وإن لم تكن كذلك جاءت بقطعة منه، وبلغت ما يتاح لها أن تبلغ في تلك القطعة المحدودة، ولكنك لا تبادل هذه الصورة بالصورة العالمية، وإن كانت تفوقها في التظليل والتلوين.
إن قطعة من مدينة القاهرة حسنة التصوير لتشترى وتقتنى ولا مراء، ولكنك إذا أردت صورة المدينة برمتها، فهذه الصورة الشاملة أولى بالشراء والاقتناء من كل قطعة محدودة، بالغة ما بلغت من إتقان التظليل والتلوين.
وأبو تمام يجيد في هذا المعنى ويجيد في ذاك، ولكنه لا يعرض لك العالم كله في حالة من حالاته، ولا يخرج لك نسخة عالمية تقرنها إلى النسخ الأخرى التي تستمدها من أمثال: ابن الرومي والمتنبي والمعري في الشعر العربي؛ وأمثال: شكسبير وجيتي وليو پاردي في الآداب الأوروبية.
ابن الرومي له عالم كامل من الحياة الفنية، والمتنبي له عالم كامل من الحياة العملية، والمعري له عالم كامل من الحياة الفكرية والروحية.
فالعالم بكل صورة فنية فيه ممثل في ملكة ابن الرومي، أو في تلك الزجاجة الحساسة الشاملة التي لا تدع شيئا مما يقابلها إلا وعته على الطريقة الفنية.
والعالم بكل صورة عملية فيه ممثل في ملكة المتنبي، كما تمثل عالم الفكر والروح جميعا في ملكة أبي العلاء.
حياة كاملة تعرضها من جانبها كل ملكة من هذه الملكات، فنقول: إن نسخة من صور العالم قد زادت في مجموعتنا الأدبية.
أما أبو تمام فلا يعطينا نسخة من صور العالم على نحو خاص به، أيا كان هذا النحو في قيمته ومرماه.
عنده صورة حسنة جدا لمسجد السلطان حسن، وصورة حسنة جدا لقنطرة قصر النيل، وصورة حسنة جدا للهرم؛ ولكن مدينة القاهرة كلها ليست هناك، سواء «حسنة جدا»، أو حسنة قليلا، أو غير حسنة على الإطلاق.
وهذا الذي نعنيه بالشاعر الذي له عالم؛ وهذا هو المقياس الإنساني الصحيح للشاعرية الممتازة في بابها؛ لأن الشاعرية ملكة إنسانية قبل كل شيء، وملكة لغوية أو بيانية بعد ذاك.
صفحة غير معروفة