وكان البروتستان والأرثوذكس يتمتعون بحريتهم الدينية تماما، ولكنهم محرومون من حق الاستخدام في الوظائف، ولم يصب اليهود بأذى ولعل سيطرة الدولة على جماعة الإكليروس جعل لمبارديه أكثر تثقيفا وحرية من سائر إيطالية، ومع أن اليسوعيين استطاعوا العودة إلى فنيسيه سنة 1843 فإنهم لم يستطيعوا أن يدخلوا ميلانو مطلقا.
وكان التعليم في لمبارديه أعم وأرقى منه في جميع بلدان إيطالية ما عدا بارمه ولوكا، وقد كان التعليم الابتدائي إلزاميا على الذكور والإناث من السادسة إلى الثانية عشرة، وكل وحدة إدارية مهما كانت صغيرة ملزمة بأن تفتح مدرسة فيها، ولكل مدينة مهمة مدرستها الابتدائية يدرس فيها النحو واللاتين وقليل من العلوم الطبيعية ومدرسة «جمنازيوم» (على أن تتم هذه الدراسة في إحدى المدارس الثانوية البالغ عددها الاثنتي عشرة مدرسة)، وكان في كل من «بادويه وبافيه» جامعة تضم ألفا وخمسمائة تلميذ وهاتان الجامعتان تبثان المبادئ الحرة في نفوس الطلبة، مما دعا إلى نقمة الشرطة وإرهابها.
ولعل رقابة المطبوعات فيها كانت أقل وطأة مما هي عليه في جميع إيطالية، ومع أن قانون سنة 1815 قد منح حق النقد السياسي فإنه حظر على أية جريدة سياسية أن تصدر قبل موافقة الرقيب العام في فينا، أضف إلى هذا أن جميع الكتب الأجنبية كانت خاضعة لرقابته حتى الروايات التي ليس لها قيمة علمية، والمطبوعات التي تهاجم أسلوب الكتابة ونقاوة اللغة ممنوعة.
وكان من جملة الكتب الممنوعة مؤلفات «بلزاك وبنتهام وفيكتور هوجو ومكيافيلي وهلام ورابله» ومع هذا فقد أحسن الرقيب عملا بمنع كل تأليف ينافي الأخلاق، أما المؤلفات العلمية غير السياسية وكذلك كتب اللاهوت فكانت تتمتع أحيانا بكامل الحرية، وكان مجال حرية الفكر في ميلانو أوسع منه في نواحي إيطالية جميعها، وكانت أكثر الصحف والمجلات الإيطالية تمتعا بالحرية هي صحف إيالتي لمبارديه وفنيسيه، ومجلاتهما.
ولعل لمبارديه كانت القطر الوحيد في إيطالية الذي يسير الحكم المحلي فيه على نهج واحد، وكانت طبقة الملاكين تتمتع بحق إبداء الرأي، ثم إن تقسيم الأرض على الناس جعلهم ذوي إيراد خاص يكاد يخول كل أسرة حق التصويت في الوحدات الإدارية الصغيرة، وكان الناخبون يجتمعون مرتين في السنة للبت في الأمور المهمة. وكانوا ينتخبون من بينهم لجنة تنفيذية مؤلفة من ثلاثة أعضاء؛ تنظر في الشئون الاعتيادية للوحدة الإدارية، وفي الوحدات الإدارية الكبيرة كان المنتخبون لا يجتمعون ولكن ثمت مجلسا مؤلفا من ثلاثين عضوا إلى ستين عضوا يتولى إدارة الشئون، وكانت السلطة التنفيذية في المدن الكبيرة مودعة إلى «البديستا» أي المدير أو رئيس البلدية.
أما القرارات الجديدة فمن حق المجلس، وكانت الوحدات الإدارية تتولى شئون المدارس والشرطة المحلية وطرق القرى والرهبان في بعض الأحوال، وتشرف على أمور الصحة والشرطة والأمور الخيرية كما أنها كانت تستطيع القيام بأمور نافعة بموافقة السلطة المركزية، إلا أنه كلما تقرب الحكم الذاتي من التمثيل القومي كانت مخاوف الأوتوقراطية تضعفه.
وكان لكل من المديريات السبع عشرة مركز لمجلس المديرية المؤلف من الأشراف والملاكين، أما المدن الملكية البالغ عددها تسع عشرة فكان لها ممثلوها الخاصون، وكانت سلطة هذه المجالس محدودة، فهي التي تدير الشئون المالية في المديرية وتسيطر على مالية الوحدات الإدارية «الناحيات» ولها بعض الإشراف على الطرق والأنهار والمشاريع الخيرية، ومع كل ذلك فالمجلسان المركزيان في لمبارديه وفنيسيه لم يحققا الآمال المعلقة عليهما بالنسبة إلى ممارسة السلطة السياسية الفعالة، وكان الإمبراطور فرنسوا يقول: «إن الحكم الدستوري يقضي على الثقة التي تجب أن تسود بين الشعب والأمير.»
وكان القانون في الأمور السياسية جائرا، ويلجأ إلى تعذيب المتهم وجلده وحرمانه من الطعام وغير ذلك من الأساليب، ويحضر المتهم أمام المحكمة من دون أن يتاح له استدعاء محام ومن غير أن يعلم التهم الموجهة إليه، وكانت المذكرات تظل سرية، وهكذا يرى المتهم نفسه أمام حكام نمسويين وتيروليين، ومجرد التذمر السياسي يعتبر جرما يقود صاحبه إلى الاعتقال في قلعة «سبيلبرج» وفي حالة ارتكاب جماعة من الناس جريمة ضد أشخاص آخرين فإن السلطة تسوغ لنفسها إهمال جميع الأصول الحقوقية والحكم من دون محاكمة، وأما التجسس والمراقبة السرية فكانتا على أشدها.
وكانت المراسلات مع الخارج تفتح، وكانت ملفات الشرطة حافلة بالتقارير عن مؤامرة مرتبة من قبل بونابرت «أي نابوليون المعتقل» أو دسائس حيكت من قبل الإنجليز أو الروس، وحظرت على المواطن السياحة في الخارج من دون الحصول على موافقة السلطات، وقد يحول بعض التدخلات السرية دون استخدام المواطن في وظائف الدولة، وقد طرد أحد الأساتذة؛ لأنه ردد هتاف البابا جوليوس: «فليذهب الأجنبي»، ويكفي للدلالة على حق حرية الاجتماعات أن حفلة رقص خصوصية لم يكن جائزا أن يدعى إليها من دون موافقة الشرطة.
ومع أن ميلانو فقدت مقامها فقد ظلت المدينة الصاخبة اللامعة المرتابة الخليعة، وكذلك فنيسيه؛ فقد أضاعت منزلتها إلا في فترات تجلى فيها الشعور السامي، وكانت الطبقة الأرستوقراطية فيها تتملق النمسة وضاعة، أما الطبقة المتوسطة فلم تكن ذات إرادة ونفوذ.
صفحة غير معروفة