الوحدة الإيطالية

طه الهاشمي ت. 1380 هجري
180

الوحدة الإيطالية

تصانيف

بيد أن كل هذه التدابير فشلت الواحدة بعد الأخرى وكان من نصيب لانزة أن يستصدر من البرلمان حكما أثناء التشريعات المستعجلة التي سبقت نقل العاصمة سنة 1865، وكان قانون لانزة كلائحة ريكاسولي يخول وظائف واسعة ذوي استقلال محدود، فقد منح الإيالات سلطة إشراف على طرق المواصلات في الإيالات والجسور والسدود والمنارات والتعليم الثانوي والفني ودور المجانين مع بعض واجبات قليلة الأهمية نحو المدارس الابتدائية والصحة العامة، وقد فرضت على الناحيات لقاء الصلاحيات التي منحتها إياها أن تشرف على شئون الموانئ الصغيرة والمنارات وتسجيل الولادات والوفيات والشرطة المحلية، وكانت مهمة الوالي في إيطالية مراقبة المجالس المحلية أكثر من قيامه بواجبات الحكومة المركزية.

ومع أن قانون لانزة كان خيرا من لائحة رتازي؛ فإنه ترك كثيرا من الأمور مرتبكة، وقد حنقت البلاد التي تأصلت فيها تقاليد بها المدنية على القيود التي قيدت حرية البلديات، ويجدر بنا أن نقول إن أهم المعطلات الداخلية في السنوات العشر تناول المشكلة المالية والإدارة والحكومة المحلية وعلاقات الكنيسة بالدولة.

وكان الاستياء شديدا؛ حيث تكون الفاقة فيها على أشدها وكانت ست سنوات لا تكفي للقيام بأعمال جسام لتطهير الجنوب وحل مشاكله وبعثه من جديد، وقد ساعدت حكومة لامامورا الحازمة في نابولي في قمع الفتن وسحق جمعية الكامورا، ولم تتنفس نابولي الصعداء إلا بالقبض على رجال الكامورا في إيلول سنة 1862، وكانت أعراض الفوضى الاجتماعية والسياسية في بعض أنحاء صقلية كثيرة الخطورة، وإذا كان الناس هناك قد كفوا عن الكلام في الانفصال ما عدا البوربونيين فإن رغبتهم في الحصول على الحكم الذاتي تحت أي شكل من الأشكال كانت لا تزال شديدة، وقد حال تبديل الولاة المستمر دون تأسيس إدارة قوية مستقرة لا يتم أي شيء من دونها، فكانت صقلية إذن في حاجة ماسة إلى حكومة حازمة تستطيع أن تسحق الشغب الإكليريكي، وتقضي على الفوضى التي سببتها الطبقة الوسطى والقرويون وتمهد السبيل وتعد العدة لجيل يكون أكثر مدنية وحبا للنظام من سابقه.

وقد جاء في إحصاء أحد المسئولين أن ألفا وخمسمائة حادثة قتل قد وقعت في المدينة خلال عشر سنوات، أما في باليرمو فقد ظلت جمعية مافيا تتحين الفرصة التي أضاعتها سنة 1860 لنهب قصور العاصمة، وكان التجنيد عاملا جديدا في تعميم الاستياء، وكان الإعفاء من الخدمة العسكرية في صقلية قد زال، وبلغت شدة المعارضة للتجنيد حدا نال فيه الجنود جزاءهم في بعض الحالات النادرة جدا، وكان في باليرمو وحدها نحو أربعة آلاف متخلف أو هارب من الجندية في السنوات الثلاث التي تلت الوحدة، وقد قتل ستون جنديا من الكارابيزي حين تفتيشهم على الفارين من الجندية بطلقات نارية كانت تصوب إليهم من وراء السياجات والجدران، ولم تلق الحكومة أية معونة من أي حزب من الأحزاب الصقلية، فالأحرار كانوا يخافون من الاندفاع وأما أنصار الحكم الذاتي والغاريبالديون فقد ظلوا خلال ست سنوات يهاجمون الحكومة هجوما عنيفا لا هوادة فيه، وأخذ الشعب الذي لقن كره الحكومة الجديدة يميل إلى أنصار الحكومة السابقة، حتى إن خيرة الغاريبالديين بدءوا يندمون بعد فوات الفرصة على سلوكهم السابق وما ولده من ضرر للمصلحة القومية، وأصبح الاستياء الذي أوجدوه أداة بيد الرهبان والبورنتيين الذين كانوا يتلقون الوحي من روما، ولعلهم كانوا يترقبون المعونة للقيام في الجنوب بعصيان يئول إلى ثورة عامة في صقلية، وقد أعد الإكليريكيون ثورة إجرام والفقر فيها، وظلت الحكومة عمياء عاجزة وساعد فقدانها هيبتها في الحرب على الاستهانة بها، فهاجمت العصابات الثائرة في 16 أيلول باليرمو واستولت عليها وحاولت فتح أبواب السجون، ولما فشلت في ذلك نهبت القصر ومثلت بالجنود وبالمباني الحكومية أربعة أيام حتى جاءت النجدة من الخارج واستطاعت طرد الثوار.

وقد أظهر هذا العصيان خطورة الموقف مرة أخرى، وأيقن ريكاسولي أن أخطر مهمة يجب أن يضطلع بها القضاء على هذا الفساد الذي أهلك البلاد، وتطهير الإدارة وتقويتها وإنماء الصناعة والتعليم وإعادة التوازن للمالية من دون ضرائب جديدة، ومما يؤثر عنه قوله: «أجدر بمال الدولة أن ينفق على الأشغال العامة بدلا من إنفاقه في قمع الثورات وإقامة السجون.»

ولقد شغلت قضية روما باله في الماضي والحاضر، وحين ألغى البرلمان الأديرة في الصيف انتقلت أراضي تلك الأديرة وأملاك الكنيسة كلها إلى الدولة فأقدمت على بيعها مما سبب نقمة روما، وأضاف جفاء إلى جفائها الأول، ولا سيما لأن قانون المشبوهين قد نال من الإكليريكية اللاقومية وأصابها منه اضطهاد عظيم، ولكن لم تخل روما من فئة صغيرة من الأساقفة كانت تريد التفاهم وتوافق على مشروع الكنيسة الحرة الذي وضعه ريكاسولي كما وافقت على مشروع كافور سنة 1861.

وكان بعض الأساقفة قد مل من المنفى، وتاقت نفسه للرجوع إلى أسقفيته، وأدرك أنتونللي أن روما لا تستطيع أن تصر على رفض التفاهم وقد حمله جلاء الإفرنسيين المزمع على تغيير موقفه والكف عن عناده، أما فريق بلاط روما فقد ظل عنيدا كالسابق غليظ القلب تجاه إيطالية، وتردد البابا بين هذين الفريقين إلا أنه كان أكثر ميلا للثاني.

وكان ريكاسولي قد اغتم للهوة التي أخذت تتوسع بين إيطالية والبابوية، ومع أنه حزن كثيرا للروح المسيطرة على روما؛ فكان يدرك بأن الفريق الثاني قد سلك مسلكا غير سمح، وأنه من المستطاع تجنب مشكلة الأسقفيات الشاغرة، وأن قلب مباني الأديرة والأسقفيات إلى الأملاك العامة كان قد جرى بشدة لا داعي لها، وكانت لهفته للحصول على روما قد أخذت تهمد منذ أخذت القضية تتأخر كثيرا، وتتلخص الفكرة التي اختمرت في رأسه بما يلي: يجب أن ينتهي التدخل الأجنبي، ويجب أن تكف روما عن أن تظل عشا للدسائس ضد المملكة وأن تعرف أوروبا أن روما جزء من الأرض الإيطالية، وليست إقطاعا للعالم الكاثوليكي، وإذا ما تم الاتفاق على ذلك فسيوافق على تفاهم يقوم على الأسس الآتية: إما أن تنفذ المقترحات التي عرضت في فرص عديدة منذ سنة 1860 وتقضي بأن يحتفظ البابا بمدينة ليونين «قسم روما الذي يحتوي كنيسة القديس بطرس والفاتيكان» مع ثقة من أرض الساحل، وإما أن تصبح روما عاصمة الشرف الإيطالية؛ أي المحل الذي يتوج فيه ملوك إيطالية من قبل البابا بينما تظل فلورنسة قاعدة الحكومة.

وكان مستعدا لأن يتخلى عن هذا وعن جميع مطامحه السياسية لو تسنى له الحصول على رضاء روما، وكان الوقت حرجا فالإفرنسيون على أهبة ترك روما والميثاق يتطلب منهم الجلاء قبل 11 كانون الأول، وستبحر - بعد انقضاء ثلاثة أيام من ذلك التاريخ - آخر قطعة من قطعاتهم من جيفيتا فيكيا، وكانت أوروبا بأجمعها تنتظر بفارغ الصبر ماذا سيعمله الرومانيون، وأخذ بعض المعتدلين ينظم حركة مشروعة ترمي إلى حمل البابا على استدعاء الحكومة الإيطالية لتكون حكما بينه وبين رعيته، أما ريكاسولي فيظهر أنه كان يخشى نشوب اضطراب شديد في تلك الساعة في مصلحة السلم، ففرض مشروع الكنيسة الحرة واقترح فيه تخليص الكنيسة الكاثوليكية من إشراف الحكومة الذي يوجبه الاتفاق، أي أن الحكومة تتخلى عن حقها في تعيين الأساقفة والكف عن إعطاء البراءة الملكية وتخسر الكنيسة لقاء ذلك الإعانة التي كانت تدفعها الخزينة العامة لها، وبذلك تصبح الكنيسة من الوجهة القانونية عبارة عن منظمة عادية، حرة في إدارة أملاكها وفي نظامها وانضباطها الداخلي، وتدار بموجب قوانينها الدينية، وينص القسم الثاني من المشروع على بيع الأراضي الخاصة بالأديرة الملغاة ويضيف إليها جميع أراضي الكنيسة مهما كان نوعها.

لقد قوبل هذا المشروع بضجة من الاستنكار شديدة فرفضه الأساقفة ولم تستطع كل المزايا التي وعدهم المشروع أن تقنعهم بالتخلي عن النفوذ الذي سوف يحرمهم إياه، أما الأحرار والدموقراطيون فعارضوه معارضة شديدة وأدت عودة الأساقفة إلى مظاهرات صاخبة ضد المكروهين منهم.

صفحة غير معروفة