176

ليس في تاريخ بني الإنسان عصر برز فيه من البطولة والمغامرة والدهاء والقدرة، والصبر على النصر والهزيمة مثل ما برز أمامنا في الحرب العظمى.

وليس في تاريخ بني الإنسان عصر تولى فيه عروش القياصرة والخواقين والأكاسرة وقبض فيه على أعنة السلطان رجال من «أبناء الشعب» كمصطفى كمال، ورضا بهلوي، وستالين، وموسوليني، وهتلر، وكابللرو، وكرديناس، وماذا عندنا من الأدلة على أن العصاميين في الزمن القديم كانوا أعجب وأدنى إلى البطولة في صنيعهم من هؤلاء؟

وليس في تاريخ بني الإنسان عصر واحد عرض لنا من نخوة الحب وفروسية العاطفة مثل ما عرضه لنا العصر الحاضر في غرام ملك الإنجليز السابق، وصديقته السيدة سمبسون، فماذا عندنا من الأدلة على أن غرام هيلانة في طروادة المزعوم كان أعجب وأدنى إلى البطولة من هذا الغرام؟ وليس في تاريخ بني الإنسان عصر واحد عرض لنا من أطوار الشعوب ما عرضته لنا الثورة الإسبانية، والثورة الروسية من قبلها، وعرضته معها الثورات في مصر والهند والصين، فماذا عندنا من الأدلة على أن عصر الثورة الفرنسية، أو عصور ثورات اليونان والرومان كان لها نصيب من العجب، وجلائل الخطوب أوفى من هذا النصيب الذي شهدناه؟

وليس في تاريخ بني الإنسان عصر أنجب في كل أمة نموذجا يمثلها، كما أنجب عصرنا سعد زغلول وغاندي وسون ياتسن وشيان كاي شيك وفيصلا وابن سعود.

وليس في تاريخ بني الإنسان عصر فيه ما في عصرنا من الحقائق التي تشبه الخيال والعبر التي تشبه نوادر الأمثال، والشواهد التي تتعدد على كل ملاحظة من ملاحظات النفس الإنسانية، والبواعث القومية، والطوارق السياسية ... فعندنا وعلى مسمع ومشهد منا مصداق كل رأي حام في ذهن فيلسوف، وتطبيق كل مذهب دعا إليه داعية قديم أو حديث في عالم النظريات، وليس في تاريخ بني الإنسان مخاطرات أهول ولا أنبل من مخاطرات ركاب الطيارات والمظلات والغواصات المتفجرة، والسفن المدمرة التي يقع فيها الخطر كل يوم ويقع فيها الإقدام كل يوم، ولا مبالاة بالموت ولا بالخطر كأنهما رياضة من اللهو، أو لعبة من ألعاب الرهان.

فإن كنا لا نسمي ما نبصره ونسمعه عجائب وروائع، ولا نحسبها معارض للبطولة والنبوغ، فقد غيرنا الأسماء وقد بدلنا اللغة، وقد أصبحنا مطبوعين على النظر إلى البعيد دون النظر إلى القريب.

نعم إننا ننظر حولنا إلى عظيم في الشعر من طراز شكسبير، فلا نرى له ندا بين الشعراء المعاصرين، ولكن النوابغ من طراز شكسبير تتساوى فيهم جميع العصور، ولا يستأثر بهم القرن الذي نبغوا فيه، وهكذا كان أبناء القرن السادس عشر خلقاء أن يبحثوا في زمانهم عمن يضارعون نوابغ القرن العشرين في العلم والاختراع والموسيقى والفن كافة، فلا يجدوا بينهم أندادا لهم يضارعونهم كثرة وقيمة ... وإن العصر الحديث مع هذا ليفهم قصائد شكسبير خيرا مما فهمها معاصروه، ويقدره خيرا مما قدروه، ويمثل رواياته أكثر وأجمل وأبرع وأكفل بالإقبال والإعجاب مما كانوا يمثلونها في حياته.

أذكر أنني رأيت منذ سنوات في إحدى الصحف الإنجليزية صورا لبعض العظماء الغابرين في أزياء العصر الحديث شفعتها الصحيفة بهذا السؤال: هل تعرفهم؟

وحق للصحيفة أن تسأل سؤالها الآن؛ لأن الصور التي رأيناها لأولئك العظماء قد سلبتهم كثيرا من الهيبة، وبدلت ما حولهم من هالات الفوارق والمسافات التي يوحيها اختلاف المظاهر والأزياء.

وإن حاجتنا اليوم لشديدة إلى متحف يستعرض لنا عظماء الأمس في أزياء اليوم، وعظماء اليوم في أزياء الأمس؛ لنعرف مقدار ما نضيفه إلى الغابرين من هيبة الفوارق والمسافات، ومقدار ما نسلبه المعاصرين من جراء الألفة والمقاربة.

صفحة غير معروفة