكشف الأسرار، وقد كشف موت يسوع سر حياته.
فلو أنه هرب منكم وأنتم أعداؤه لكنتم غلبتم العالم؛ ولذلك لم يهرب؛ لأنه ما من رجل يربح الكل إلا إذا أعطى الكل.
نعم، نعم كان في مقدرة يسوع أن يهرب ويعيش إلى شيخوخة كاملة، ولكنه عرف مرور الفصول، ورغب في ترنيم أنشودة نفسه.
أي رجل يجابه عالما متسلحا ولا يفضل أن ينغلب لحظة لكي يسود على جميع الأجيال؟
والآن، أتريدون أن تعرفوا من قتل يسوع بالحقيقة، الرومانيون أم كهنة أورشليم؟
فاعلموا أنه لا الرومانيون قتلوه، ولا الكهنة، ولكن العالم بأسره وقف على تلك التلة ليعطيه حقه من الاحترام.
يوناثان
بين زنابق المياه
كنت مع حبيبتي نجذف في أحد الأيام في بحيرة من الماء العذب، وكانت تلال لبنان تحيط بنا.
وكنا نمر بالصفصاف الباكي، وكنا نتمتع بظلاله الجميلة المرتسمة حوالينا.
وفيما أنا أجذف سائرا بالقارب في المياه، أخذت حبيبتي قيثارتها وشرعت تغني هكذا:
أي زهر غير عرائس النيل يعرف المياه والشمس ؟
وأي قلب غير قلبها سيعرف الأرض والسماء؟
تأمل يا حبيبي هذه الزهرة الذهبية العائمة بين العلو والعمق كما نسبح أنت وأنا بين المحبة التي كانت منذ الأزل وستظل إلى منتهى الدهور.
حرك مجذافك يا حبيبي لأضرب على أوتار قيثارتي لنتبع الصفصاف ولا نهمل زنابق المياه.
في الناصرة شاعر قلبه كقلب عرائس النيل، وقد زار هذا الشاعر نفس المرأة، وهو يعرف عطشها المتفجر من المياه، ويعرف مجاعتها للشمس في حين أن كل شفاهها شبعانة.
يقولون إنه يعيش في الجليل.
أما أنا فأقول إنه يجذف معنا.
أفلا تقدر أن تنظر وجهه يا حبيبي؟
أفلا تستطيع أن ترى أنه حيث ينحني الصفصاف وتجتمع ظلاله في المياه فهناك يتحرك هذا الشاعر كما نتحرك نحن؟
جميل أن نعرف شباب الحياة أيها الحبيب.
جميل أن نعرف أفراحه المترنمة.
أود لو أن مجاذيفك تظل أبدا في يدك، وأن تظل لي قيثارتي ذات الأوتار، حيث تضحك عرائس النيل في الشمس ويغتسل الصفصاف في المياه، ويرافق صوته حركات أوتاري.
حرك مجذافك يا حبيبي لأضرب على أوتار قيثارتي.
حنة من بيت صيدا سنة 73
عمتي في صباها
قد تركتنا عمتي في صباها لتعيش في كوخ قريب من كرم قديم لوالدها.
وكانت تعيش وحدها، وكان أبناء المزارع المجاورة يأتون إليها في أمراضهم، وكانت تشفيهم بالأعشاب الخضراء، وبالجذور والأزهار اليابسة في الشمس.
وكانوا يحسبونها نبية، ولكن فريقا من الناس دعوها عرافة ومشعوذة. وفي أحد الأيام قال لي والدي: خذي هذه الأرغفة من خبز الحنطة إلى أختي، وهذه الجرة من الخمر والسلة من الزبيب.
فوضعت كل هذا على ظهر حمار، وسرت في طريقي حتى بلغت الكرم، ووصلت إلى كوخ عمتي، ففرحت برؤيتي جدا.
فيما نحن جلوس في فيء النهار مر بنا رجل على الطريق، وحيا عمتي قائلا: نعمت مساء، ولتحل عليك بركة الليل.
فنهضت للحال ووقفت أمامه إجلالا واحتراما وقالت: ونعمت مساء يا سيد جميع الأرواح الصالحة وغالب جميع الأرواح الشريرة.
فنظر إليها الرجل بعينين تذوبان رقة وسار في طريقه.
أما أنا فضحكت في قلبي؛ لأني ظننت أن عمتي مجنونة، ولكنني أعرف اليوم أنها لم تكن مجنونة؛ لأنني أنا هي التي لم تفهم.
وقد علمت بضحكي، مع أنه كان مخفيا في قلبي.
ولذلك قالت لي بغير غضب: اسمعي يا بنيتي، وأصغي وتذكري كلامي، إن هذا الرجل الذي مر بنا الآن، كخيال الطير الطائر بين الشمس والأرض، سيتغلب على القياصرة وإمبراطورية القياصرة، وسيبارز الثور المجنح في بلاد الكلدان والسبع ذا الرأس البشري في مصر، وسيقهرهما، وسيحكم العالم بأسره.
ولكن هذه الأرض التي يمشي عليها الآن ستصير إلى لا شيء، وأورشليم الجالسة بغطرسة على تلتها ستطرد مخزية في الدخان أمام ريح الخراب.
وعندما تلفظت بهذه الكلمات تحول ضحكي إلى هدوء وسكون، فقلت لها: ومن هو هذا الرجل؟ ومن أي بلاد وأية قبيلة جاء؟ وكيف سيغلب الملوك العظماء، وممالك الملوك العظماء؟!
فأجابت: قد ولد في هذه البلاد، ولكننا رأيناه بأحلام حنيننا منذ بداءة السنين، وهو من جميع القبائل؛ ولذا فإنه لا يختص بواحدة منها، وسيغلب بكلمة فهمه ولهيب روحه.
ثم نهضت فجأة ووقفت كالصخرة الراسخة وقالت: فليسامحني ملاك الرب على التلفظ بهذه الكلمة أيضا، وسيقتل، ويدرج شبابه بالأكفان، ويضطجع بصمت إلى جانب قلب الأرض الصامت، ستنوح عليه بنات اليهودية.
ثم رفعت يديها نحو السماء وتكلمت ثانية وقالت: ولكنه سيقتل بالجسد فقط.
وسينهض بالروح ويخرج بجيوشه من هذه الأرض التي تولد فيها الشمس إلى الأرض التي تقتل فيها الشمس عند المساء.
وسيكون اسمه مقدما بين جميع الأمم.
كانت عمتي نبية طاعنة في السن عندما قالت هذه الأقوال. أما أنا فكنت فتاة صغيرة، حقلا لم يفلح بعد، وحجرا لم يوضع بعد في حائط.
بيد أن كل ما نظرته في مرآة فكرها قد حدث أمام عيني.
قد نهض يسوع الناصري من الموت، وقاد رجالا ونساء إلى بلاد غروب الشمس، والمدينة التي أسلمته للمحاكمة صارت إلى الخراب. وفي قاعة المحاكمة حيث جرت محاكمته وحكم عليه بالموت، ينعق البوم بمراثيه، والليل يذرف ندى قلبه دموعا على الرخام المتحطم.
وأنا اليوم شيخة حنت السنون ظهرها. وقد مات أهلي وصارت أمتي إلى الفناء.
وقد رأيته مرة واحدة بعد ذلك اليوم، وسمعت صوته ثانية، وكان ذلك على رأس تلة عندما كان يخاطب أصدقاءه وأتباعه.
وعلى رغم شيخوختي الحاضرة ووحدتي المريرة فهو يزورني في أحلامي، فهو يأتي كملاك أبيض ذي جناحين، فيخرس بنعمته رعب ظلمتي، ويرفعني إلى عالم رفيع من الأحلام العلوية.
إنني ما زلت حقلة غير مفلوحة، وثمرة ناضجة لم تسقط عن أمها.
وأعظم ما أملكه في هذا العالم هو حرارة الشمس وذكرى ذلك الرجل.
وأنا أعرف أنه لن يقوم في أمتي ملك ولا نبي ولا كاهن كما أنبأت عمتي من قبل.
لأننا سنسير من الوجود مع مجاري الأنهار ولن يعرف اسمنا.
ولكن الذين عبروا مياهه في وسط مجاريها ستظل ذكراهم في العالم؛ لأنهم عبروا مياهه في وسط مجاريها.
منسى المحامي الأورشليمي
خطاب يسوع وحركاته
نعم، قد سمعته غير مرة متكلما، فقد كان الكلام حاضرا على شفتيه في كل وقت.
وقد أعجبت به كرجل وليس كزعيم؛ لأن مواعظه كانت تفوق ذوقي، أو لعلها كانت تفوق أفكاري؛ لأنني لا أحب أن يعظني أحد.
والذي سحرني فيه هو صوته وإشارته وليس مادة خطابه، نعم قد سحرني ولكنه لم يقنعني؛ لأنه كان كثير الإبهام، بعيد الخيال، وافر التلبس؛ ولذلك لم يصل إلى فكري.
قد عرفت كثيرين من أمثاله، ولكنهم لم يكونوا مثابرين على أعمالهم ثابتين في جهادهم نظيره، فقد سحرت فصاحتهم آذان الناس وأفكارهم الظاهرة، ولكنهم لم يبلغوا إلى هياكل القلوب.
ومن الأسف أن نرى أعداءه يحيطون به ويبالغون في اضطهاده حتى الموت؛ لأن موته لم يكن ضروريا، فالعداء الذي أظهره له الناس سيضيف إلى عزمه عزما، وسيحول لطفه إلى قوة قاهرة.
أفليس بالغريب أنك بمقاومتك لأي إنسان تمنحه شجاعة لم تكن له قبل مقاومتك، وأنك بتتبعك لخطواته تسلحه بالأجنحة؟
إنني لا أعرف أعداءه، ولكنني واثق بخوفهم من رجل لا يعرف الأذية قد أعاروه قوة وجعلوا حياته خطرا عليهم جميعا.
يفتاح من قيصرية
رجل يكره ذكر يسوع
إن هذا الرجل الذي يملأ ذكره أيامكم، ويلزم ظله لياليكم، هو العلقم في فمي، ومع ذلك فأنتم تخدشون أذني بأقواله، وتزعجون أفكاري بأعماله.
قد سئمت سماع أقواله وكل ما فعل، حتى أن مجرد ذكر اسمه يزعجني، ومثله اسم بلاده، إنني لا أريد أن أسمع شيئا يختص به.
لماذا تصنعون نبيا من رجل لم يكن سوى خيال؟ لماذا ترون برجا من تلة الرمل هذه، وتتصورون بحيرة من نقط المطر المتجمعة في الحفرة الصغيرة الناشئة عن نعل الفرس؟
إنني لا أحتقر الصدى الذي ترجعه كهوف الأودية، ولا الظلال الطويلة التي يرسمها غروب الشمس، ولكنني لا أريد أن أصغي إلى الأخاديع المترددة في رءوسكم، ولا أرغب في درس تأثيراتها في عيونكم.
أية كلمة قالها يسوع ولم يقل مثلها هلال؟ وأية حكمة أعلنها ولم يعلنها غملائيل؟ وما هي نسبة تمتمته لصوت فيلو؟ وما هي الصنوج التي ضرب عليها ولم يضرب عليها قبل ميلاده؟
إنني أصغي إلى الصدى الذي ترجعه الكهوف إلى الأودية الصامتة، وأتأمل الظلال الطويلة التي ترسمها شمس الغروب على الأرض، ولكنني لا أطيق أن أرى قلب هذا الرجل يرفع صدى قلب آخر، ولا أقبل أن اسمع خيال العرافين يسمي نفسه نبيا.
من يقدر على الكلام بعد أشعيا؟ ومن يجسر على الإنشاد بعد داود؟ وهل تولد الحكمة اليوم بعد أن انضم سليمان إلى آبائه؟ وماذا نقول في أنبيائنا الذين كانت ألسنتهم سيوفا وشفاههم ألسنة لهيب؟ هل تركوا سنبلة واحدة لهذا اللقاط في الجليل؟ أو ثمرة ساقطة لهذا المتسول القادم من الشمال؟ إنه لم يجد لنفسه عملا سوى كسر الخبز الذي خبزه أسلافنا قبله، وسكب الخمرة التي عصرتها أقدامهم المقدسة من عنب القدماء.
إنني أحترم يد الخزاف دون الرجل الذي يشتري الخزف، إنني أكرم الجالسين أمام النول دون الكسالى الذين يلبسون الأثواب.
فمن كان يسوع الناصري هذا؟ ومن هو؟ إنه رجل لم يجرؤ أن يعيش بأفكاره؛ ولذلك صار إلى العدم الذي هو نهايته.
فالمرجو من فضلكم ألا تخدشوا مسامعي بما قال وما فعل، إن قلبي ممتلئ بوحي الأنبياء القدماء، وهذا يكفيني.
يوحنا التلميذ الحبيب في شيخوخته
يسوع الكلمة
ترغبون إلي أن أتكلم عن يسوع، ولكن كيف أخدع أنشودة الوجد الإلهي في الوجود بهذه القصبة المجوفة؟
ففي كل مظهر من مظاهر النهار كان يسوع يرى الآب ماثلا أمامه، فقد رآه في السحب، وفي ظلال الغيوم المارة فوق الأرض، ورأى وجه الآب منعكسا على البرك الهادئة، وآثار وقع قدميه مرتسمة على الرمال، وكثيرا ما كان يغمض عينيه ليتأمل العينين المقدستين.
وكان الليل يخاطبه بصوت الآب، وفي الوحدة كان يسمع ملائكة الرب تناديه. وعندما كان يطلب الراحة في النوم كان يسمع همس السماوات في أحلامه.
وكان في الغالب سعيدا في صحبتنا، وكان يدعونا إخوة.
فتأملوا كيف أن الكلمة الأولى عند الآب يدعونا إخوة، وما نحن إلا مقاطع حقيرة لم يتلفظ بها إلا في الأمس القريب.
ولعلكم تسألون: لماذا سميته الكلمة الأولى؟
فأصغوا لأجيبكم: في البدء تحرك الله في الفضاء، ومن حركته التي لا قياس لها ولدت الأرض وفصولها.
ثم تحرك الله ثانية، فانبثت الحياة، فصار حنين الحياة ينشد العلو والعمق، ليكون له الأكثر فالأكثر من ذاته.
ثم تكلم الله، فكان الإنسان من كلماته، وكان الإنسان روحا مولودة من روح الله.
وعندما تكلم الله هكذا كان المسيح كلمته الأولى، وكانت تلك الكلمة كاملة. وعندما جاء يسوع الناصري إلى العالم سمع العالم به الكلمة الأولى الخارجة من فم الله، وصار صوت تلك الكلمة لحما ودما.
إن يسوع الممسوح هو الكلمة الأولى التي خاطب بها الله العالم كما لو أن شجرة من التفاح في بستان تزهر وتعقد قبل بقية الأزهار بيوم واحد، وكان في بستان الله في ذلك اليوم عصر كامل.
نحن جميعا أبناء العلي وبناته، ولكن الممسوح كان ابنه البكر، الذي قطن في جسد يسوع الناصري، وسار بيننا ورأيناه بعيوننا.
كل هذا أقوله لكم لكي تفهموا ليس فقط بالفكر بل بالروح. إن الفكر يزن ويقيس، ولكن الروح تصل إلى قلب الحياة وتعانق أسرارها، وبذرة الروح لا ولن تموت.
إن الريح قد تهب ثم ينقطع هبوبها، والبحر يتمدد ثم يتقلص، ولكن قلب الحياة دائرة هادئة ساكنة والكواكب التي تنيرها ثابتة إلى الأبد.
مانوس من بومبي إلى يوناني
في آلهة الساميين
إن اليهود كجيرانهم الفينيقيين والعرب لا يأذنون لآلهتهم أن تستريح هنيهة على متون الرياح.
فهم كثيرو الاهتمام بآلهتهم وكثيرو الملاحظة بعضهم على بعض في شأن الصلاة والعبادة والتضحية.
فيما نكون نحن الرومانيين نبني هياكل الرخام البديعة لآلهتنا ترى هؤلاء الشعوب يتجادلون في طبيعة إلههم. نحن في ساعات وجدنا بآلهتنا نغني ونرقص حول مذابح المشتري ونبتون والمريخ والزهرة، أما هم ففي ساعة وجدهم يلبسون المسوح ويغطون رءوسهم بالرماد، وكثيرون منهم يبكون ويندبون اليوم الذي ولدوا فيه.
أما يسوع، الرجل الذي أعلن الله للناس كائنا يعشق المسرة والفرح، فقد عذبوه وقتلوه.
إن هؤلاء الناس لا يريدون أن يسعدوا مع إله سعيد، فهم لا يعرفون غير آلهة آلامهم.
وأغرب من هذا أن كل أصدقاء يسوع وتلاميذه الذين عرفوا فرحه وسمعوا ضحكه يضعون صورة لكآبته ويعبدون تلك الصورة.
وفي مثل هذه الصورة لا يرتفعون إلى إلههم، بل ينزلون إلههم إلى مستوى أنفسهم.
وعلى كل فأنا أعتقد أن الفيلسوف يسوع، الذي لم يكن مختلفا عن سقراط، ستكون له السلطة على أمته، وربما على غيرها من الأمم.
لأننا جميعا مخلوقات كئيبة ولها شكوكها التافهة، فإذا قال لنا رجل: فلنفرح مع الآلهة، فنحن لا نتردد في الخضوع لصوته. عجيب كيف أن كآبة هذا الرجل قد تحولت إلى طقس.
إن هؤلاء الناس يريدون أن يهتدوا إلى أدونيس آخر، إله يقتل في الغابة، ليحتفلوا بقتله. ويا للأسف كيف يعرضون عن ضحكه!
ولكن لنعترف؛ كروماني إلى يوناني: هل نصغي نحن أنفسنا إلى ضحك سقراط في شوارع أثينا؟! وهل يقدر أحد منا أن ينسى كأس الشوكران حتى ولو كنا في مسرح ديونيسيوس؟
أفلا يقف آباؤنا حتى اليوم على زوايا الشوارع ليتحادثوا عن همومهم، ويتمتعوا بلحظة من السعادة بذكرى النهاية الكئيبة التي سار إليها جميع رجالنا العظماء؟
بيلاطس البنطي
في الطقوس والخرافات الشرقية
قد حدثتني امرأتي عنه غير مرة قبل أن أحضروه إلي، ولكنني لم أهتم للأمر.
إن امرأتي كثيرة الأحلام، وهي كالكثيرات من النساء الرومانيات في طبقتها، قد استسلمت للطقوس والخرافات الشرقية.
ولكن هذه الطقوس كثيرة الخطر على الإمبراطورية، وكلما وجدت مثل هذه الخرافات سبيلا إلى قلوب نسائنا تضاعفت الأخطار الناتجة عنها والتي قد تؤدي إلى خرابنا.
إن مصر قد صارت إلى الزوال عندما حمل إليها مهاجرو العرب الإله الواحد من صحرائهم. واليونان انقلبت وسقطت إلى الحضيض عندما جاءت إليها عشتروت ووصيفاتها السبع من شواطئ سورية.
أما يسوع هذا فإنني لم أره قبل أن أسلم إلي كفاعل إثم، وعدو لأمته ولرومة، فقد أحضروه إلى دار المحاكمة رابطين يديه إلى جسده بحبل غليظ.
كنت جالسا في سرادقي، فمشى إلي بخطوات طويلة ثابتة ثم وقف منتصبا وظل رأسه مرتفعا.
إنني لا أستطيع أن أتصور ما الذي نزل علي في تلك اللحظة، ولكنني شعرت فجأة برغبة خفية، مع أنه لم يكن لها أثر في إرادتي، كانت تدفعني إلى النهوض من سرادقي والسجود أمامه.
نعم قد شعرت كما لو أن القيصر نفسه دخل داري؛ لأن الواقف أمامي كان أعظم من رومة نفسها.
ولكن هذا الشعور لم يقم في قلبي غير لحظة واحدة، وللحال رأيت أمامي رجلا بسيطا تتهمه أمته بالخيانة، وكنت أنا حاكما وقاضيا عليه.
فسألته عن أمره فلم يجب، ولكنه نظر إلي، وكان في نظرته كثير من الشفقة، كأنما هو الحاكم والقاضي علي.
ثم تصاعد من الخارج صراخ الشعب، أما هو فظل صامتا ينظر إلي والشفقة ملء عينيه.
فخرجت ووقفت على درجات القصر، وعندما رآني الشعب انقطع عن الصراخ، فقلت لهم: ماذا تريدون من هذا الرجل؟
فصرخوا بصوت واحد: نريد أن نصلبه لأنه عدونا، وعدو رومة.
وكان قوم منهم يقولون: ألم يقل إنه ينقض الهيكل؟ بل ألم يدع المملكة لنفسه؟ إننا لا نريد ملكا غير قيصر.
فتركتهم ورجعت إلى دار المحاكمة أيضا، فرأيته لا يزال واقفا هناك وحده، وما برح رأسه مرتفعا.
فتذكرت في الحال ما كنت قد سبقت فقرأته لأحد فلاسفة الإغريق: إن الرجل المعتزل هو أقوى الرجال. ففي تلك الدقيقة كان الناصري أعظم من كل أمته.
ولم أشعر برأفة عليه؛ لأنه كان فوق رأفتي.
فسألته: هل أنت ملك اليهود؟ ولكنه لم يقل كلمة.
فسألته ثانية: ألم تقل إنك ملك اليهود؟
فنظر إلي، ثم أجابني بصوت هادئ: أنت نفسك أعلنتني ملكا، ولعلني لهذا ولدت؛ ولهذا أتيت لأشهد للحق.
تأملوا رجلا يتكلم عن الحق في مثل هذا الموقف.
ولكنني تجلدت وقلت بصوت مرتفع لنفسي وله: وما هو الحق وماذا ينتفع البريء من الحق ويد منفذ حكم القتل على عنقه؟
حينئذ قال يسوع بقوة: ما من رجل يستطيع أن يحكم للعالم إلا بالروح والحق.
فسألته قائلا: وهل أنت من الروح؟
فأجاب: وأنت أيضا من الروح وإن كنت لا تدري.
وما هي الروح وما هو الحق في الوقت الذي كنت أنا، من أجل سلامة البلاد، وأمته بغيرتها على طقوسها القديمة، نسلم رجلا بريئا للموت؟
ما من رجل ولا أمة ولا مملكة تريد أن تتعرج أمام الحق السائر في طريقه إلى كمال ذاته.
فقلت له ثانية: هل أنت ملك اليهود؟
فأجاب: أنت نفسك قلت هذا، إنني قد غلبت العالم قبل هذه الساعة.
وهذه هي العبارة الواحدة التي لم تكن في موضعها من جميع ما قاله؛ لأن رومة وحدها غلبت العالم.
ولكن أصوات الشعب تصاعدت ثانية، وكان صراخهم يشق عنان الفضاء، فنزلت عن عرشي وقلت له: اتبعني.
وخرجت ووقفت ثانية على درجات القصر ووقف هو إلى جانبي.
وعندما رآه الشعب تعالى صراخهم كالرعد القاصف، ولم أسمع من زعاقهم غير هذه الكلمات: اصلبه، اصلبه!
فأسلمته إلى الكهنة الذين أسلموه إلي، وقلت لهم: افعلوا ما شئتم بهذا الصديق، وإذا شئتم اصطحبوا جنودا رومانيين لحراسته.
فأخذوه في الحال، وأمرت أن يكتب على الصليب فوق رأسه: «يسوع الناصري ملك اليهود»، وكان الأجدر بي أن أقول: «يسوع الناصري الملك».
فعروا الرجل وجلدوه وصلبوه.
قد كان في طوقي أن أخلصه، ولكن خلاصه كان قد أثار نيران الثورة في البلاد. والحكمة تقضي أبدا على الحاكم في ولاية رومانية أن يحتمل بالصبر جميع الوساوس الدينية في الأمة المغلوبة.
وأنا أعتقد حتى الساعة أن الرجل كان أعظم من ثائر مقلق، وما أمرت به لم يكن بإرادتي، وإنما فعلته من أجل مصلحة رومة.
وبعد ذلك بقليل من الزمن تركنا سورية، ومن تلك الساعة صارت امرأتي كثيرة الكآبة، وكثيرا ما أرى في هذا البستان الجميل نفسه مأساة كئيبة مرتسمة على وجهها.
وقد أخبروني أنها تتكلم كثيرا عن يسوع لنساء رومة.
فتأملوا كيف أن الرجل الذي أمرت بموته يرجع من عالم الأشباح ويدخل إلى بيتي.
وأنا ما زلت أسأل في أعماق نفسي أيضا وأيضا: ما هو الحق وما هو غير الحق؟
فهل يمكن أن السوري يتغلب علينا في هدوء ساعات الليل؟
إن هذا بالحقيقة لا يمكن أن يكون.
لأن رومة يجب أن تتغلب على أضغاث أحلام نسائنا.
برثولماوس في أفسس
في العبيد والمنبوذين
يقول أعداء يسوع إنه وجه دعوته للعبيد والمنبوذين، وإنه كان يثيرهم على أسيادهم، ويقولون إنه - وهو ابن الطبقة الحقيرة - كان يستغيث بأبناء طبقته، بيد أنه كان يسعى ليخفي حقيقة أصله.
ولكن فلنبحث في أتباع يسوع وفي زعامته.
ففي أول أمره اختار رفقاء له في عمله بضعة رجال من البلاد الشمالية، وكانوا أحرارا، وكانت أجسادهم قوية وأرواحهم جريئة، وفي العشرين سنة الماضية قد أدهشوا العالم بشجاعتهم في مجابهة الموت بإرادتهم وعدم مبالاتهم.
فهل تعتقدون أن هؤلاء الرجال كانوا عبيدا أو منبوذين؟
وهل يخطر لكم أن أمراء لبنان وأرمينيا المفاخرين بحسبهم ونسبهم قد نسوا مقامهم عندما قبلوا يسوع كنبي الله؟
أما هل تفكرون أن أشراف الرجال والنساء في أنطاكية وبيزنطية وأثينا ورومة يمكن أن يستهويهم صوت زعيم من العبيد؟
ألا إن الناصري لم يكن قط مع عبد ضد سيده، ولا مع سيد ضد عبده. إنه لم يكن مع رجل ضد رجل آخر.
فقد كان رجلا أسمى من الناس، والجداول التي جرت في مجاري قوته كانت تترنم مع الألم ومع القوة في وقت واحد.
فإذا كانت النبالة في الحماية، فإن الناصري هو أنبل نبلاء العالم، وإذا كانت الحرية في الفكر والقول والعمل، فهو أمير الأحرار في كل الأجيال، وإذا كان شرف الأصل في الكبرياء التي لا تخضع إلا معتزة بالمحبة اللطيفة الرءوف فهو إذن من جميع الناس أشرفهم أصلا.
ولا تنسوا أنه لا يفوز بالإكليل في السباق إلا القوي والسريع، وأن يسوع قد توجه أصدقاؤه ومحبوه كما توجه أعداؤه على غير علم منهم.
وهو حتى الساعة يقتبل أكاليل النصر من كاهنة أرتاميس في المواضع السرية من هيكلها.
متى
يسوع أمام جدار سجن
في أحد الأمساء مر يسوع بسجن في برج داود، وكنا نمشي وراءه.
غير أنه وقف فجأة ووضع وجنته على حجارة جدار السجن، وشرع يقول:
يا إخوة يومي القديم، إن قلبي يخفق مع قلوبكم وراء الجدران. أود لو أنكم تقدرون أن تتحرروا في حريتي وتمشوا معي ومع رفقائي.
أنتم سجناء، بيد أنكم لستم وحدكم، فما أكثر السجناء الذين يمشون في الشوارع المفتوحة! ومع أن أجنحتهم غير متكسرة فهم كالطاووس يرفرفون ولكنهم لا يطيرون.
يا إخوة يومي الثاني، قريبا أزوركم في سجونكم وأقدم كتفي لأحمالكم؛ لأن البريء والمجرم لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وكعظمي الساعد لن ينفصلا.
يا إخوة هذا اليوم، الذي هو يومي، قد سبحتم ضد مجرى أفكارهم فقبضوا عليكم، وهم يقولون إنني أنا أيضا أسبح ضد هذا المجرى، ومن يدري؟ فقد أسير إليكم قريبا، فأكون معكم كاسر الشريعة مع كاسري الشريعة.
يا إخوة يوم لم يأت بعد، إن هذه الجدران ستسقط، ومن هذه الحجارة ستصنع أشكال جديدة بيد ذاك الذي مطرقته النور، وإزميله الريح، وستقفون أحرارا في حرية يومي الجديد.
هكذا تكلم يسوع وسار في طريقه، وظلت يده على جدار السجن حتى ترك برج داود.
أندراوس
في المدنسين
إن مرارة الموت هي بالحقيقة أقل مرارة في الحياة بدونه، فقد صمتت الأيام وسكنت عندما أخرس صوته، لم يبق سوى الصدى يرجع كلماته إلى ذاكرتي ولكنه لا يرجع صوته إلى أذني .
سمعته مرة يقول: اذهبوا في إبان حنينكم إلى الحقول، واجلسوا إلى جانب الزنابق، فتسمعوها تترنم في الشمس، فهي لا تحوك ثيابا لملابسكم، ولا تصنع أخشابا أو حجارة لمنازلكم، ولكنها تغني مترنمة.
إن الذي يشتغل في الليل يكمل حاجاتها وندى نعمته يبلل أوراقها.
وأنتم أيضا أفلا يعنى بكم ذلك الذي لا يتعب ولا يستريح؟
وفي مرة أخرى سمعته يقول: طيور السماء قاطبة يحصيها أبوكما كما أن شعور رءوسكم جميعها محصاة، فلا يسقط طير عند قدمي الصياد، ولا تبيض شعرة من رءوسكم ولا تسقط في وهدة الشيخوخة بدون إرادته.
وقال أيضا: قد سمعت تذمركم في قلوبكم قائلين: يجب أن يكون إلهنا أكثر رحمة معنا نحن أولاد إبراهيم من أولئك الذين لم يعرفوه منذ البدء.
أما أنا فأقول لكم إن رب الكرم الذي يدعو فاعلا عند الصباح ليشتغل في كرمه، ويدعو فاعلا آخر عند الغروب، ثم يعطي الأجرة للأخير كما للأول، إن مثل هذا الرجل مبرر بالحقيقة في عمله، أفلا يدفع من كيسه بكمال إرادته؟
هكذا سيفتح أبي بوابة قصره لمن يقرع عليها من الأمم، كما يفتحها لمن يقرع عليها منكم؛ لأن أذنه تصغي إلى النغم الجديد بنفس المحبة التي تشعر بها عند سماع الأغنية التي طالما سمعها، وهو يرحب بالنغم الجديد ترحيبا خاصا لأنه أصغر وتر في قيثارة قلبه.
وفي مرة أخرى سمعته يقول: تذكروا هذا! اللص هو رجل محتاج، والكذاب هو رجل خائف، والصياد الذي يصطاده حارس ليلكم قد اصطاده أيضا حارس ظلمة نفسه.
أريد أن تشفقوا على جميع هؤلاء.
فإذا قصدوا منازلكم فافتحوا لهم الأبواب وأجلسوهم إلى موائدكم، وإذا لم تقبلوهم فإنكم لن تكونوا مبررين من أي عمل يعملونه.
وفي أحد الأيام تبعته إلى ساحل المدينة في أورشليم كما تبعه كثيرون غيري، فقص علينا مثل الابن الشاطر، ومثل التاجر الذي باع كل ما كان له ليشتري درة.
وفيما كان يخاطبنا أحضر الفريسيون إلى وسط الجمع امرأة كانوا يسمونها زانية، فأحاطوا بيسوع وقالوا له: قد دنست نذر زواجها، وأمسكت بالفعل الشنيع .
فنظر إليها ووضع يده على جبينها وتأمل عينيها مليا.
ثم التفت إلى الرجال الذين أحضروها إليه، وأنعم نظره في وجوههم، وانحنى، وشرع يكتب بإصبعه على الأرض.
فكتب اسم كل رجل، وكتب إلى جانب كل اسم الخطيئة التي ارتكبها صاحب الاسم.
وفيما كان مكبا على الكتابة هربوا من حضرته يجرون أذيال الفضيحة.
وقبل أن فرغ من كتابته لم يبق أمامه أحد إلا نحن والمرأة.
فنظر إلى عينيها ثانية، وقال لها: إنك قد أحببت كثيرا، أما الذين أحضروك إلى هنا فإنهم أحبوا قليلا، ولكنهم حملوك إلي كأحبولة لاحتبالي.
فانصرفي الآن بسلام.
لم يبق منهم أحد ليدينك، فإذا رغبت في أن تكوني حكيمة كما أنت محبة فاطلبيني، فإن ابن الإنسان لا يدينك.
وقد عجبت آنئذ هل كان قد قال هذا لها؛ لأنه هو نفسه لم يكن بلا خطيئة.
ولكنني منذ ذلك اليوم وأنا أتأمل وأدرس، وها أنا أعرف الآن أن نقي القلب وحده يغفر للإنسان عطشه الذي يقوده إلى مياه آسنة.
والثابت الخطى وحده يستطيع أن يمد يده لمن يعثر في طريقه.
وأيضا وأيضا أقول: إن مرارة الموت هي بالحقيقة أقل مرارة من الحياة بدونه.
رجل غني
في المقتنيات
كان يسوع يتكلم بالسوء على الأغنياء، وقد سألته في أحد الأيام قائلا: يا سيدي، ماذا أفعل لأحصل على سلامة الروح؟
فأمرني أن أعطي أموالي للفقراء وأتبعه.
فهو لم يملك شيئا، ولذلك لم يعرف ما في المقتنيات من التأمين على الحياة والحرية الشخصية، والاحترام الداخلي والخارجي.
في بيتي مائة وأربعون عبدا وخادما، فالبعض يشتغلون في غاباتي والبعض يسوقون مراكبي إلى الجزائر البعيدة.
فلو أنني سمعت منه وأعطيت أملاكي للفقراء فماذا كان يحل بعبيدي وخدامي وأزواجهم وأولادهم؟ إنهم ولا شك كانوا يصيرون متسولين نظيره على بوابة المدينة وفي رواق الهيكل.
نعم إن ذلك الرجل الصالح لم يسبر غور السر المحيط بالمقتنيات. ولما كان هو وأتباعه يعيشون على عطايا الآخرين فقد ظن أن جميع الناس يجب أن يعيشوا مثله.
وإليكم هذا اللغز الذي يناقض ذاته: هل يجدر بالأغنياء أن يعطوا ثروتهم للفقراء الذين يجب أن يكون لهم كأس الغني ورغيفه قبل أن يرحبوا به على مائدتهم؟
وهل يجدر بصاحب البرج أن يصير مضيفا لزبائنه قبل أن يدعو نفسه سيد أرضه؟
ألا إن النملة التي تخزن طعاما للشتاء هي أحكم من الجنادب التي تترنم يوما بأناشيدها وتتألم يوما من مجاعتها.
في السبت الماضي قال أحد أتباعه في ساحة المدينة: على عتبة السماء حيث يضع يسوع حذاءه لا يستحق رجل غيره أن يضع رأسه.
ولكنني أسأل هذا: على عتبة أي بيت استطاع ذلك الهائم البسيط القلب أن يترك حذاءه؟ فإنه لم يكن له بيت ولا عتبة، وفي أكثر الأحيان كان يمشي بغير حذاء.
يوحنا في بطمس
يسوع الرءوف
إنني أود أن أتكلم عنه مرة ثانية.
ومع أن الله قد حبس عني الكلام فقد أعطاني الصوت والشفتين المحترقتين.
وعلى رغم عدم استحقاقي للكلمة الكاملة فأنا أدعو قلبي إلى شفتي.
قد أحبني يسوع، ولم أعلم لماذا أحبني.
أما أنا فقد أحببته لأنه رفع روحي إلى أعال فوق قامتي، وأنزلها إلى أعماق لا قبل لي على سبر غورها.
المحبة سر مقدس.
والمحبون الحقيقيون لن يجدوا ألفاظا للتعبير عن محبتهم.
أما الذين لا يحبون فالمحبة في عقيدتهم سخرية قاسية.
قد دعاني يسوع كما دعا أخي ونحن نشتغل في الحقل.
وكنت آنئذ شابا ولم تعرف أذني غير صوت الفجر.
ولكن صوته وضع حدا نهائيا لعملي وبداءة لعهد وجدي وافتتاني.
فلم يبق أمامي بعد ذلك إلا المشي في الشمس وعبادة جمال الساعة.
هل تستطيع أن تتصور جلالا يحول لطفه دون ظهوره؟ أو جمالا يحول نوره دون رؤيته؟
هل تقدر أن تسمع في أحلامك صوتا يستحي بمحبته؟
فقد دعاني وأنا تبعته.
وفي ذلك المساء رجعت إلى بيت أبي لأحمل ثوبي الآخر.
وهنالك قلت لأمي: إن يسوع الناصري يرغب في أن يضمني إلى جماعته.
فقالت: سر في طريقه يا بني كما سار أخوك.
فسرت في طريقه.
قد دعاني عبيره وأمرني، ولكن ليحررني فقط.
لأن المحبة مضيفة جوادة لضيوفها، ولكن بيتها سراب وهزء لغير المدعوين.
ترغبون إلي الآن أن أوضح لكم عجائب يسوع.
فنحن جميعا إشارة عجائبية للزمان، وربنا ومعلمنا هو المركز الرئيسي لذلك الزمان.
ولكنه لم يشأ أن يعرف أحد بإشارته.
فقد سمعته يقول للمفلوج: انهض واذهب إلى بيتك، ولكن احذر أن تقول للكاهن إنني جعلتك صحيحا.
ولم يكن فكر يسوع مع المقعدين، بل كان بالأحرى مع الأقوياء والمنتصبين.
فقد طلب فكره غيره من الأفكار وأمسك بها، وزارت روحه الكاملة غيرها من الأرواح.
وبهذا العمل غيرت روحه تلك الأفكار وتلك الأرواح.
وقد بدا هذا العمل أعجوبة خارقة للناس، ولكنه كان في نظر ربنا ومعلمنا بسيطا كتنفس الهواء في كل يوم. •••
والآن فلأتكلم عن أمور أخرى.
كنت أمشي معه في أحد الأيام في حقل، وكنا وحيدين جائعين، فأتينا إلى شجرة تفاح بري.
ولم يكن على أغصان الشجرة سوى تفاحتين فقط.
فمسك يسوع جذع الشجرة بيديه وهزها فسقطت التفاحتان.
فالتقطهما معا وأعطاني واحدة منهما، وأمسك التفاحة الأخرى بيده.
وإذ كنت جائعا جدا أكلت تفاحتي بسرعة شديدة.
ثم نظرت إليه فوجدت التفاحة ما برحت في يده.
فأعطاني إياها، وقال لي: كل هذه أيضا.
فأخذت التفاحة وفي قلة حياء مجاعتي أكلتها.
وفيما نحن نمشي نظرت إلى وجهه.
ولكن كيف أستطيع أن أخبركم بما رأيت؟
رأيت ليلا تحترق الشموع في فضائه، وحلما لا تصل إليه أحلامنا، ظهيرة يفرح فيها جميع الرعاة ويطربون لرؤية قطعانهم راعية أمامهم، مساء هادئا وسكونا عجيبا وبيتا تلجأ الروح إليه، ونوما هادئا وحلما لذيذا.
كل هذا رأيته في وجهه، فقد أعطاني التفاحتين، وعرفت أنه كان جائعا مثلي.
ولكنني أعرف اليوم أنه بإعطائهما لي قد شبع واكتفى؛ لأنه هو نفسه أكل من أثمار أخرى لشجرة أخرى.
أود أن أخبركم أكثر من هذا عنه، ولكن كيف أستطيع ذلك؟
فإن المحبة متى اتسعت صعب التعبير عنها بالكلام. والذاكرة إذا كثرت أحمالها سارت تفتش عن الأعماق الصامتة.
بطرس
في الجار
قال ربي ومعلمي مرة في كفر ناحوم:
إن جاركم هو ذاتكم الثانية تقطن وراء الجدار. وبالفهم تسقط جميع الجدران.
ومن يدري إذا لم يكن جاركم هو ذاتكم الفضلى لابسة جسدا آخر؟ فانتبهوا أن تحبوه كما تحبون ذواتكم.
وهو أيضا مظهر للعلي القدير الذي لا تعرفونه.
إن جاركم هو حقل يسير فيه ربيع آمالكم بأثوابه الخضراء، ويحلم فيه شتاؤكم بالأعالي المجللة بالثلج.
إن جاركم هو مرآة ترون فيها صورتكم وقد جملها فرح أنتم أنفسكم لم تعلموا به، وكآبة أنتم أنفسكم لم تشتركوا بها.
فأحبوا جاركم كما أحببتكم أنا.
فسألته قائلا: كيف أن أستطيع أن أحب جارا لا يحبني، وهو يحسدني ويطمع في مالي، بل كثيرا ما يسرق مقتنياتي؟
فأجاب وقال: إذا كنت تفلح وكان خادمك يزرع البذار وراءك، فهل تقف وتنظر إلى الوراء لتطرد زرزورا يلتقط بضع حبات من بذارك ليغذي بها جوعه؟ فإذا فعلت هذا فأنت لا تستحق ثروة حصادك.
وعندما قال هذا خجلت من نفسي وجلست صامتا، بيد أنني لم أكن خائفا لأن ابتسامة يسوع لم تفارقه.
إسكاف في أورشليم
على الحياد
إنني لم أحبه، ولكنني في الوقت نفسه لم أبغضه.
ولم أصغ إليه لأسمع أقواله، بل بالأحرى لأسمع رنة صوته لأن صوته كان يطربني.
وكل ما قاله كان مبهما في فكري، ولكن موسيقى صوته كانت صريحة في أذني.
بالحقيقة إنني لولا ما سمعته من الناس عن تعاليمه لما كنت قادرا أن أميز هل كان يسوع مع اليهودية أو ضدها.
سوسان الناصرية جارة مريم
في شباب يسوع ورجولته
قد عرفت مريم أم يسوع قبل أن صارت امرأة ليوسف النجار، وكنا معا في ذلك الوقت غير متزوجتين.
في تلك الأيام كانت مريم ترى رؤى، وتسمع أصواتا، وتتكلم عن الخدام السماويين الذين يزورونها في أحلامها.
وكان أهل الناصرة شديدي الاهتمام بها، وكانوا يلاحظونها في ذهابها وإيابها، وكانوا ينظرون إليها بعيون لطيفة؛ لأن جبهتها كانت رفيعة وخطواتها كانت سديدة.
ولكن البعض قالوا إنها مجنونة، وقد قالوا هذا لأنها كانت تتصرف بحرية تامة في جميع أعمالها.
أما أنا فقد كنت أنظر إليها نظرتي إلى شيخة طاعنة في السن مع أنها كانت فتاة في ميعة الشباب؛ لأنني رأيت حصادا في أزهارها وأثمارا يانعة في ربيعها.
فقد ولدت ونشأت بيننا، غير أنها كانت في قريتنا كأنها غريبة من بلاد الشمال، وكانت في عينيها دائما دهشة الغريب الذي لم يتعرف إلى وجوهنا بعد.
وكانت لها نفس العجرفة التي عرفت بها ميريام القديمة التي خرجت مع شقيقها من النيل إلى البرية.
ثم خطبت مريم ليوسف النجار.
وعندما حبلت مريم بيسوع كانت تتمشى بين التلال وترجع عند المساء وفي عينيها جمال فتان وألم عميق.
وعندما ولد يسوع أخبرتني إحدى الصديقات أن مريم قالت لأمها: أنا لست إلا شجرة لم تقلم أغصانها بعد، فانظري أنت في هذه الثمرة، وقد سمعت هذا القول مرتا القابلة.
وبعد ثلاثة أيام ذهبت لزيارتها، فإذا هي منذهلة العينين مرتجفة الصدر، وقد طوقت بكرها بذراعيها كما تطوق الصدفة درتها الثمينة.
جميعنا أحببنا ابن مريم، وكنا نراقبه بعيون المحبة لأنه كان ممتلئا بقوة الحياة والنماء.
مرت الفصول وتقضت الأقمار، فصار الطفل صبيا كثير الضحك واللهو، ولم يعرف أحد منا ماذا سيصير إليه هذا الصبي لأنه كان يبدو للجميع كأنه من غير جنسنا. ولم يجسر أحد على توبيخه قط مع أنه كان كثير المغامرة وافر الشجاعة.
أقول إنه كان يلعب مع الأولاد أترابه، ولكنني لا أقدر أن أقول إنهم كانوا يلعبون معه.
وعندما كان في الثانية عشرة من العمر قاد أحد العميان إلى عبر الجدول حتى أوصله إلى الطريق العامة.
أما الأعمى فلكي يظهر له شكره سأله قائلا: من أنت أيها الصبي الصغير؟
فأجابه: أنا لست صبيا صغيرا، أنا يسوع.
فقال له الأعمى: ومن هو أبوك؟
فأجاب: الرب هو أبي.
فضحك الأعمى وقال: بالصواب أجبت يا بني، ولكن من هي أمك؟
فأجاب يسوع: أنا لست بنيا لك، وأمي هي الأرض.
فقال الأعمى: فانظر إذن، فقد قادني ابن الله والأرض إلى عبر الجدول.
فأجاب يسوع: سأقودك حيث شئت، وسترافق عيناي قدميك. وكان ينمو كالنخلة الثمينة في بساتيننا.
وعندما بلغ التاسعة عشرة صار جميلا كالأيل، وكانت عيناه كالعسل ممتلئتين من دهشة النهار.
وكان على فمه عطش قطيع الصحراء للبحيرة.
فهو لا يمشي في الحقول إلا وحده وعيوننا وراءه، ومثلها عيون جميع الصبايا في الناصرة، ولكننا كنا نخجل أمام جلال عينيه.
ومع أن المحبة خجولة أبدا من الجمال، فالجمال كان وما يزال مطمح أنظار المحبة.
ثم دعته الفصول ليتكلم في بساتين الجليل.
وكثيرا ما كانت مريم تتبعه لتصغي لأقواله وتسمع صوت قلبها، ولكن عندما كان يذهب مع محبيه إلى أورشليم لم تكن تذهب معهم.
لأننا نحن أبناء الشمال يهزأ بنا في الغالب في شوارع أورشليم حتى ولو كنا ذاهبين لنقدم تقدماتنا في الهيكل.
وكانت مريم فخورة بهذا المقدار حتى إنها لم تشأ أن تسلم إباءها لسخرية أهل الجنوب.
وقد زار يسوع بلادا أخرى في الشرق والغرب. ومع أننا لم نعرف البلاد التي زارها، ولكن قلوبنا كانت تتبعه.
ولكن مريم كانت تجلس على عتبتها تنتظره، وفي كل مساء كانت تحدق بعينيها إلى الطريق تفتش عن رجوعه إلى بيته.
بيد أنها عند رجوعه تأتي إلينا قائلة: إنه أعظم من أن يكون ابنا لي، وفصاحته تسمو على إدراك قلبي الصامت، فكيف أدعيه لنفسي؟
ويلوح لي أن مريم لم تستطع أن تصدق أن السهل قد ولد الجبل، وفي بياض قلبها لم تنظر أن حرف الجبل هو الطريق إلى قنته.
فقد عرفت الرجل، ولكن بما أنه كان ابنا لها لم تجرؤ أن تعرفه.
وفي أحد الأيام ذهب يسوع إلى البحيرة ليكون مع أصدقائه الصيادين، فقالت لي مريم: من هو الإنسان إلا هذا الكائن القلق الناهض من الأرض، والحنين المتسامي إلى النجوم؟
إن ابني هو حنين بعيد، بل هو جميعنا متسامين بحنيننا إلى النجوم.
هل قلت إنه ابني؟ فليسامحني الرب، ولكن قلبي يدلني على أنني أمه. •••
إنه صعب علي جدا أن أخبركم أكثر من هذا عن مريم وابنها. ولكن، وإن طلع الحسك في حلقي، ووصلت كلماتي إليكم وصول الكسيح الذي يدب على العصا، فأنا أود أن أقص عليكم ما رأيته وسمعته.
كانت السنة فخورة بشبابها، وكانت شقائق النعمان تزين رءوس التلال عندما دعا يسوع تلاميذه، وقال لهم: تعالوا معي إلى أورشليم وشاهدوا ذبح الخروف للفصح.
وفي ذلك اليوم بعينه جاءت مريم إلى بابي وقالت: إنه ذاهب إلى المدينة المقدسة، فهل لك أن تذهبي وتتبعيه معي ومع بقية النساء؟
وللحال سرنا على تلك الطريق الطويلة وراء مريم وابنها حتى وصلنا إلى أورشليم، وهنالك حيتنا جماعة من الرجال والنساء على بوابة المدينة؛ لأن مجيئه كان قد أعلن من قبل لأصحابه وأحبابه، ولكن يسوع ترك المدينة في تلك الليلة مع أصحابه.
وقد أخبرونا أنه ذهب إلى بيت عنيا.
فأقامت مريم معنا في الفندق تنتظر رجوعه.
وفي مساء الخميس التالي ألقوا القبض عليه خارج الأسوار، وسجنوه.
وعندما سمعنا أنه سجين لم تنطق مريم بكلمة قط، ولكن ظهر للحال في عينيها تحقيق خفي لذلك الوعد بالألم والفرح الذي رأيناه عندما كانت عروسا في الناصرة.
إنها لم تبك، ولكنها كانت تمشي بيننا فقط كأنها روح أم لا تريد أن تنتحب على روح ابنها.
فجلسنا منحنيات على الأرض، أما هي فكانت منتصبة وهي تروح وتجيء على أرض الغرفة.
وكانت تقف بين الهنيهة والهنيهة أمام النافذة وتحدق بنظرها إلى الشرق، ثم تسرح شعرها بأصابع يديها.
وعند الفجر بقيت واقفة بيننا، كأنها علم يخفق في قفر لا جحافل فيه.
قد بكينا لأننا عرفنا ما يحمله الغد لابنها. أما هي فإنها لم تبك لأنها عرفت أيضا ما سيصيبه.
كانت عظامها من صلب النحاس، وقوتها من الدردار القديم.
وكانت عيناها كالسماء اتساعا وشجاعة.
عمرك الله، هل رأيت قبرة تنشد في حين أن عشها يحترق في الهواء؟
وهل رأيت امرأة تفيض كآبتها على دموعها، أو قلبا مجروحا يرتفع حتى يسمو على ألمه؟
إنك لم تر مثل هذه المرأة لأنك لم تقف في حضرة مريم ولم تحتضنك بعد الآلام غير المنظورة.
في تلك الساعة الهادئة التي كانت حوافر الصمت تضرب فيها على صدور الأرقين، دخل يوحنا، الابن الأصغر لزبدي، وقال: أيتها الأم مريم، إن يسوع ذاهب، فهلمي نتبعه.
فوضعت مريم يدها على كتف يوحنا وخرجت معه، ونحن تبعناهما.
وعندما وصلنا إلى برج داود رأينا يسوع حاملا صليبه وكان جمع غفير حواليه.
وكان معه رجلان آخران يحمل كل منهما صليبه.
وكان رأس مريم مرتفعا، وكانت تمشي معنا وراء ابنها، وكانت خطواتها ثابتة.
وقد مشت وراءها صهيون ورومة، بل العالم أجمع، لينتقم لنفسه من الرجل الحر الواحد.
وعندما وصل إلى التلة رفعوه على الصليب.
فنظرت إلى مريم، فلم يكن وجهها وجه امرأة حزينة، بل كان أشبه بمنظر الأرض المثمرة التي تلد أولادها بغير انقطاع وتقبرهم بلا ملل.
ثم عرضت صورة تذكارات صبوته أمام عينيها، فقالت بصوت عظيم: يا ابني الذي ليس ابنا لي، أيها الرجل الذي زار بطني مرة، إنني أفاخر بقوتك، إنني أعرف أن كل نقطة من الدم الجاري من يديك ستكون ينبوعا تتكون منه أنهار أمة بأسرها.
أنت تموت الآن في هذه العاصفة كما مات قلبي مرة في غروب الشمس؛ ولذلك لم أحزن عليك.
في تلك اللحظة رغبت في تغطية وجهي بوشاحي لأهرب راجعة إلى الشمال، ولكنني سمعت فجأة مريم تقول: يا ابني الذي ليس ابنا لي، ما الذي قلته للرجل الذي على يمينك فجعله سعيدا في آلامه؟ إن ظل الموت ضعيف على وجهه، وهو لا يستطيع أن يحول عينيه عنك.
أنت تبتسم لي الآن، وهذه الابتسامة تدلني على أنك قد غلبت العالم. فنظر يسوع إلى أمه، وقال لها: يا مريم، كوني منذ الساعة أما ليوحنا.
وقال ليوحنا: كن ابنا محبا لهذه المرأة، اذهب إلى بيتها وليعبر ظلك تلك العتبة التي طالما جلست عليها. اصنع هذا لذكري.
فرفعت مريم يمينها نحوه، فبدت كأنها شجرة ذات غصن واحد، ثم صرخت قائلة: يا ابني، الذي ليس ابنا لي، إذا كان هذا من الله فليعطنا الله صبرا ومعرفة لحقيقته، وإذا كان من الإنسان فليسامحه الله إلى الأبد.
إذا كان هذا من الله فإن ثلج لبنان سيكون لك كفنا، وإذا كان من هؤلاء الكهنة والجنود فقط فإن لي هذا الثوب لعريتك.
يا ابني، الذي ليس ابنا لي، إن ما يبنيه الله ها هنا لا يمكن أن يزول، وكل ما يهدمه الإنسان سيظل مبنيا، ولكن في نظر أسمى من نظر الإنسان.
في تلك الدقيقة أسلمته السماوات للأرض صوتا ونسمة حية.
ومريم أيضا أسلمته للإنسان جرحا وبلسما.
وقالت مريم: انظروا الآن فقد مضى، قد انتهت المعركة وأعطى الكوكب نوره، قد وصلت السفينة إلى الميناء، والذي اتكأ فيما مضى على قلبي يتموج الآن في الفضاء.
وإذ دنونا منها قالت لنا: إنه حتى في الموت نفسه يبتسم، فقد غلب العالم، ويسرني جدا أن أكون أما للغالب.
ثم رجعت مريم إلى أورشليم متكئة على ذراع يوحنا التلميذ الصغير.
وكانت امرأة قد تحققت آمالها. •••
وعندما وصلنا إلى بوابة المدينة تأملت وجهها، فأخذ الدهش بمجامع قلبي لأن رأس يسوع في ذلك اليوم كان أرفع من رءوس جميع الرجال، ومع ذلك فإن رأس مريم لم يكن أقل منه ارتفاعا.
حدث كل هذا في فصل الربيع.
ونحن اليوم في فصل الخريف، وقد رجعت مريم أم يسوع إلى بيتها وهي تقطن فيه وحدها. •••
منذ سبتين كان قلبي جامدا كالصخرة في صدري؛ لآن ابني تركني وسافر إلى صور يطلب سفينة لأنه يريد أن يكون ملاحا.
وقد قال لي إنه لن يرجع إلي.
وفي أحد الأمساء سرت إلى مريم.
وعندما دخلت إلى بيتها كانت جالسة أمام نولها، وهي لا تلمسه لأنها كانت تتأمل السماء البعيدة وراء الناصرة.
فقلت لها: السلام عليك يا مريم.
فمدت يدها إلي وقالت: هلمي فاجلسي إلى جانبي نراقب الشمس وهي تسكب دمها على التلال.
فجلست بجانبها على المقعد، وكنا نتأمل الغروب من خلال النافذة. وبعد هنيهة قالت مريم: إنني لا أدري من يصلب الشمس في هذا المساء.
فقلت لها: قد جئتك أطلب تعزية، إن ابني قد تركني وذهب إلى البحر، وأنا وحدي في البيت في عبر الطريق.
فقالت مريم: إنني أود أن أعزيك، ولكن أنى لي ذلك؟
فقلت: إذا تكلمت عن ابنك فقط فإنني أتعزى.
فتبسمت مريم ووضعت يدها على كتفي وقالت: إنني سأتكلم عنه؛ لأن ما يعزيك إنما يحمل لي منتهى التعزية.
وأخذت تحدثني مليا عن يسوع، وعن جميع ما كان منذ البدء.
ويلوح لي أنها لم تفارق ابنها في كل حديثها.
فقد قالت لي: إن ابني هو ملاح كابنك، فلماذا لا تسلمين ابنك لحنان الأمواج كما سلمت ابني؟
ستبقى المرأة أبدا رحما ومهدا، بيد أنها لن تكون رمسا. نحن نموت لكي نعطي حياة للحياة، كما أن أصابعنا تحوك من الخيوط ثوبا لن نلبسه أبدا.
ونحن نلقي الشبكة لنمسك السمك الذي لن نأكله.
لأجل هذا نكتئب ونحزن، ولكن في جميع هذا فرحنا وغبطتنا.
بهذا حدثتني مريم.
فتركتها ورجعت إلى بيتي، ومع أن نور النهار كان قد ولى فقد جلست إلى نولي أحوك القماش الذي لن ألبسه.
يوسف الملقب بيوستوس
يسوع الهائم
يقولون إنه كان دنيئا، وثمرة خاملة لزرع خامل، ورجلا فظا غليظا.
ويقولون إن الريح فقط كانت تمشط شعره، وإن المطر فقط كان يغسل وجهه وثيابه.
ويقولون إنه كان مجنونا وينسبون أقواله للشياطين.
ولكن انظروا أيها الناس، إن هذا الرجل الذي احتقروه قد استنهد أعداءه، ولن ينقطع صوت مناهدته؛ لأنه ما من بشر يستطيع أن يقف في وجهه.
قد أنشد أنشودة، ولا يستطيع أحد أن يقيد حريتها، فهي ترفرف بأجنحتها من جيل إلى جيل، وتنهض من محيط إلى محيط حاملة ذكرى الشفتين اللتين ولدت في أحضانهما والأذنين اللتين كانتا لها مهدا.
فقد كان غريبا، نعم نعم كان غريبا هائما في طريقه إلى المقام المقدس، وكان زائرا يقرع أبوابنا، وضيفا من بلاد بعيدة.
بيد أنه لم يجد بيننا مضيفا عطوفا؛ ولذلك رجع إلى المكان الذي أعد له منذ إنشاء العالم.
فيلبس
وعندما مات ماتت الإنسانية كلهاوقال الآخر:
عندما مات حبيبنا ماتت الإنسانية كلها، وسكن كل ما في الفضاء وامتقع لونه، فالشرق أظلم، وهبت من أعماقه عاصفة هوجاء اجتاحت كل الأرض. وكانت عيون السماء تنفتح وتنطبق، وتساقطت الأمطار أنهارا فجرفت الدم الجاري من يديه ومن قدميه.
وأنا أيضا مت مع المائتين، وفي أعماق غفلتي سمعته يتكلم ويقول: يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يفعلون.
وقد طلب صوته روحي المختنقة فأرجعني إلى الشاطئ ثانية.
ففتحت عيني ورأيت جسده الناصع البياض معلقا أمام السحاب، وقد تجسدت الكلمات التي سمعتها منه في أعماق قلبي فصرت رجلا جديدا، ولم أعرف طعم الكآبة فيما بعد.
فمن يحزن على البحر الذي يحسر القناع عن وجهه، أو الجبل الذي يضحك في الشمس؟
هل خطر على قلب بشر، وقد طعن ذلك القلب، أن يقول مثل هذه الكلمات؟
وأي قاض من قضاة البشر صفح عن قضاته؟ وهل سبق للمحبة في كل أدوارها أن تغلبت على البغض بمثل هذه القوة الواثقة بذاتها؟
وهل سمعت الإنسانية صوتا كصوت هذا البوق المدوي بين الأرض والسماء؟
هل سمع من قبل أن القتيل يسترحم لقاتله؟ أو أن الشهاب يوقف سيره من أجل الخلد؟
أجل، ستنقضي الفصول وستطوى السنون قبل أن يزول من الأرض أثر هذه الكلمات: يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يفعلون.
وأنا وأنت وإن ولدنا المرة بعد المرة، فإننا لن ننسى هذه الكلمات. وها أنا الآن أمضي إلى بيتي لأقف متسولا رفيع الرأس على بابه.
بربارة اليمونية
يسوع اللجوج
كان يسوع صبورا على الحمقى والبلداء، كما ينتظر الشتاء الربيع.
كان صبورا كالجبل في الريح.
فكان يجاوب بلطف على جميع المسائل البليدة التي وجهها إليه أعداؤه.
وكثيرا ما كان يصمت أمام المماحكة والمغالطة؛ لأنه كان قويا، وفي منال القوي أن يكون طويل الأناة.
ولكن يسوع أيضا كان قليل الصبر.
فإنه لم يطق صبرا على المرائين.
ولم يسلم سلاحه لمشعوذي الكلام والخبثاء.
ولم يكن في طوق إنسان أن يسود عليه.
إنه لم يصبر على الذين أنكروا النور لأنهم كانوا يعيشون في الظلام، والذين طلبوا علامات في السماء وكان الأجدر بهم أن يطلبوها في قلوبهم.
ولم يكن صبورا على الذين وزنوا النهار وقاسوا السماء قبل أن أسلموا أحلامهم للفجر والمساء.
كان يسوع صبورا.
ولكنه كان أقل الناس صبرا.
فهو يريد منك أن تحوك الثوب ولو أنفقت أعواما بين النول وخيوط الكتان.
ولكنه لم يأذن لأحد أن يمزق قيراطا واحدا من النسيج الذي تمت حياكته.
زوجة بيلاطس إلى امرأة رومانية
المحبة والقوة
كنت أمشي مع وصيفاتي في الغابات خارج أورشليم عندما رأيته مع بضعة رجال ونساء جالسين حوله، وكان يخاطبهم بلغة لم أفهم سوى نصفها.
ولكن الإنسان لا يحتاج إلى لغة لكي يرى عمودا من النور أو جبلا من البلور، فالقلب يعرف ما لا ينطق به اللسان وما لا تسمعه الآذان.
كان يخاطب أصحابه عن المحبة والقوة. إنني أعرف أنه تكلم عن المحبة لأنه كان في صوته لحن شجي، وأعرف أنه تكلم عن القوة لأن جيوشا جرارة كانت تسير مع إشارته، وكان لطيفا، وأنا لا أعتقد أن زوجي نفسه يستطيع أن يتكلم بالسلطان الذي تكلم به هذا الإنسان.
وعندما رآني مارة به توقف عن الكلام هنيهة ونظر إلي بلطف، فاتضعت روحي أمام نظرته، وأدركت في أعماق نفسي أنني مررت بإله.
وبعد ذلك اليوم كانت صورته تزورني في وحدتي عندما لم يزرني أحد من الرجال أو النساء، وكانت عيناه تنفذان إلى أسرار نفسي وأنا مغمضة العينين، وكان صوته سيدا في هدوء ليالي.
إنني سجينة سحر هذا الرجل إلى الأبد، ولكن السلامة في آلامي، والحرية في دموعي.
أنت لم تنظري ذلك الرجل يا صديقتي، ولن تنظريه.
فقد اختفى عن حواسنا، ولكن هو أقرب إلي اليوم من جميع الرجال.
رجل خارج أورشليم
يهوذا الإسخريوطي
جاء يهوذا إلى بيتي في ليلة الجمعة العظيمة في مساء عيد الفصح، وقرع بابي بعنف شديد.
وعندما دخل نظرت إليه فإذا وجهه كالرماد، وكانت يداه ترتجفان كالأغصان اليابسة في الريح، وكانت ثيابه مبللة كأنه خارج من النهر؛ لأنه في ذلك المساء حدثت عواصف عظيمة.
فنظر إلي فبانت عيناه كالكهوف المظلمة الممتلئة بالدم.
فقال: قد أسلمت يسوع الناصري إلى أعدائه وأعدائي.
ثم فرك يديه وقال: قد أعلن يسوع أنه سيقهر جميع أعدائه وأعداء أمتنا، فآمنت وتبعته .
وعندما دعانا إليه وعدنا بمملكة قديرة وسيعة، ونحن بإيماننا شددنا أزره لننال المراكز الرفيعة في بلاطه.
فرأينا أنفسنا أمراء نعامل هؤلاء الرومانيين بما عاملونا به. وقد تكلم يسوع كثيرا عن مملكته، حتى اعتقدت أنه اختارني قائدا لمركباته، ورئيسا لجنده؛ ولذلك تبعت خطواته برضى وطمأنينة.
بيد أنني وجدت أخيرا انه لم يطلب مملكة، ولم يقصد أن يحررننا من الرومانيين؛ لأن مملكته لم تكن سوى مملكة القلب.
وكنت أسمعه يتكلم عن المحبة والرحمة والإحسان، وكانت نساء الشوارع تصغي إليه بلهفة وفرح شديد، أما أنا فقد تمرمرت روحي وتحجر قلبي.
فإن ملك اليهودية الذي وعدت به نفسي تحول فجأة إلى ضارب على القيثارة ليسكن حدة أفكار الهائمين والمتشردين.
فقد أحببته كما أحبه غيري من أبناء عشيرتي، ورأيت فيه رجاء وعتقا من نير الغرباء. ولكنه عندما لم يتلفظ بكلمة ولم يحرك يدا لتحريرنا من ذلك النير، وعندما تطرف فأعطى ما لقيصر لقيصر. حينئذ ملأ اليأس زوايا قلبي وتبددت جميع آمالي، فقلت في سري: إن من يقتل آمالي سيقتل؛ لأن آمالي هي أثمن من حياة أي رجل كان.
ثم صرف بأسنانه، وحنى رأسه. وعندما تكلم ثانية قال: قد أسلمته، وقد صلبوه في هذا اليوم ... ولكن عندما مات على الصليب مات ملكا. فقد مات في العاصفة كما يموت المنقذون وكما يموت العظماء الذين يعيشون فوق الأكفان والحجارة.
وفي كل وقت موته كان ممتلئا بالعطف واللطف، وكان قلبه يفيض رحمة. فقد أشفق علي وأنا الذي سلمته!
فقلت: قد أخطأت يا يهوذا خطأ فظيعا.
فأجاب يهوذا: قد مات ملكا، فلماذا لم يعش ملكا؟
فقلت أيضا: وقد ارتكبت جريمة هائلة.
فجلس هنالك؛ على ذلك المقعد، وكان صامتا كالصخرة.
أما أنا فكنت أتمشى جيئة وذهوبا مثقلا بالحزن في الغرفة، ثم قلت له ثالثة: وقد اقترفت خطيئة عظيمة.
ولكن يهوذا لم يقل كلمة، بل ظل صامتا كالأرض.
وبعد هنيهة وقف ونظر في وجهي فبدا لي أطول مما كان.
عندما تكلم كان صوته كالسفينة المتحطمة، وقال: لم تكن الخطيئة في قلبي. وفي هذه الليلة سأمضي وأطلب ملكوته، وسأقف في حضرته وألتمس صفحه.
فهو قد مات ملكا، أما أنا فسأموت كخائن، ولكن قلبي يحدثني بأنه سيغفر لي. وبعد أن قال هذا لف جسده بعباءته جيدا، وقال: حسنا فعلت بمجيئي إليك في هذه الليلة، وإن كنت قد عملت على إزعاجك فهل لك أن تغفر لي أيضا؟
قل لأولادك وأولاد أولادك: إن يهوذا الإسخريوطي أسلم يسوع الناصري إلى أعدائه لاعتقاده أن يسوع كان عدوا لأمته.
وقل أيضا إن يهوذا في نفس اليوم الذي ارتكب فيه هذه الخطيئة العظمى تبع الملك إلى درجات عرشه ليسلم نفسه للمحاكمة.
فسأخبره أن دمي أيضا مشوق للتراب، وروحي المخلعة تنشد الحرية.
ثم أمال يهوذا رأسه وأسنده إلى الحائط وصرخ قائلا: أيها الرب الذي لا ينطق أحد باسمه حتى تقبض أصابع الموت على شفتيه، لماذا حرقتني بنار لا نور فيها؟
لماذا أعطيت الجليلي شوقا لأرض غير معروفة، وأثقلت كاهلي برغبة لا تتعدى البيت والموقدة؟ ومن هو هذا الرجل يهوذا الملطخة يداه بالدم؟ أعضدني لأطرده عني، ثوبا باليا ومتاعا رثا.
ساعدني لأفعل هذا في هذه الليلة، ودعني أقف ثانية خارج هذه الجدران، قد سئمت هذه الحرية المقصوصة الجناح، وأحب سجنا أعظم من هذا.
أحب أن أجري كالجدول من الدموع إلى البحر المر، أحب أن أكون رجلا يتمتع برحمتك من أن أكون رجلا يقرع على بوابة قلبه.
هكذا تكلم يهوذا، ثم فتح الباب وخرج إلى العاصفة ثانية.
وبعد ثلاثة أيام زرت أورشليم وسمعت بكل ما حدث فيها، وهنالك عرفت أيضا أن يهوذا رمى نفسه من قنة الصخرة العالية.
قد فكرت كثيرا منذ ذلك اليوم، وأنا أفهم سر يهوذا، فقد كمل حياته الصغيرة، التي تحركت كالضباب فوق هذه الأرض المستعبدة من الرومانيين، في حين أن النبي العظيم كان يصعد في الأعالي.
فالرجل الأول تاقت نفسه إلى مملكة يكون هو فيها أميرا.
أما الرجل الثاني فقد أراد مملكة يكون فيها جميع الناس أمراء.
سركيس الراعي اليوناني الشيخ (الملقب بالمجنون)
يسوع والإله بان
رأيت في حلم يسوع الناصري وإلهي «بان» جالسين معا في قلب الغابة.
وكان كل منهما يضحك من خطاب رفيقه، وكان الجدول الجاري أمامهما يضحك معهما، ولكن ضحك يسوع كان أكثر بهجة. وقد تحدثا طويلا.
فتكلم «بان» عن الأرض وأسرارها، وعن إخوته ذوي الحوافر وأخواته ذوات القرون، وعن الأحلام. وتكلم عن الجذور وسكونها، وعن العصارة التي تستيقظ وتنهض مترنمة في الصيف.
وتكلم يسوع عن الأغصان الصغيرة في الغابة، وعن الزهور والأثمار، وعن البذور التي ستحملها في فصل لم يأت بعد.
وتكلم عن الطيور في الفضاء وتغريدها في العالم العلوي.
وأخبرنا إلهنا عن الأيائل البيضاء في الصحراء ترعاها عينا القدير.
وقد سر «بان» بحديث الإله الجديد وارتعشت مشامه غبطة.
وفي نفس الحلم رأيت الصمت مخيما على «بان» ويسوع وقد جلسا صامتين في سكينة الظلال الخضراء.
ثم أخذ «بان» زمارته وزمر ليسوع.
وكانت الأشجار تهتز والخنشار يرتعش، فتولاني خوف شديد.
فقال يسوع: أيها الأخ الصالح، قد جمعت معابر الأحراج وقنن الصخور في زمارتك.
فأعطى «بان» الزمارة ليسوع وقال: زمر أنت الآن، فقد جاءت نوبتك. فقال يسوع: إن القصب في هذه الزمارة كبير على فمي، فاسمح لي أن أزمر في هذا المزمار.
فأخذ مزماره وشرع ينفخ فيه.
فسمعت وقع المطر في الأوراق، وترنيم الجداول بين التلال، وسقوط الثلج على رأس الجبل.
نبض قلبي، الذي اتخذ ضربه من الريح، عاد ثانية إلى الريح، وتراجعت جميع أمواج أمسي إلى شاطئي، فصرت ثانية سركيس الراعي، وتحول مزمار يسوع إلى نايات رعاة لا عديد لهم يدعون قطعانا لا تعد ولا تحصى.
فقال «بان» ليسوع: أنت أقرب في شبابك إلى الموسيقى مني في شيخوختي، وفي سكوني قبل هذا اليوم بوقت طويل قد سمعت أنشودتك وذكر اسمك.
إن صوت اسمك صالح عذب، وهو سينهض بقوة مع العصارة إلى الأغصان، وسيركض بعزم مع الحوافر بين التلال.
وهو ليس بالاسم الغريب علي، مع أن أبي لم يدعني بذلك الاسم. إن مزمارك قد أعاده إلى ذاكرتي.
والآن هلم بنا نزمر معا.
فشرعا يزمران معا.
وقد ضربت موسيقاهما السماء والأرض، فوقع الرعب على جميع الأحياء.
فسمعت عجيج الحيوانات في الغابة، وسمعت صراخ المستوحشين من الناس وشكوى الذين يتوقون إلى ما لا يعرفون.
وسمعت تنهدات العذراء على حبيبها، ولهاث الصياد وراء الصيد.
ثم رجع السلام إلى موسيقاهما، فترنمت السماء والأرض معا.
كل هذا رأيته في حلمي، وكل هذا سمعته ووعيته.
حنانيا رئيس الكهنة
كان يسوع من السفلة
كان من السفلة، لصا ودجالا وضاربا بالبوق لنفسه، ولم يحسن إلا في عيون المدنسين والمعدمين؛ ولذلك لم يسر إلا في مسالك الملطخين والفاسدين.
وقد سخر منا ومن شرائعنا، وهزأ من شرفنا وضحك من وقارنا، وتمادى في غوايته فقال إنه يهدم الهيكل ويدنس الأماكن المقدسة. إنه لم يعرف عيبا؛ ولأجل هذا قضي عليه بموت معيب.
كان رجلا من جليل الأمم، وأجنبيا من تلك البلاد الشمالية التي ما زال أدونيس وعشتروت ينازعان إسرائيل وإله إسرائيل السيادة عليها.
إن ذلك الذي كان يتلعثم لسانه وهو ينطق بخطب أنبيائنا صار أخيرا مرتفع الصوت وهو يتكلم بلغة النغول الأدنياء والسفهاء من أتباعه.
فهل كان في طوقي إلا أن أحكم عليه بالموت؟
ألست أنا حارس الهيكل؟ ألست أنا حافظ الشريعة؟ وهل كنت قادرا أن أدير له ظهري قائلا بكل طمأنينة: إنه مجنون بين المجانين. دعه وشأنه حتى يقضي في هذيانه؛ لأن المجانين والحمقى والذين تقطنهم الشياطين لا يقدمون ولا يؤخرون في طريق إسرائيل؟ هل كنت قادرا أن أصم أذني عن سماع صوته عندما دعانا كذابين ومرائين وذئابا وحيات وأولاد الأفاعي؟
إلا أنني لم أقدر أن أصم أذني عن سماعه؛ لأنه لم يكن مجنونا، فقد كان مجذوبا بغرور نفسه، فحمله هذا الغرور الجنوني على تهديدنا ومناهدتنا جميعا.
لأجل هذا أمرت بصلبه، ليكون صلبه ناصحا ونذيرا لجميع الذين ختموا أنفسهم بخاتمه اللعين.
إنني أعرف جيدا أن كثيرين أنحوا علي باللائمة على هذا العمل وفريق منهم من أعضاء السنهدريم أنفسهم، ولكنني أدركت آنئذ كما أدركت الآن أن رجلا واحدا يجب أن يموت عن الأمة قبل أن يضلل الأمة بأسرها.
قد غلب اليهودية عدو خارجي، ولكنني سأرى ألا يقهر اليهودية ثانية عدو داخلي.
فما من رجل من الشمال الملعون يستطيع أن يصل إلى قدس أقداسنا، أو يمر بظله على تابوت العهد المقدس.
امرأة من جارات مريم
مرثاة
في اليوم الأربعين بعد موته جاءت جميع جارات مريم إلى بيتها ليعزينها وينشدن مراثيهن.
وقد أنشدت واحدة منهن هذه المرثاة:
إلى أين يا ربيعي، إلى أين؟
وإلى أي فضاء آخر يتصاعد عبيرك؟
وفي أي حقل آخر ستمشي؟
وإلى أية سماء سترف رأسك لتتكلم بما في قلبك؟
ستقفر هذه الأودية، ولن يكون لنا غير الحقول الجرداء القفراء.
إن جميع الأشياء الخضراء ستحترق في الشمس، ولن تنتج بساتيننا سوى التفاح الحامض، وكرومنا لن تحمل غير العنب المر.
سنعطش لخمرتك، وستحن مشامنا لعطرك •••
إلى أين يا زهرة ربيعنا الأول، إلى أين؟
أفلن ترجع إلينا؟
أفلن يزورنا ياسمينك، ولن ينبت بخور مريم روحك في جوانب طرقها ليخبرنا أننا نحن أيضا لنا جذور عميقة في الأرض، وأن أنفاسنا غير المتقطعة ستظل صاعدة إلى السماء أبدا؟
إلى أين يا يسوع، إلى أين يا ابن جارتي مريم، ورفيق ابني الحبيب؟
إلى أين يا ربيعنا الأول، وإلى أي الحقول الأخرى تسير؟
هل ترجع إلينا ثانية؟
وهل تزور، في مد محبتك، الشواطئ القيمة لأحلامنا؟
آحاز الجسيم صاحب الفندق
العشاء قبل الفصح
إنني أذكر جيدا المرة الأخيرة التي رأيت فيها يسوع الناصري. فقد جاءني يهوذا عند ظهر ذلك الخميس، وطلب إلي أن أعد عشاء ليسوع وأصدقائه.
وقد أعطاني قطعتين من الفضة، وقال لي: اشتر كل ما تراه لازما للعشاء.
وبعد أن تركنا قالت لي زوجتي: إن هذا بالحقيقة لشرف عظيم؛ لأن يسوع صار نبيا عظيما، وقد صنع آيات وعجائب كثيرة.
وعند الشفق جاء يسوع وأتباعه، وجلسوا في العلية حول المائدة، ولكنهم صمتوا كأن على رءوسهم الطير.
وقد جاءوا في العام الماضي وفي العام الذي سبقه، ولكنهم كانوا في ذلك الوقت فرحين، فكسروا الخبز وشربوا الخمر وترنموا بترانيمنا القديمة، ولم ينقطع يسوع عن محادثتهم حتى نصف الليل.
وبعد ذلك كانوا يتركونه وحده في العلية ويذهبون ليناموا في غرف أخرى؛ لأنه كان يرغب في الانفراد بعد نصف الليل.
وكان يظل مستيقظا الليل بطوله؛ لأنني كنت أسمع وقع خطواته وأنا مضطجع في فراشي.
ولكن في هذه المرة الأخيرة لم يكن سعيدا لا هو ولا أصدقاؤه.
وكانت زوجتي قد أعدت سمكا من البحيرة ودراريج من حوران حشتها بالأرز وحبوب الرمان، وأحضرت أنا لهم جرة من خمرة سروتي.
ثم تركتهم لأنني شعرت بأنهم راغبون في أن يكونوا وحدهم، وقد أقاموا في العلية حتى خيم الظلام، ثم انحدروا جميعهم معا من العلية، ولكن يسوع وقف هنيهة عند أسفل السلم فنظر إلي وإلى زوجتي، ثم وضع يده على رأس ابنتي وقال: ليلتكم سعيدة جميعا، إننا سنأتي ثانية إلى عليتكم، ولكننا لن نترككم في مثل هذه الساعة الباكرة، وسنبقى معكم حتى تشرق الشمس فوق الأفق.
قريبا نعود إليكم ونطلب منكم مزيدا من الخبز والخمر، فقد أحسنتم ضيافتنا وسنذكركم إذا أتينا إلى بيتنا وجلسنا إلى مائدتنا.
فقلت له: قد كان لي الشرف في خدمتك يا سيدي، إن بقية أصحاب الفنادق يحسدونني على زيارتكم، فأضحك منهم مفتخرا في ساحة المدينة، وفي بعض المرات أحول وجهي عنهم.
فقال: يجب أن يفتخر جميع أصحاب الفنادق بالخدمة؛ لأن الذي يعطي الخبز والخمر هو أخ لذلك الذي يحصد ويجمع أغمار الحبوب ويحملها إلى البيدر، وأخ لمن يعصر الخمرة في المعصرة. وأنتم جميعكم كرماء؛ لأنكم تعطون من خيركم حتى لمن يأتي إليكم ولا شيء لديه سوى جوعه وعطشه.
حينئذ التفت إلى يهوذا الإسخريوطي الذي كان يحمل كيس الجماعة، وقال له: أعطني شاقلين.
فأعطاه يهوذا شاقلين، وقال له: هذه آخر قطعة من الفضة في كيسي. فنظر إليه يسوع، وقال له: قريبا جدا سيمتلئ كيسك فضة.
ثم وضع الشاقلين في يدي وقال: اشتر بهذا المنال منطقة حريرية لابنتك ومرها أن تلبسها في عيد الفصح تذكارا لي.
قال هذا ونظر إلى وجه ابنتي ثانية، وانحنى وقبل جبينها، ثم قال ثانية: ليلتكم سعيدة جميعا، وسار في طريقه.
يقولون لي إن ما قاله لنا قد دونه أحد أصدقاءه على رق عنده، ولكني أعدته على مسامعكم الآن كما سمعته من شفتيه.
إنني لن أنسى ما حييت رنة صوته وهو يقول هذه الكلمات: ليلتكم سعيدة جميعا.
فإذا أردتم أن تعرفوا أكثر من هذا عن النبي الجديد فاسألوا ابنتي، فهي امرأة الآن، ولكنها لم تبدل تذكارات صباها بمال الأرض كلها، وهي أكثر استعدادا للكلام مني.
باراباس
كلمات يسوع الأخيرة
قد أطلقوني واختاروه، أما هو فنهض وأما أنا فسقطت، وقد قبضوا عليه ضحية وتقدمة للفصح.
وقد تحررت من قيودي ومشيت مع الجمع وراءه، ولكنني كنت رجلا حيا يسير إلى قبره.
كان الأليق بي أن أهرب إلى الصحراء حيث يحترق العار بأشعة الشمس.
ولكنني مشيت مع الذين اختاروه ليحمل جريمتي.
وعندما سمروه على الصليب كنت واقفا هناك.
وقد رأيت وسمعت، ولكن ما يدرك في كان خارج جسدي.
فقال له اللص الذي صلب عن يمينه: وأنت تنزف دماؤك معي يا يسوع الناصري؟
فأجاب يسوع وقال: إنني لولا هذا المسمار المغروس في يدي لكنت أمد يميني وأصافحك.
إننا قد صلبنا معا، ويا ليتهم رفعوا صليبك ليكون قريبا من صليبي. ثم نظر إلى الأرض وتأمل وجه أمه ووجه شاب كان واقفا بجانبها.
وقال: يا أمي، هو ذا ابنك واقف بجانبك.
يا امرأة، هو ذا الرجل الذي سيحمل نقط دمي إلى بلاد الشمال.
وعندما سمع نواح نساء الجليل قال: تأملوا فهن يبكين وأنا أعطش.
قد رفعوني كثيرا فلا أستطيع أن أصل إلى دموعهن.
إنني لن أشرب الخل والمرارة لأطفئ لهيب هذا العطش.
ثم انفتحت عيناه فنظر نحو السماء وقال: يا أبتاه، لماذا تركتنا؟
وبعد أن سكت هنيهة قال والرحمة تملأ صوته: يا أبتاه اغفر لهم؛ لأنهم لا يدرون ما يفعلون.
وعندما تلفظ بهذه الكلمات ظهر لي أنني أرى أمام عيني جميع الناس ساجدين أمام الله يطلبون مغفرة عن صلب هذا الرجل الواحد.
ثم صرخ ثانية بصوت عظيم: يا أبتاه، في يديك أستودع روحي .
وأخيرا رفع رأسه وقال: قد انتهى، ولكن على هذه التلة فقط، وأغمض عينيه.
فمزقت سهام البرق وجه السماء الأسود، وحدث رعد عظيم.
إنني لم أعرف اليوم أن الذين قتلوه عوضا عني قد عملوا على عذابي الذي لن ينتهي.
لأن صلبه لم يأخذ سوى ساعة واحدة.
أما أنا فسأظل مصلوبا إلى نهاية أيامي.
كلوديوس قائد المئة الروماني
يسوع القائد العظيم
بعد أن قبضوا عليه دفعوه إلي، وكان بيلاطس البنطي قد أمرني أن أوقفه حتى الصباح التالي.
قاده جنودي أسيرا، وكان طائعا لهم.
وعند انتصاف الليل تركت زوجتي وأولادي وسرت لزيارة دار الأسلحة.
وكانت لي عادة أن أذهب وأتفقد رجال حاميتي في أورشليم لأرى أن كل شيء على ما يرام، وفي تلك الليلة زرت دار الأسلحة لأنه كان سجينا فيها.
وكان جنودي وبعض من فتيان اليهود يتلهون بالهزء به، فإذا بهم نزعوا عنه ثوبه ووضعوا إكليلا من شوك السنة الماضية على رأسه، وأجلسوه أمام عمود، وكانوا يرقصون ويصرخون حوله.
وأعطوه قصبة ليمسكها بيده.
وإذ دخلت عليهم صرخ أحدهم وقال: انظر ملك اليهود أيها القائد.
فوقفت أمامه ونظرت إليه، وللحال شعرت بخجل عظيم، إنني لم أدر لذلك سببا.
فقد حاربت في غاليا وفي إسبانيا، وخضت غمرات الموت مع رجالي، ولكنني لم أعرف الخوف، وقط لم أكن جبانا.
ولكنني عندما وقفت أمام ذلك الرجل ونظر إلي هلع قلبي وفارقتني شجاعتي، وشعرت بأن شفتي قد ختمتا ختما محكما، فلم أقدر أن أنبس بكلمة.
فتركت دار الأسلحة من فوري.
حدث هذا من ثلاثين سنة، وأولادي الذين كانوا أطفالا في ذلك الوقت هم رجال الآن وهم يخدمون القيصر ورومة.
ولكنني كلما أردت نصحهم أحدثهم عن ذلك الرجل، الذي كان وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أمام الموت يلتمس الرحمة والغفران لقاتليه.
ها أنا اليوم شيخ طاعن في السن، وقد عشت أعوامي مكتفيا من كل شيء، ولكنني أعتقد أنه لم يكن لبومبي ولا لقيصر من روح القيادة العظيمة ما كان لهذا الرجل الجليلي.
لأنه منذ موته الذي جرى بدون مقاومة قد نهض من الأرض جيش جبار ليحارب في سبيله ... وهم يخدمونه، مع أنه ميت، بما لم يحلم، لا بومبي ولا قيصر، بالحصول عليه من جنودهما في حياتهما.
يعقوب أخو الرب
العشاء الأخير
ألف مرة قد زارتني ذكرى تلك الليلة، وأعرف الآن أنها ستزورني ألف مرة أخرى.
ستنسى الأرض الأثلام المشقوقة في صدرها، وستنسى المرأة الألم والفرح اللذين في ولادة الأولاد. أما أنا فإنني لن أنسى تلك الليلة ما حييت.
كنا في المساء خارج أسوار أورشليم، فقال يسوع: لنذهب الآن إلى المدينة لنتعشى في الفندق.
وكان الظلام قد خيم عندما وصلنا إلى الفندق، وكنا جياعا.
فحيانا صاحب الفندق وصعد بنا إلى علية.
فطلب إلينا يسوع أن نجلس حول المائدة، أما هو فظل واقفا يحدق بعينيه إلينا.
فخاطب صاحب الفندق، وقال له: أحضر لي طستا وإبريقا ممتلئا ماء، ومنشفة.
ثم نظر إلينا أيضا، وقال بلطف: اخلعوا نعالكم.
فلم نفهم، ولكننا عملا بأمره خلعنا نعالنا.
فأحضر صاحب الفندق الطست والإبريق، فقال يسوع: سأغسل أرجلكم الآن؛ لأنه يجدر بي أن أحرر أقدامكم من غبار الطريق القديمة وأمنحها حرية الطريق الجديدة.
فتولانا جميعا منتهى الدهش والخجل.
فوقف سمعان بطرس وقال: كيف أقدر أن أزعج معلمي وربي ليغسل قدمي؟
فأجاب يسوع: إنني أغسل رجليك لكي تتذكر أن الذي يخدم الناس سيكون أعظم من جميع الناس.
ثم نظر إلى كل واحد منا وقال: إن ابن الإنسان الذي اختاركم إخوة له، ذلك الذي دهنت قدماه في الأمس بطيوب العربية ونشفت بشعر امرأة، يرغب الآن في أن يغسل أرجلكم.
فأخذ الطست والإبريق وركع وغسل أرجلنا مبتدئا بيهوذا الإسخريوطي.
ثم جلس معنا إلى المائدة، وكان وجهه كالفجر المشرق على معركة بعد ليلة كفاح سالت فيها الدماء.
فجاء صاحب الفندق مع زوجته يحملان الطعام والخمر.
ومع أنني كنت جائعا قبل أن ركع يسوع على قدمي فإنني أضعت كل شهية للطعام، وكان في حلقي لهيب مقدس لم أشأ أن أطفئه بالخمرة.
وأخذ يسوع رغيفا من الخبز وأعطانا قائلا: قد لا نكسر الخبز معا فيما بعد، فلنأكل هذه الكسرة تذكارا لأيامنا في الجليل.
ثم صب خمرا من الجرة في كأس وشرب، وأعطانا قائلا: اشربوا هذه الخمرة تذكارا للعطش الذي عرفناه معا، واشربوها أيضا على رجاء العصر الجديد، فإذا ذهبت ولم أكن معكم فيما بعد، فكلما اجتمعتم هنا أو في أي مكان آخر اكسروا الخبز واسكبوا الخمرة وكلوا واشربوا كما تفعلون الآن، ثم انظروا حواليكم فعلكم تجدونني جالسا معكم إلى المائدة.
وبعد أن قال هذا شرع يوزع علينا قطعا من السمك والدراج كما يطعم الطير فراخه.
ومع أننا لم نأكل إلا القليل فقد اكتفينا، ولم نشرب سوى نقطة صغيرة؛ لأننا شعرنا بأن الكأس التي أمامنا كانت فضاء بين هذه الأرض وأرض أخرى.
فقال يسوع: فلننهض قبل أن نترك هذه المائدة، ولنترنم بأناشيد الفرح التي ترنمنا بها في الجليل.
فنهضنا وأنشدنا بصوت واحد، ولكن صوته كان أرفع من أصواتنا، وكانت في كل كلمة من كلماته رنة خاصة.
فنظر إلى وجوهنا كلا بمفرده وقال: أودعكم الآن، لنذهب إلى ما وراء هذه الجدران، لنذهب إلى الجثمانية.
فقال يوحنا بن زبدي: يا معلم، لماذا تودعنا في هذه الليلة؟
فأجاب يسوع وقال: لا تضطرب قلوبكم، فأنا لا أترككم إلا لأعد لكم مكانا في بيت أبي، ولكن إذا احتجتم إلي فإني أرجع إليكم، وحيث دعوتموني أسمعكم، وحيثما طلبتني أرواحكم فهناك أكون معكم.
ولا تنسوا أن العطش يقود إلى المعصرة، والجوع إلى وليمة العرس.
إن حنينكم يحملكم إلى ابن الإنسان، والحنين هو ينبوع الوجد المقدس والطريق المؤدية إلى الأب.
فقال له يوحنا ثانية: إذا كنت بالحقيقة ستتركنا، فكيف نهتدي إلى مسراتنا؟ ولماذا تتكلم عن الانفصال؟
فقال يسوع: إن الظبي المطارد يعرف سهم الصياد قبل أن يشعر به في صدره، والنهر يعرف البحر قبل أن يصل إلى شاطئه، وابن الإنسان قد سافر في طرائق الناس.
وقبل أن تخرج شجرة اللوز براعمها في الشمس ستطلب جذور شجرتي قلب حقل آخر.
فقال سمعان بطرس: يا معلم، لا تتركنا الآن، ولا تحرمنا مسرة حضوركم بيننا ، فإننا نمضي حيث تمضي ونقيم حيث تكون مقيما.
فوضع يسوع يده على كتف سمعان بطرس، وتبسم، وقال له: من يدري إذا كنت لا تنكرني قبل انتهاء هذه الليلة، وتتركني قبل أن أتركك؟
ثم قال فجأة: لنمض من هنا.
فترك الفندق وتبعناه، ولكن عندما وصلنا إلى بوابة المدينة لم نجد يهوذا الإسخريوطي معنا، فعبرنا وادي جهنم، وكان يسوع يتقدمنا، ونحن نمشي بعضنا بجانب بعض.
وإذ بلغنا بستان الزيتون وقف والتفت إلينا وقال: استريحوا هنا ساعة.
وكان المساء باردا مع أن الربيع كان في انتصافه، وكانت أشجار التوت قد أورقت وأشجار التفاح في كمال زهرها، وكانت البساتين جميلة.
فطلب كل واحد منا جذع شجرة واتكأنا، أما أنا فاضطجعت تحت صنوبرة ملتفا بردائي.
أما يسوع فتركنا ومشى وحيدا في بستان الزيتون، وكنت أراقبه وجميع الرفاق الآخرين نيام.
فكان تارة يقف فجأة بهدوء عجيب، ثم لا يلبث أن يسير في البستان ذهابا وإيابا، وقد فعل هذا غير مرة.
ثم رأيته يرفع وجهه نحو السماء ويبسط ذراعيه إلى الشرق والغرب، فقد قال مرة: إن السماء والأرض والجحيم نفسه كلها من الإنسان. فتذكرت قوله، وأدركت أن الذي كان يتخطر أمامي في بستان الزيتون هو السماء صارت إنسانا، وفكرت أن رحم الأرض لا هي بالبداءة ولا بالنهاية، بل هي بالأحرى مركبة ومحطة، ولحظة عجب ودهشة. وقد رأيت الجحيم أيضا في الوادي المعروف باسم جهنم، الذي كان قائما آنئذ بين يسوع والمدينة المقدسة.
وفيما كان واقفا هنالك وأنا ملتف بثوبي على الأرض سمعته يتكلم، ولكنه لم يكن يتكلم معنا، ثلاث مرات سمعته يتلفظ بكلمة الأب، وهذا كان كل ما سمعته.
وبعد هنيهة سقطت ذراعاه، فوقف هادئا كأنه سروة بين عيني وبين السماء.
أخيرا رجع إلينا، وقال لنا: استيقظوا وانهضوا، فقد دنت ساعتي، وقد خرج العالم علي مسلحا للمعركة.
وبعد قليل قال: منذ هنيهة سمعت صوت أبي، فإذا لم أنظركم ثانية فتذكروا أن الغالب لا يتمتع بالسلام حتى ينغلب.
وعندما نهضنا ودنونا منه كان وجهه كالسماء المرصعة بالنجوم فوق الصحراء.
ثم قبل كل واحد منا في وجنته، وعندما قبل وجنتي شعرت بأن في شفتيه من الحرارة نفس ما في يد الطفل المحموم.
وفيما نحن على هذا سمعنا ضجيجا عظيما في آخر البستان كأنه ضجيج جمع غفير، وعندما قرب منا رأينا جماعة من الرجال يتقدمون بمصابيح وعصي، وكانوا قادمين بسرعة.
وعندما وصلوا إلى سياج البستان تركنا يسوع وذهب ليستقبلهم، وكان يهوذا الإسخريوطي يقودهم.
وكان الجمع يتألف من جنود رومانيين بسيوف وحراب ورجال من أورشليم بنبابيت وفئوس.
فتقدم يهوذا إلى يسوع وقبله، ثم قال للرجال المسلحين: هذا هو الرجل.
فقال يسوع ليهوذا: قد صبرت علي يا يهوذا؛ لأن هذا كان ممكنا لك في الأمس.
ثم التفت إلى الرجال المسلحين وقال: خذوني الآن، ولكن ينبغي أن يكون قفصكم كبيرا ليسع هذه الأجنحة.
فهجموا وقبضوا عليه، وكانوا يصيحون ويضجون.
أما نحن فقد حملنا الخوف على الهروب للخلاص منهم.
فركضت وحدي بين أشجار الزيتون ولم أفكر في أحد؛ لأنني لم أسمع في تلك الساعة صوتا غير صوت مخاوفي.
وفي أثناء الساعات القليلة التي تبقت من تلك الليلة كنت هاربا متسترا، وعند الصباح وجدت نفسي في قرية قريبة من أريحا.
فلماذا تركته؟ إنني لا أدري، ولكنني حزين لأنني تركته، فقد برهنت على جبانتي بهربي من أعدائه.
وإذ غمرني عار خجلي وندمي رجعت إلى أورشليم فإذا هو سجين ولا يسمح لأحد من أصدقائه بأن يكلمه.
ثم صلبوه، فصنع دمه ترابا جديدا للأرض.
أما أنا فما زلت حيا، ولكنني أعيش متغذيا بقرص العسل الذي جنته حياته.
سمعان القيرواني
كيف حملت صليبه
كنت أسير في طريقي إلى الحقول عندما رأيته حاملا صليبه والجماهير تتبعه.
فمشيت أنا أيضا في جانبه.
وقد أوقفه ثقل حمله غير مرة؛ لأن قوته كانت قد نفدت.
فتقدم إلي أحد جنود الرومان وقال: تقدم، فأنت قوي العضلات متين البناء، فاحمل صليب هذا الرجل.
وعندما سمعت هذه الكلمات رقص قلبي طربا وفرحت بهذه الفرصة، فحملت صليبه شاكرا.
وكان الصليب ثقيلا؛ لأنهم صنعوه من شجر الحور المشرب بأمطار الشتاء.
فنظر يسوع إلي، وكان عرق جبينه ينسكب جاريا على لحيته.
ثم نظر إلي ثانية وقال: وأنت أيضا تشرب هذه الكأس؟ إنك بالحقيقة ستمتص حافتها معي إلى منتهى الدهور.
وإذ قال هذا وضع يده على كتفي الحرة، وهكذا مشينا معا إلى تلة الجمجمة.
ولكنني بعد أن وضع يده على كتفي لم أشعر بثقل الصليب قط، بل كنت أشعر بيده فقط، وكانت كجناح الطير على كتفي.
ثم بلغنا إلى رأس التلة، حيث أعدوا كل شيء ليصلبوه.
حينئذ شعرت بثقل الصليب.
بيد أنه لم يتفوه بكلمة عندما غرزوا المسامير في يديه ورجليه، ولم تخرج من فمه صرخة واحدة.
وأعضاؤه لم ترتجف تحت طرقات المطرقة.
وقد خيل إلي أن يديه ورجليه كانت قد ماتت وهي ترجع آنئذ إلى الحياة مستحمة بالدماء. وأما هو فكان ينشد المسامير كما ينشد الأمير صولجانه، وكان شائقا الارتفاع إلى الأعالي.
ولم يخطر لقلبي أن يشفق عليه لأن الذهول كان يملأ كياني، وها إن الرجل الذي حملت صليبه صار لي صليبا.
فإذا قالوا لي ثانية: احمل صليب هذا الرجل، فإني لأحملنه بملء الرضى حتى تؤدي بي طريقي إلى قبري.
ولكنني ألتمس منه آنئذ أن يضع يده على كتفي.
قد حدث هذا منذ أعوام عديدة، ولكنني كلما تبعت الثلم في حقلي، وكلما غالبني النعاس قبل النوم، أفكر بغير انقطاع في ذلك الرجل الحبيب، وأشعر بيده المجنحة هنا على كتفي اليسرى.
سيبورية أم يهوذا
تصف ابنها وأطواره
كان ابني رجلا فاضلا مستقيما، وكان لطيفا رقيقا في معاملتي، وقد أحب أهله ومواطنيه، وأبغض أعداءنا الرومانيين الملاعين الذين يرتدون الملابس الأرجوانية، مع أنهم لا يغزلون خيطا ولا يجلسون إلى نول، ويحصدون ويجمعون من غير أن يفلحوا أو يبذروا بذارا.
كان ابني في السابعة عشرة فقط عندما قبضوا عليه يرمي الحامية الرومانية بنباله وهي تمر بكرمنا.
وفي ذلك العمر كان يحدث أترابه من فتيان البلاد بمجد إسرائيل، وينطق أمامهم بأقوال وخطب عجيبة لم أفهمها.
وكان ابنا محبا، وكان وحيدا.
فقد شرب الحياة من هذين الثديين الناشفين الآن، ومشى خطواته الأولى هنا في هذا البستان، متمسكا بهذه الأصابع التي هي اليوم كالقصبات المرتجفة.
بهاتين اليدين، اللتين كانتا آنئذ فتيتين طريتين كعنب لبنان، قد خبأت حذاءه الأول في منديل من الكتان كانت قد أهدته إلي أمي، وما زلت أحتفظ به في تلك الخزنة التي بجانب النافذة.
كان بكرا لي، وعندما مشى خطواته الأولى شعرت أنا أيضا بأني أخطو خطواتي الأولى؛ لأن النساء لا يسافرن إلا مقودات بأولادهن.
والآن يقولون لي إنه مات منتحرا، فقد رمى نفسه من الصخرة العالية لأن ضميره وبخه على تسليمه صديقه يسوع الناصري.
إنني أعرف أن ابني قد مات، ولكنني واثقة بأن ابني لم يسلم أحدا؛ لأنه أحب أبناء جنسه ولم يبغض أحدا غير الرومانيين.
كان لابني ضالة واحدة هي مجد إسرائيل، فلم يكن في أقواله وأفعاله موضوع غير هذا الموضوع.
وعندما تعرف إلى يسوع على الطريق تركني ليتبعه، أما أنا فقد عرفت في أعماق قلبي أنه يخطئ إذا تبع أي إنسان لأنه خلق ليكون متبوعا لا تابعا.
وقبل أن يودعني أخبرته بخطئه فلم يصغ إلي.
إن أولادنا لا يصغون إلى نصائحنا، فهم أشبه بمد البحر في اليوم لا يلتمسون النصح من مد الأمس.
أرجو من فضلكم ألا تسألوني ثانية عن ابني.
فقد أحببته وسأحبه إلى الأبد.
ولو كانت المحبة في اللحم لكنت أحرقه بالحديد الحامي وأحظى بسلامتي، ولكنه في النفس فلا يبلغ إليها.
والآن أنقطع عن الكلام، فاذهبوا واسألوا أما أكثر شرفا من أم يهوذا.
اذهبوا إلى أم يسوع، فقد جاز السيف في قلبها أيضا، وهي تخبركم عني فتفهمون.
امرأة من جبيل
مرثاة
ابكين معي يا بنات عشتروت، ويا كل محبي تموز.
مرن قلوبكن فتذوب وتنهض فتجري كالدم دموعا.
لأن الذي صنع من الذهب والعاج لم يبق في الوجود.
فقد هجم عليه الخنزير البري في الغابة المظلمة ومزق جسده بأنيابه.
والآن فهو يضطجع ملطخا مع أوراق الأعوام المنصرمة، ولن يوقظ وقع خطواته البذور الهاجعة في حضن الربيع.
إن صوته لن يأتي مع الفجر إلى نافذتي، وسأعيش وحيدة أبدا.
ابكين معي يا بنات عشتروت، ويا كل محبي تموز؛ لأن حبيبي قد أفلت مني. ذلك الذي تكلم كما تتكلم الأنهار، ذلك الذي كان صوته وزمارته توأمين، ذلك الذي كان فمه ألما ملتهبا فتحول إلى عذوبة لذيذة، ذلك الذي كانت المرارة تتحول على شفتيه إلى شهد العسل.
ابكين معي يا بنات عشتروت، ويا كل محبي تموز.
ابكين معي حول نعشه كما تبكي النجوم، وكما تتساقط أوراق القمر على جسده الجريح.
بللن بدموعكن أغطية فراشي الحريرية، حيث استراح حبيبي مرة في حلمي، ثم ابتعد عني في يقظتي.
أستحلفكن يا بنات عشتروت، ويا كل محبي تموز.
اسندن صدوركن وابكين وعزينني.
لأن يسوع الناصري قد مات.
مريم المجدلية
بعد ثلاثين سنة
مرة ثانية أقول إن يسوع بالموت غلب الموت، ونهض من القبر روحا وقوة، وقد مشى في وحدتنا وزار بساتين وجدنا ومحبتنا.
فهو لا يضطجع هنالك في تلك الصخرة المنحوتة وراء الحجارة.
فنحن الذين نحبه قد رأيناه بهذه العيون التي فتح بصيرتها لترى، ولمسناه بهذه الأيدي التي علمها كيف تنبسط.
إنني أعرفكم أنتم الذين لا تؤمنون به، فقد كنت منكم وأنتم كثيرون، ولكن عددكم سيتناقص.
فهل يجب أن تكسروا عودكم وقيثارتكم لتشاهدوا الموسيقى فيهما؟
أو هل يجب أن تقطعوا الشجرة قبل أن تقدروا على الإيمان بأثمارها؟
أنتم تبغضون يسوع لأن رجلا من بلاد الشمال قال إنه ابن الله، ولكنكم تبغضون بعضكم بعضا لأن كل واحد منكم يحسب نفسه أكبر من أن يكون أخا للآخر.
أنتم تبغضونه لأن فريقا قالوا إنه ولد من عذراء، وليس من زرع رجل.
ولكنكم لا تعرفون الأمهات اللواتي يذهبن إلى القبر في عذريتهن، ولا الرجال الذين يذهبون إلى قبورهم مختنقين بعطشهم.
أنتم لا تعرفون أن الأرض زفت إلى الشمس، وأن الأرض هي التي تبعثنا إلى الجبل وإلى الصحراء.
إن هنالك خليجا يتثاءب بين الذين يحبون يسوع والذين يبغضونه، بين الذين يؤمنون وبين الذين لا يؤمنون.
فإذا بنت الأعوام جسرا فوق هذا الخليج ، فحينئذ ستعرفون أن الذي عاش فينا لا يموت، وأنه كان ابنا لله كما أننا نحن أيضا أبناء الله، وأنه قد ولد من عذراء، كما أننا نحن أيضا قد ولدنا من الأرض التي لا زوج لها.
غريب عجيب كيف أن الأرض لا تعطي غير المؤمنين الجذور التي ترضع من ثدييها، والأجنحة التي بها يطيرون محلقين ليشربوا ويمتلئوا من ندى فضائها.
بيد أنني أعرف ما أعرف، وفي هذا كفاية لي.
رجل من لبنان
بعد تسعة عشر قرنا
يا سيد المرنمين.
يا سيد الكلمات التي لم ينطق بها.
سبع مرات قد ولدت، وسبع مرات قد مت بعد زيارتك المستعجلة وترحيبنا القصير.
وهل أنا أحيا ثانية، متذكرا العهد الذي رفعنا فيه مدك يوما واحدا وليلة واحدة بين التلال.
وبعد ذلك قد قطعت أرضا كثيرة وبحارا كثيرة.
وحيثما حملتني خيول الأرض أو سفن البحر كنت أرى اسمك إما صلاة ترتفع من القلب أو موضوعا لمجادلة يقوم بها الفكر.
والناس حزبان: حزب يباركك وحزب يلعنك.
أما اللعنة فعربون الاحتجاج على الفشل.
وأما البركة فترنيمة الصياد الراجع من التلال ظافرا غانما.
إن أصدقاءك ما زالوا في وسطنا، لتعزيتنا وعضدنا.
وأعداءك، أيضا معنا، لتقويتنا وتثبيت إيماننا.
وأمك معنا، فقد رأيت نور وجهها في محيا جميع الأمهات، إن يدها تهز الأسرة بلطف، وتطوي الأكفان بعطف.
ومريم المجدلية لا تزال في وسطنا.
تلك التي شربت خل الحياة ثم خمرتها.
ويهوذا، رجل الآلام والمطامح الصغيرة، ما زال يمشي في أرضنا، وهو ما برح يصطاد نفسه إذا لم يجد غيرها صيدا، طالبا ذاته الكبرى بالانتحار. •••
ويوحنا، الذي أحب شبابه الجمال، هو معنا.
وهو ينشد ألحانه وإن لم يصغ إليه أحد.
وسمعان بطرس، الذي أنكرك لتطول حياته في معرفتك، هو أيضا جالس أمام مواقدنا.
وهو قد ينكرك ثانية قبل مرور فجر يوم آخر.
بيد أنه أبدا مستعد أن يصلب في سبيل مبادئك حاسبا نفسه غير مستحق لهذا الشرف.
وقيافا وحنان ما زالا يتمتعان بنور يومهما ويحكمان على المجرم والبريء.
وهما ينامان على فراش من الريش في حين أن الذي حكما عليه تلعب السياط على ظهره.
والمرأة التي أمسكت بالزنى تمشي اليوم في شوارع مدننا وهي تجوع للخبز الذي لم يخبز بعد، وتعيش وحيدة في بيت فارغ. وبيلاطس البنطي هنا أيضا، فهو واقف باحترام أمامك، ولا يزال يسألك بيد أنه لا يجرؤ أن يعرض بمركزه أو يقاوم أمة أجنبية، وحتى الساعة لم يفرغ من غسل يديه. وحتى الساعة تحمل أورشليم الطست ورومة الإبريق، وبين الاثنين تنتظر ألف ألف يد لتغسل. •••
يا سيد الشعراء، يا سيد ما قيل وما أنشد من الكلام.
قد بنى الناس الهياكل لسكنى اسمك.
وعلى كل قنة رفعوا صليبك علامة ودليلا لأقدامهم الهائمة وليس لمسرة روحك.
فإن مسرتك تلة وراء أفكارهم ولذلك لا تعزيهم.
فهم يحبون أن يكرموا الرجل الذي لا يعرفونه.
وأية تعزية في رجل نظيرهم، ورأفته كرأفتهم؟
أو في إله محبته كمحبتهم، ورحمته هي رحمتهم؟
إنهم لا يكرمون الرجل، الرجل الحي، الرجل الأول الذي فتح عينيه ونظر إلى الشمس بأجفان غير مرتعشة.
إلا أنهم لا يعرفونه ولا يريدون أن يكونوا مثله. •••
إنهم يريدون أن يكونوا مجهولين، وأن يمشوا في موكب غير المعروف.
إنهم يحبون أن يحملوا الكآبة التي هي كآبتهم؛ ولذلك لا يريدون أن يجدوا تعزية في مسرتك.
وقلبهم الوجيع لا ينشد التعزية التي في أقوالك وأنشودتها.
أما آلامهم، الصامتة المخلعة، فإنها تجعلهم مخلوقات مستوحشة لا يزورها أحد.
ومع أنهم يعيشون مع أهلهم وأبناء أمتهم، فهم يعيشون خائفين ولا صديق لهم، ولكنهم يحبون أن يكونوا وحدهم.
وإذا هبت الريح الغربية ينحنون إلى الشرق.
إنهم يدعونك ملكا، ويريدون أن يجلسوا في بلاطك.
ويقولون إنك أنت ماسيا، بيد أنهم يريدون أن يمسحوا أنفسهم بالزيت المقدس، إلا أنهم يريدون أن يعيشوا على حسابك. •••
يا سيد المرنمين.
قد كانت دموعك كشآبيب المطر في أيار (الشهر الخامس).
وكان ضحكك كأمواج البحر الأبيض.
وعندما تكلمت عبرت كلماتك عن همس بعيد لشفاههم، في الوقت الذي كان يجب على تلك الشفاه أن تستنير بالنار.
فقد ضحكت للنخاع في عظامهم الذي لم يكن مستعدا للضحك.
وبكيت لعيونهم التي لم تكن تعرف الدموع بعد.
وكان صوتك أبا عطوفا لأفكارهم وأفواههم.
بلى، وكان أما رءوما لأقوالهم وأرواحهم. •••
سبع مرات قد ولدت، وسبع مرات قد مت.
وها أنا أحيا ثانية فأراك.
محاربا بين المحاربين، وشاعر الشعراء، وملكا فوق جميع الملوك.
ورجلا نصفه عار بين رفاقك من عابري السبيل.
في كل يوم يحني الأسقف رأسه عندما يتلفظ باسمك الكريم.
وفي كل يوم يقول المتسولون: من أجل المسيح، أعطونا نحاسة لنشتري بها خبزا!
نحن نتوسل بعضنا إلى بعض، ولكننا بالحقيقة لا نتوسل لغيرك.
فنحن كالمد الفائض في ربيع حاجياتنا ورغباتنا.
وعندما يأتي خريفنا نصير كالجزر الشحيح.
فسواء كنا عظماء أو وضعاء فإن اسمك على شفاهنا.
أنت السيد غير المتناهي، للعطف غير المتناهي. •••
يا سيد ساعتنا المستوحشة.
هنا وهناك، بيد المهد والكفن، أرى إخوتك الصامتين.
الرجال الأحرار غير المقيدين، أبناء أمك الأرض والفضاء.
فهم كطيور السماء، وكزنابق الحقل.
وهم يحيون حياتك ويفكرون أفكارك.
ويرجعون صدى أنشودتك.
ولكن أيديهم فارغة.
ولا يصلبون مع الصلب العظيم، وفي هذا المهم.
إن العالم يصلبهم في كل يوم، ولكن بطرائق بسيطة.
فالسماء لا تهتز حين صلبهم، والأرض لا تتمخض بأمواتها.
فهم يصلبون ولا أحد يشهد عذابهم.
ويديرون وجوههم إلى اليمين وإلى الشمال.
فلا يجدون أحدا ليعدهم بمكان في ملكوته.
بيد أنهم يريدون أن يصلبوا المرة بعد المرة.
ليكون إلهك إلها لهم، وأبوك أبا لهم.
يا سيد المحبة.
إن الأميرة تنتظر مجيئك في عليتها المعطرة.
والمرأة المتزوجة في قفصها.
والمومس التي تنشد خبزها في شوارع عارها.
والراهبة التي لا زوج لها في صومعتها.
والعاقر أيضا، أمام نافذتها، تتأمل صورة الغابة التي رسمها الصقيع على زجاج النافذة، فتجدك في تناسب خطوطها، فترضعك في أحلامها وتتعزى. •••
يا سيد الشعراء.
يا سيد رغباتنا الصامتة.
إن قلب العالم يخفق مع نبضات قلبك، ولكنه لا يحترق مع أناشيدك. إن العالم يجلس ليصغي إلى صوتك بفرح وطمأنينة، ولكن لا ينهض عن مجلسه ليزين حافات تلالك.
والإنسان يحلم حلمك، ولكنه لا يستيقظ مع فجرك الذي هو أعظم من حلمك.
وهو يريد أن يرى بصيرتك، ولكنه لا يجر قدميه الثقيلتين إلى عرشك.
بيد أن كثيرين أجلسوا على العروش باسمك، وتوجوا بقوتك فحولوا زيارتك الذهبية إلى تيجان لرءوسهم وصوالجة لأيديهم. •••
يا سيد النور.
الذي تقطن عيناه في أصابع العميان البصيرة.
إنك ما زلت تحتقر ويهزأ بك.
رجلا يحول ضعفك وسقمك دون صيرورتك إلها.
وإلها تحول إنسانيتك المتناهية دون حصولك على العبادة.
إن ما يقدمه الناس أمام عرشك في القداديس والترانيم، والأسرار والذبائح، إنما هو لأجل ذاتهم السجينة.
فأنت وحدك ذاتهم البعيدة، وصراخهم الشاسع، وشوقهم وحنينهم. •••
أيها السيد، أيها القلب السماوي.
يا بطل أحلامنا الذهبية.
إنك ما زلت تتخطر أمامنا في هذا اليوم.
فلا السهام ولا الحراب تستطيع أن توقف خطواتك.
لأنك تمشي بين جميع سهامنا وحرابنا.
إنك تتبسم لنا من أعاليك.
ومع أنك أصغر من جميعنا سنا، فأنت أب لجميعنا.
أيها الشاعر.
أيها المرنم.
أيها القلب الكبير.
ليبارك الرب اسمك.
والبطن الذي حملك.
والثدي الذي أرضعك.
وليسامحنا الرب جميعا!
صفحة غير معروفة