وأبادر فأقول لصاحب الخطاب ومن على رأيه: إن الكتب الفلسفية التي أشرت إليها في مقالي السابق بالرسالة ليست من الكتب التي يختلف فيها قولان؛ لأنها تتناول المباحث التي يتفق على دراستها رجال الدين ورجال العلم، ولا يتحرج من قراءتها أصحاب رأي من الآراء.
ونحن مع هذا في زمان غير الزمان الذي كان يخشى فيه على الفلاسفة والمتفلسفين.
وبودي أن أقول بعد هذا وذاك: إن الفلسفة مظلومة في تلك الأزمنة التي كانت تتخذ فيها ذريعة للتنكيل بمن أصابهم التنكيل من جرائها، أو من جراء الانتساب إليها.
فقد ظلموها والله حين أصابوا باسمها من أصابوه، فإنما كانوا يحسدون الفيلسوف على مكانة مرعية، أو يبغضونه لعلة ظاهرة أو خفية، فيظلمونه ويظلمون الفلسفة معه، ويجهل الأمر من يجهله فيقول: إن هؤلاء الظالمين منصفون؛ لأنهم عاقبوا من يستحق العقاب ولم يأخذوه بغير جريرة، ولم يختلقوا عليه الذنوب!
ولو كانت الفلسفة هي العلة الصادقة لأصابت النكبات كل فيلسوف يبحث فيما وراء الطبيعة، ويتصدى للكلام في أصل الوجود أو أصول الموجودات.
ولكنهم لم ينكبوا من الفلاسفة في الواقع إلا من كان ذا منزلة محسودة، ومقام ملحوظ، وإلا من دخل معهم في مشكلات السياسة ومطامع الرئاسة، أو كانت لهم عنده ترة يتحملون الأسباب لمجازاته عليها، فيرجعون به إلى هذه الفلسفة المسكينة، وهي غنية بالعلل والأسباب!
وإلا فما بالهم لم ينكبوا الكندي والفارابي، ونكبوا ابن سينا الوزير وابن رشد قاضي القضاة؟
فالكندي كان رجلا ميسور الحال موفور المال، ولكنه اعتزل الناس ولم يشترك معهم في مطامع الرئاسة، فتركوه يتفلسف كما يشاء، وكان قصارى ما أصابه من ألسنتهم أنهم تندروا ببخله، وزيفوا الأحاديث عن عشقه وغرامه، وسلم له رأسه إلا مما سرى إليه - فيما قيل - من وجع في الركبة قد استعصى على العلاج.
والفارابي نظر إلى محيط السموات، وأعرض عن الأرض ومن عليها، وقال في رياضته الهندسية ورياضته النفسية:
وما نحن إلا خطوط وقعن
صفحة غير معروفة