أعرف مسبقا أن الآراء الواردة في هذا الفصل والفصول القادمة ستجلب علي انتقادات عنيفة ممن يعتبرون أنفسهم حراس اللغة وتراث السلف في مصر وفي غيرها من الأقطار العربية، لكنني أعتبر أن أكبر خطر ستواجهه اللغة العربية في السنوات القادمة يتمثل تحديدا في أنصار التجمد ورفض التجديد. وفي رأيي المتواضع أن الذين يتصورون أنفسهم حماة اللغة العربية هم الذين يعرضونها لأكبر الأخطار برفض التطوير، بل الثورة التي تستلزمها اللغة في بداية القرن الحادي والعشرين لتظل لسان العرب المشترك في الألفية الثالثة.
وأنا مقتنع أن ما أقترحه في هذا الكتاب هو - في خطوطه العريضة - الوسيلة الوحيدة لإنقاذ العربية وخروجها من المأزق الخطير الذي تعاني منه اليوم أكثر من أي يوم مضى؛ للأسباب التي أوضحتها في المقدمة.
فلغتنا في حاجة إلى انتفاضة تحديثية عاجلة، وإلا فإنها قد تتعرض لخطر التقوقع وربما الاختفاء، لا قدر الله، كلغة حية يستخدمها الناس في التعامل فيما بينهم. وقد تتحول إلى لغة لا يعرفها سوى بعض العلماء والمتخصصين، ويتعلمها الناس لقراءة القرآن الكريم فقط.
فمن يرقب تطور اللغة في البلدان العربية، يستشعر أن لغتنا الأصيلة مهددة بالضياع لحساب اللهجات التي يستخدمها الناس في الأقطار العربية المختلفة للتعبير عن أنفسهم في حياتهم اليومية. وهناك نفور واضح ومتزايد لدى الشباب من تعلم قواعد اللغة المعقدة والمفردات والتراكيب التي عفا عليها الزمن، ولم تعد تفي باحتياجات الإنسان الحديث في التعبير عن نفسه.
وكلما اجتاحت مظاهر التطور وسرعة إيقاع الحياة مجتمعات العالم العربي، كلما ازداد الشعور العربي العام وخاصة لدى الشباب بأن لغة الضاد لا تسعف في هذا الزمان المتسارع الإيقاع الذي يصل فيه الناس إلى المعلومات وإلى المعاني في أسرع وقت ممكن وأكثر الطرق مباشرة.
وقد سبقني بعض كبار المفكرين وعمالقة الثقافة، منذ رفاعة الطهطاوي (1801-1873م)، في محاولة وضع أصابعهم على أسباب تخلف العالم العربي عن ركب الحضارة وخاصة عن العالم الغربي، لكن أحدا من هؤلاء العمالقة لم يتطرق إلى قضية اللغة بطريقة مباشرة أو اعتبرها عائقا لتقدم العالم العربي وازدهاره.
وأنا مقتنع أن اللغة التي أبدعت أعظم وأجمل وأرق ما كتب في تاريخ البشرية، صارت اليوم مثل عجوز محنط في حاجة إلى عمليات عاجلة للعودة إلى الصبا، والتخلص من آثار الزمن؛ فالعربية كما قلت في المقدمة، هي اللغة الحية الوحيدة في العالم التي لم يطرأ على قواعدها الأساسية أي تعديل منذ أكثر من خمسة عشر قرنا كاملة.
أما باقي اللغات الحية فهي إما حديثة نسبيا، أو قديمة، ولكن طرأت عليها تغييرات أساسية لمواكبة العصر.
وإذا أخذنا اللغات الأوروبية نجد أنها ارتبطت بصورة أو بأخرى بعصر النهضة. وقد تبلورت كلها في شكلها الحالي في حدود القرنين الخامس والسادس عشر. وقد لعب اختراع الطباعة على يد الألماني جوتنبرج في منتصف القرن الخامس عشر دورا حاسما في تطوير اللغات الأوروبية.
فالفرنسية مثلا لا يتجاوز عمرها خمسة قرون. وكانت فرنسا مقسمة لغويا في العصور الوسطى إلى شمال يتحدث الناس فيه لغة تسمى «أويل»، وجنوب يستخدم لغة «أوك» - ويذكرنا هذا باللغة العدنانية في شمال الجزيرة العربية، ولغة حمير في جنوبها - ولم تصبح الفرنسية لغة رسمية إلا في عام 1539م بموجب مرسوم ملكي أصدره ملك فرنسا فرنسوا الأول (1494-1547م) وعرف باسم مرسوم فيليرس-كوتريه.
صفحة غير معروفة