لكن المقصود بالرمزية في الأدب الحديث هو تلك المدرسة التي راجت في أوائل القرن الحاضر، وظهرت في فرنسا على أعقاب مدرسة «البرناسيين» أصحاب القول بجمال القالب والعكوف على المحاسن الظاهرة في أساليب الشعر والنثر وصياغة العبارات، وعندهم أن الصقل المحسوس هو آية الجمال والبلاغة في جميع الفنون.
فلما راج مذهب البرناسيين هذا في أواخر القرن الماضي ظهر الرمزيون يعارضونه، ويغلون في إنكاره ويذكرونهم بما نسوه من أسرار المعاني التي لا تبرز على وجوه الكلمات، وينبهونهم إلى جمال الوحي والإيمان الذي أهملوه في سبيل الصقل المحسوس، والرونق البارز على صفحات الأساليب.
وقد كان الرمزيون على حق لولا الغلو الذي يندفع إليه أصحاب كل مدرسة جديدة حين يتصدون لحرب المدارس الأخرى، فيذهبون من أقصى النقيض إلى أقصى النقيض.
فالأدب لا يستغني عن الوحي والإشارة، وأبلغ الفن ما يجمع الكثير في القليل، ويطلق الذهن من وراء الظواهر القريبة إلى المعاني البعيدة التي تومئ إليها الألفاظ، ولا تحتويها بجملتها إلا على سبيل التنبيه والتقريب.
ولكن هذه المدرسة غلت وتمادت في الغلو حتى قام من دعاتها من يجعل الغموض والتعمية غرضا مقصودا لذاته، ولو لم يكن من ورائه طائل، وخيل إليهم أنهم مطالبون بالتعبير عن أنفسهم بالرموز، وإن أغنتهم الحروف الواضحة والكلمات المفهومة ... فلم تعمر مدرستهم طويلا، وسقطت في الأدب الفرنسي كما سقطت في آداب الأمم التي انتقلت إليها.
وقد أملي لأتباع هذه المدرسة في الغلو أنها قامت للدعوة في العصر الذي ظهر فيه «فرويد»، وبشر بمذهبه القيم عن الأحلام ودلالتها على الوعي الباطن، وما يستكن فيه من الأسرار المكتومة والنوازع المكبوتة.
وخلاصة هذا المذهب فيما يرجع إلى «الرمزية» أن الأحلام هي لغة الرمز، التي يعبر بها «الوعي الباطن» عن شعوره المكبوت؛ فالرجل المبتلى بالخوف من عدو منتقم أو من وهم مسلط عليه يرى في نومه وحشا ينقض عليه وينهشه بأنيابه، والرجل الطامح إلى المجد يرى أنه سابح في السماء على رءوس الناس، أو يرى أن الناس بالقياس إليه كالنمال في جانب الفيلة الضخام، وهكذا تتمثل معاني «الوعي الباطن» رموزا جسدية؛ لأن الإنسان لا يتمثل المعاني في أحلامه وأمانيه، بل يتمثل فيها ما يرى بالعين، ويلمس باليد ويسمع بالأذن، ويترجم من لغة الفكر إلى لغة الحواس على أسلوب الخيال المعروف.
فما هو إلا أن راجت كلمة «الوعي الباطن» ورموزه في الاصطلاح وخيالات الفنون، حتى تلقفها أذناب المدرسة الرمزية كما تلقف الببغاوات صيحات الآدميين بغير فهم ولا روية، وخيل إليهم أن «الوعي الباطن» خلق جديد أنبته «فرويد» في بيئة الإنسان بعد أن كان معدوما في الأجيال الماضية، وفاتهم أنه أقدم من الوعي الظاهر، وأنه لم يزل يعمل عمله في الآداب والفنون، وفي المعيشة اليومية منذ عرف الناس الشعور والتفكير، ولن يزال كذلك خفيا في مكانه القديم ما دام الإنسان هو الإنسان، وكل ما صنعه فرويد أنه نبه الأذهان إلى وجوده، لا أنه أوجده من العدم في الزمن الحديث.
وبعد أن كان الرمزيون لا يتجاوزون في دعوتهم التذكير بوجود الأسرار والمعاني التي توحي إليها، أصبح أولئك الببغاوات ينكرون الحس الظاهر، وينكرون الحواس وعملها، ولا يدينون بشيء غير ما يسمونه رموز الوعي الباطن وأحاجيه.
فبطل الوضوح عندهم كأنه نقيصة، أو كأنه خروج على الحقيقة، وتقررت التعمية عندهم كأنها هي البيان دون كل بيان، وكأنما «الوعي الباطن» قد كشف في الزمن الأخير؛ ليلغي العيون والآذان، ويغرق الناس في ظلمات لا تدركهم فيها أنوار النهار.
صفحة غير معروفة