فإخراج رواية على اللوحة البيضاء عمل قد ينفع العقول، ويدخل السرور على القلوب، ولكن الدنيا تسرف جد الإسراف حين تشتري نفع الرواية وسرورها بمئات الألوف من الجنيهات، وهي تضن بعشر معشار هذا على المآثر الإنسانية، التي يتصل بها نفع أقوام وسرور أجيال.
وأقبح من هذا أن تكون الألوف المؤلفة نصيب الرواية الماجنة العقيمة، ولا تحظى ببعض هذا النصيب أجود الروايات وأحفلها بالمعارف والمتع والعظات، أو يكون الجزاء الوافر حظ الممثل الذي لا يستحي أن يعرض رجولته للفضوليات من المتفرجات، ولا يكتب هذا الحظ لنوابغ الفن وأفذاذ الرجال.
هناك خلل في الميزان لا نكران له ولا مناص من إصلاحه؛ لأن الغبن فيه غبن الأمم، والبلاء فيه بلاء الهمم؛ وليس غبن فقير يشكو الفاقة، أو بلاء ضعيف يطلب الرحمة والإنصاف.
ولا نطمع أن يجيء اليوم الذي يتساوى فيه العمل والجزاء كل المساواة، ويبطل فيه الخلل بطلانا يمنع الحيف، ويحقق العدل في كل تقدير؛ فهذا مستحيل، ولعله غير محمود في عقباه؛ لأن الدوافع الحيوية إذا استقامت هذه الاستقامة خيف عليها أن تفقد الاندفاع الصالح والاندفاع الذميم على السواء.
لكننا إذا استبعدنا الكمال المطلق، فالنقص المطبق أولى منه بالإبعاد، وبين المثل الأعلى والمثل الأدنى خطوات لا تعيا بها قدرة الإنسان، ولا يجمل به أن يقعد عنها مكتوف اليدين مقيد الرجلين، وحاجة مصر إلى الجهد في هذا الباب أعظم من حاجة بلاد كثيرات يعلو فيها صراخ لا يسمع له صدى في هذه البلاد.
وقوام الإصلاح في مسألة الفقر على ما نرى أن نذكر الحقائق كلها، ولا نكتفي بجانب واحد منها دون سائر جوانبها.
أو الخير في هذه المسألة أن نقرن كل حقيقة جامحة بحقيقة كابحة تساويها، وتكف من غربها.
فأول الحقائق في مسألة الفقر أن حياة الإنسان كائنا ما كان أنفس من القوت والكساء ومطالب المعيشة، وأنه ما من مخلوق آدمي يعجز عن تقديم خدمة تكافئ ثمن قوته وكسائه ومطالب عيشه، فإذا هلك إنسان جوعا أو عريا ففي تقسيم الأعمال نقص يستدركه المصلحون والمتكفلون بسياسة الاجتماع.
وبإزاء هذه الحقيقة الظاهرة حقيقة أخرى لا تقل عنها ظهورا وجدارة بطول العناية والتدبر، وهي أن الأمان، كل الأمان خطر على الهمم والأذهان، فإن كثيرا من الجهد النافع مبعثه طلب الأمان في المستقبل وشعور النفس بالحاجة إليه في أخريات الحياة، فإذا اطمأن إليه كل حي من بداية حياته فترت حركته، وغلب عليه حب الاستقرار ومني العالم بخطر من جراء ذلك هو أخطر عليه من الإجحاف في تقسيم بعض الأعمال، وتوزيع بعض الأرزاق.
وهناك حقيقة لا مراء فيها، وهي أن المغامرين المقتحمين ينالون أحيانا فوق ما يستحقون من جزاء، ويأخذون أحيانا بعض ما يستحقه المحرومون الذين لا وزر عليهم في هذا الحرمان.
صفحة غير معروفة