وقد أثبتت التجربة أن النزعة إلى التقوقع والخوف من العالم الخارجي تظهر وتستشري بالتوازي مع الانحسار الحضاري؛ فالحضارات القوية الواثقة من نفسها تكون عادة على استعداد لتقبل الفكر الوافد من الخارج ومناقشته والتعرف عليه ونقل ما قد يفيد منه.
ومع ذلك فالميل إلى رفض كل جديد نزعة كامنة في كل المجتمعات البشرية على مر التاريخ بصورة أو بأخرى. ومن الممكن إعادة قراءة التاريخ الفكري للإنسانية من منظور الصراع الدائم بين حراس القديم ودعاة التحديث؛ ففي كل مرة طرأت فيها على مجتمع من المجتمعات تغيرات موضوعية، تستوجب تأقلم الفكر والثقافة والقوانين من أجل مطابقة الواقع المستحدث، نجد دائما من يهب للتمسك بالموروث دون تطوير، ويقاتل بكل شراسة كي تظل المرجعية الوحيدة هي مرجعية السلف.
وكم استخدم حراس القديم الأديان في كل زمان لوقف أي تطور وحجب أي رؤى وآراء جديدة! وما يحدث اليوم في العالم العربي هو تكرار لما وقع منذ العصر الجاهلي، مرورا بكل عصور الدول الأموية والعباسية والعثمانية وغيرها وحتى العصر الحديث. •••
وإذا قمنا بالمراجعة التاريخية التي أقترحها فسوف نستخلص منها: أن أنصار التجمد ينتصرون دائما في المدى الآني والقريب. لكن كل تجارب الماضي تثبت أن حركة التجديد التي أجهضت تترك دائما آثارا إيجابية تؤدي إلى تقدم ولو محدود إلى الأمام.
والغريب أن من يقرأ تاريخ تطور الفكر الإسلامي يكتشف أن حراس القديم يتشدقون دائما بنفس الحجج وبذات المنطق. وخلاصته أن التجديد هو قطيعة مع الدين وأصوله وخروج عن تعاليمه، وأن أي فكر خارج عن الإطار الذي وضعه السلف يعد خطرا داهما على الأمة الإسلامية وعلى ديننا الحنيف. ويقوم فكر هؤلاء على المسلمات التي لا تناقش، والمحرمات التي يحظر الاقتراب منها. ومبدؤهم الراسخ هو التسليم التام برأي السلف وقطع رقبة من يجترئ على طرح أفكار جديدة.
ويستند هؤلاء على فرضيات من الدين ينطلقون في تفسيرها من أرضية منطقهم الرافض للتقدم، فيستخلصون منها نتائج مخيفة لا علاقة لها بالدين الإسلامي من قريب أو بعيد. ويقف حراس الماضي ضد كل فكر يعلي قيم الحرية والديمقراطية وتحرير المرأة وسعادة الإنسان المادية على الأرض، مع أن الدين الإسلامي قد أنزل من السماء رحمة للعالمين ومن أجل سعادة بني آدم.
ولو التزمنا بكلام حراس الماضي، لظلت مجتمعاتنا العربية في حالة من التخلف المرعب، ولكنا اليوم نحبس النساء في البيوت ونكتفي بتحفيظ القرآن الكريم بديلا عن المدارس والجامعات المدنية، ولما كان عندنا تليفزيون أو إذاعة أو صحف ولانعزلنا تماما عن العالم الخارجي. لو استمعنا على مر العصور إلى أنصار القديم لكانت حياتنا اليوم جحيما لا يطاق، ويتعارض مع المبادئ الحقيقية لديننا الذي يدعونا إلى طلب العلم ولو في الصين.
ومن واجبنا اليوم ألا نستمع إلى دعاوى حراس الماضي الباطلة ومحاولتهم تخويف وترويع كل من يطالب بالتغيير والتطور لملاحقة ما وصل إليه العالم المتقدم. •••
لكن الحيدة العلمية تدعونا إلى أن نذكر أن أنصار الماضي لعبوا أحيانا دورا إيجابيا في الحفاظ على التراث وعلى التقاليد الأصيلة للمجتمع، في مواجهة تيارات تسعى إلى التجديد من أجل التغيير، ورفضا لكل ما هو قديم دون تمييز. فكما أن هناك من يخاف أي تعديل لما نشأ عليه وتربى على احترامه وتقديسه، فهناك من يدعوه طبعه إلى الثورة على كل شيء، ومحاولة العصف بأي فكر قديم وبمجموعة القيم والتقاليد المؤسسة للمجتمع الذي يعيش فيه. وذلك كرد فعل على قيود الأفكار المتوارثة من جيل إلى جيل.
ويقول شوقي في هؤلاء:
صفحة غير معروفة