ومن ثم يصح أن يقال: إن مشكلة القافية في الشعر العربي قد حلت على الوجه الأمثل، ولم تبق لنا من حاجة إلى إطلاقها بعد هذا الإطلاق الذي جربناه وألفناه.
ففي وسع الشاعر اليوم أن ينظم الملحمة من مئات الأبيات فصولا فصولا ومقطوعات مقطوعات، وكلما انتهى من فصل دخل في بحر جديد يؤذن بتبديل الموضوع، وكلما انتهى من مقطوعة بدأ في قافية جديدة تريح الأذن من ملالة التكرار، ويمضي القارئ بين هذه الفصول والمقطوعات كأنه يمضي في قراءة ديوان كامل لا يريبه منه اختلاف الأوزان والقوافي، بل ينشط به إلى المتابعة والاطراد.
وإذا كان الأوروبيون يسيغون إرسال القافية على إطلاقها، فليس من اللازم اللازب أن نجاريهم نحن في توسيع ذلك على كره الطبائع والأسماع ، وبخاصة حين نستطيع الجمع بين طلبتنا من المتعة الموسيقية، وطلبة الموضوعات العصرية من التوسع والإفاضة في الحكاية والخطاب.
وآية ذلك أننا نقرأ الشعر المرسل في اللغة الأوروبية، ولا نفتقد القافية بين الشطرة والشطرة أقل افتقاد.
وقد خيل إلينا أننا ننساها ولا نفتقدها؛ لأننا غرباء عن اللغة وعن مزاج أهلها، فلما سألنا الأوروبيين في ذلك قالوا لنا: إنهم لا يفتقدونها، ويستغربون أن نلتفت إلى هذا السؤال؛ لأنهم هم لا يتلتفتون إليه.
وسواء رجعنا بتعليل ذلك إلى وحدة القصيدة عندنا وعندهم، أو إلى أصل الحداء في لغتنا، وأصل الغناء في لغتهم، أو إلى غلبة الحسية في فطرة الساميين وغلبة الخيالية والتصور في فطرة الغربيين، فالحقيقة الباقية هي أننا - نحن الشرقيين - نلتذ شعرهم المرسل ولا نفتقد القافية فيه، وأننا ننفر من إلغاء القافية عندنا ونداريه بالتوسط المقبول بين التقييد والإطلاق، وأنهم ليتقيدون في بعض أوزانهم الغنائية بقيود تثقل علينا نحن حتى في الموشحات، فليس من اللازم اللازب أن نتعمد مجاراتهم، أو يتعمدوا مجاراتنا في كل إطلاق وتقييد، ولهم دينهم ولنا دين!
الفصل الثالث عشر
بين التزمت والإباحة
في قواعد اللغة
عقب بعض الأدباء على كتابي - عبقرية الإمام - ومن ذلك قوله:
صفحة غير معروفة