وندع تقويم الفكر إلى تقويم السوق، فإنا واجدون أن الرغيف أرخص من الكتاب، وأن التمثال أغلى من الكساء، وأن الحلية أقوم من الآنية الضرورية، وأن قيمة الشيء لا تتعلق بمقدار الحاجة إليه والاستغناء عنه، بل بمقدار ما نكون عليه إذا حصلناه، فنحن إذا حصلنا الرغيف فأقصى ما نبلغه في تحصيله أن نتساوى وسائر الأحياء في إشباع الجسد، وصيانة الوظائف الحيوانية، ونحن إذا حصلنا الفنون الجميلة فما نحن بأحياء وحسب ، ولا بأناسي وحسب، ولا بأفراد وحسب؛ بل نحن أناسي ممتازون ونعيش في أمة ممتازة، تحس ما حولها وتحسن التعبير عن إحساسها.
إن الضروريات توكلنا بالأدنى فالأدنى من مراتب الحياة، أما الذي يرفعنا إلى الأوج من طبقات الإنسان، فهو ما نسميه النوافل والكماليات، أو هو ما نستغني عنه ونعيش!
ولكن كيف نعيش؟
هذا هو موضع السؤال الصحيح، فإن كنا لا نبغي إلا أن نعيش كما تعيش الأحياء كافة، فحسبنا الضروريات المزعومة إلى حين، حسبنا الخبز حتى يجيئنا من ينزع منا الخبز أيضا، ونحن لا نقدر على دفاعه، ولا نطيق غير الخضوع له والصبر على بلائه.
وإن كنا نبغي أن نعيش «أكمل» العيش فلا غنى إذن عن الكماليات لبلوغ الكمال، ولا معدى إذن عن اعتبار الكماليات من ألزم الضروريات.
ومن الواجب «ثالثا» أن نذكر ما هو «العلم» الذي يفوقنا به الغربيون قبل أن نعقد المقارنة بين العلوم والفنون.
فالغربيون لا يفوقوننا بالعلم «المصنوع»، أو علم الطيارات والسيارات والسفن والدبابات والمناسج والمنسوجات.
كلا لا يفوقنا الغربيون بهذا، فإن الشرقي ليحذق صناعة الطيارة إذا رآها كما يحذقها الغربي الماهر في عمله، ولعله يبذه ويسبقه في الوقت والبراعة.
إنما يفوقنا الغربيون بالعلم الملحوظ لا بالعلم المصنوع: يفوقوننا بعلم الملاحظة والابتكار والاختراع؛ يفوقوننا بالعلم الذي يحتاج إلى عين لا تفوتها الرؤية، وبديهة لا يفوتها الإدراك، وخيال لا يفوته تركيب الصغائر، وضم الأجزاء إلى الأجزاء حتى يتألف منها المصنوع الجديد.
وما هذا الذي يفوقوننا به غير ملكة الحس والتخيل التي يترجمها المصور تمثالا والموسيقي لحنا، والشاعر قصيدا، والمخترع صناعة حديثة؟ ما هو غير أن نحس ما حولنا، ونقرن بين إحساس وإحساس حتى نستخرج منها جميعا صورة كاملة في عالم العلم، أو في عالم الفن أو في عالم التجارة؟
صفحة غير معروفة