على أننا نذهب مع الكاتب المعروف إلى أقصى مداه، ونفرض أن وصفي الفضاء في إحدى الليالي المرهوبة بالجمجمة وعي باطن ليس فيه من الوعي الظاهر كثير ولا قليل.
نفرض أنني رجعت إلى «الوعي الباطن» في بيت أو بيتين، أو عشرة أبيات من عشرة آلاف بيت، فأين هذا من إلغاء الحس والعيان كل الإلغاء، وتطليق العيون والأسماع إلى آخر الزمان؟ إن تسلل الوعي الباطن مرة في كل ألف مرة لهو احتمال جائز موافق لطبيعة السوانح الباطنية، أما الوهم الذي لا يجوز ولا يوافق طبيعة من الطبائع، فهو أن نصبح كلنا وعيا باطنا، وأن تصبح الدنيا كلها موعية باطنة، لا تستخدم فيها عين ولا أذن كما يستخدمها خلق الله في المسكن والملبس والطعام والشراب والدرس والتخيل والتفكير.
هذا الذي ننكره وينكره كل ذي عينين وكل ذي وعي باطن مستقر في مكانه كما خلقه الله، أما المصورون الذين يقذفون بالألوان والرسوم إلى عرض الطريق ليحدثونا باسم «الوعي الباطن»، فأول ما ينبغي أن يسمعوه منا أنكم يا هؤلاء لستم بأصحاب الاختصاص في هذه الأسرار، فإذا فشلتم في حمل الريشة وخلط الألوان، فقد فشلتم في وظيفتكم المعترف بها، وادعيتم لأنفسكم وظيفة لا يعترف لكم بها إنسان، ولا حاجة بالناس إليها؛ لأنهم جميعا أصحاب «وعي باطن» مثلكم وزيادة ... فما حاجتهم إليكم وإلى غيركم من أدعياء هذه الكهانة المعروضة عليهم في ثوب التصوير؟ •••
ومن المساجلات التي نبهت إليها: كلمة لأديب قال فيها عني في صدد الكلام على أبي العلاء ورسالة الغفران: ... والعقاد يبدأ فيؤكد - فيما يعلم - أن فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليها أحد غير لوسيان في محاوراته في الأولمب والهاوية، وهذا قول عجيب يدخل في سلسلة تأكيدات الأستاذ العقاد التي لا حصر لها في كل ما كتب، والتي كثيرا ما تدهشنا لجرأتها؛ ففكرة الرحلة إلى العالم الآخر قديمة قدم الإنسانية، عرفها اليونان قبل لوسيان، وعرفها العرب قبل أبي العلاء.
لا يا شيخ!
العالم الآخر قديم قبل لوسيان، والجنة والنار قديمتان قبل أبي العلاء!
سبحان الله! كنا نظن غير هذا ... كنا نظن أن الجنة والنار خلقتا بعد المعري بثلاث، أربع سنوات! وأن لوسيان ظهر على الأرض فظهر معه الجحيم السفلي الذي تحدث به اليونان.
أما وصاحبنا المدهوش من جرأتنا يؤكد لنا أن الأمر على غير ذلك، فلنرجع إذن عن توكيداتنا الجريئة، ولنعلن التوبة بين يديه لنقول له: صحيح، صحيح والله ... الجنة والنار كانتا معروفتين قبل أبي العلاء، والعالم السفلي كان معروفا قبل لوسيان ... ولندن ... لندن نعم لأجل خاطرك كانت موجودة قبل رحلات المسافرين إليها، وكذلك والله باريس، وكذلك والله القاهرة، وكذلك والله الهند والصين وبلاد تركب الأفيال، أو بلاد تمشي على الأرض ولا تركب حتى النعال.
أفادك الله يا مولانا الذي يتربع على الكرسي العريض؛ لينكر على المساكين من أمثالنا توكيداتهم الجريئة، ويعلمهم كيف تكون التوكيدات من آخر طراز.
وأي توكيدات؟!
صفحة غير معروفة