كان لأبي حية النميري سيف ليس بينه وبين الخشبة فرق، وكان يسمى (لعاب المنية). قال جار له: أشرفت عليه ليلة وقد انتضاه وشمر وهو يقول: أيها المغتر بنا والمجترئ علينا، لبئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به، مشهور ضربته، لا تخاف نبوته، اخرج بالعفو عنك وإلا دخلت بالعقوبة عليك، إني والله إن أدع قيسا تملأ الأرض خيلا ورجلا، يا سبحان الله، ما أكثرها وأطيبها. ثم فتح الباب، فإذا كلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذي مسخك كلبا، وكفاني حربا.
وهذا النص الذي تنضح منه السخرية مثال كاريكاتيري للكلمة التي تفقد معناها بسبب العنترية والتهويل، وينطبق عليه المثل القائل: «الجنازة حارة، والميت كلب .» •••
واستمرت هذه النزعة إلى المبالغة ونقلت عدواها إلى رجال السياسة الذين اعتادوا على إطلاق التصريحات النارية التي يعلمون سلفا أنهم غير قادرين على تنفيذها.
ولعل أشهر مثال على ذلك هو تصريح أحد القادة الفلسطينيين قبل نكسة 1967م قال فيه بأننا سنلقي إسرائيل في البحر، وقد أضر هذا التصريح بالقضية الفلسطينية ضررا بالغا. ولم يدرك العالم آنذاك أنه مجرد نتاج لثقافة المبالغة ولغة التهويل، ولم يكن ينم عن نوايا حقيقية بقتل كل الإسرائيليين وإلقائهم في البحر. وقد أخذ العالم أجمع وخاصة العالم الغربي هذا التصريح بمعناه الحرفي؛ نظرا لأن غالبية ثقافات العالم لا تميل مثلنا إلى الإفراط في المبالغة.
وكان صدام حسين وريثا وفيا لأسلوب التهويش الذي يتأثر بتركيبة اللغة العربية، وبلغ فيه ما لم يبلغه زعيم عربي من قبل ولا بعد. وقد قال في تصريح عنتري في عام 1990م إنه في حالة الاعتداء على العراق فإنه «سيحرق نصف إسرائيل». وقد رأينا الهوة السحيقة بين تصريحات صدام البطولية وأفعاله الفاشوشية.
ولا تخلو الصحف العربية من أساليب المبالغة الفجة والتي تعتبر في نظر كتابها والعديد من قرائها بلاغة تصل بالمعنى إلى أعلى مراتبه، فتجد مقالا ينتقد شخصا لأمر غير خطير، فيتحمس كاتبه ويقول إن فلانا يستحق أن يشنق في ميدان عام. ومع سياق الكلام «يسخن» الكاتب أكثر فيضيف أنه لا بد وأن يسحل هذا الشخص في شوارع المدينة وأن تحرق جثته ليكون عبرة لغيره.
ويبدو أن العربي يرضع مع تعلم اللغة نزعة فطرية إلى المبالغة والتوكيد. وقد أجريت دراسة على عينة من الشباب العربي والغربي فاتضح أن التصريح الذي يعتبره الغربي موقفا واضحا وتوكيدا للمعنى، يعتبر بالنسبة للشباب العربي موقفا حياديا يحتمل التأويل، ولا يتضمن توكيدا واضحا.
ولأنني أنتمي قلبا وقالبا إلى الثقافة العربية فقد مررت بتجربة مماثلة في بداية إقامتي بفرنسا عام 1980م، وقد صدر آنذاك تصريح البندقية الشهير الذي اعتبر موقفا أوروبيا جديدا ونقلة من التأييد الكامل لإسرائيل إلى موقف يتفهم الحق العربي ويقف إلى جانبه. وصدرت في فرنسا تصريحات كثيرة في نفس هذا الاتجاه بل تذهب إلى أبعد مدى في اتجاه العرب. وكان الدبلوماسيون الفرنسيون الذين ألتقي بهم، وكانوا مؤيدين للعرب، يبدون سعادتهم أمامي، لكني كنت أختلف معهم لأنني أجد هذه التصريحات مائعة وغير قاطعة، وكانت تدور مناقشات حامية بيننا.
ولم أكن أفهم آنذاك أن هناك فجوة في المفهوم اللغوي بيني وبينهم، وأن المواقف في المفهوم الغربي يتم التعبير عنها بأسلوب بعيد عن المبالغة والتوكيد، وهو الأسلوب الذي اعتدنا عليه. •••
ومن العيوب العربية المرتبطة بالمبالغة استغلال الكلمة بإيقاعاتها وإيحاءاتها الفضفاضة بديلا عن الفعل الغائب. وقد ذكر القرآن الكريم هذا العيب المستقر في العقل العربي منذ قديم الأزل حيث يقول تعالى:
صفحة غير معروفة