وقد تم هذا العمل الجبار في ثمانية عشر شهرا، وكانت الأخطار التي حدثت في سنة 1848 قد زالت، ثم انتظر الناس عشر سنوات أخرى،
أنفسهم وعلموا كيف يسيرون إيطالية كلها، وقد حدث في ساعة ما توتر خطير بيد أن العقل ووطنية جميع الأحزاب صانت غاية الكفاح من المشاحنات الحزبية، وكانت أهم معضلة جابهها زعماء الأمة ورجال الحكومة تدعيم كيان هذه الأمة الفتية، وكانت أعظم مصاعب هذه المعضلة قضية الجنوب وانسجامه انسجاما كليا مع الشمال، ومما قاله كافور إن إيجاد الانسجام بين الشمال والجنوب أشق من مقاتلة النمسة أو غزو روما.
وكانت طريقة الرئاسة على الرغم من أنها ملغاة نظريا منذ مدة طويلة لا تزال مرعية فعلا، فالقروي كان لا يزال يشتغل بالسخرة ويبيع ما ينتجه لسيده الشريف، وكان هذا الشريف مولاه ودائنه معا، يستغله مثلما يريد، فضلا عن أنه كان يقبض على زمام الحكومة المحلية ويستخدمها في مصلحته الخاصة، أما الفتن فكانت من العلل المزمنة في الجنوب ففقراء الإيالات الذين لا يملكون أرضا ولا يجدون عملا يتركون مساكنهم بالمئات ويؤلفون العصابات ليكسبوا رزقهم بالنهب والسلب.
وكان شعار كافور في سياسة الجنوب: «التوحيد للإصلاح والإصلاح لتوطيد الأمور»، ولعل الفساد العام الذي ظهر في الإدارة بعد سقوط آل بوربون أشد خطرا من انحطاط الأخلاق.
وكان مما أجج حماسة بعض الأهلين للثورة أملهم في الحصول على الوظائف بعد فوزها، فأخذ الجمهور يملأ الساحات والدهاليز في كل وزارة، وكانت جمعية الكامورا الخفية تمتد إلى كل ناحية، وأخذت جماعات الأفاقين تنساب نحو نابولي وتدعي بأنها من المتطوعين.
وأخذ الغاريبالديون الغير الصادقين الذين لم يشموا رائحة البارود يطالبون بنصيبهم من الربح، ويقبضون الفدية من أنصار آل بوربون ويتآمرون لقلب كل وزارة، وعمت الفوضى في الإيالات، وكان فساد حكومة آل بوربون قد قضى على ثقة الناس منذ مدة طويلة.
وقد شجعت مقاومة فرنسوا في قلعة جايتة أنصار آل بوربون وأخذوا يرفعون رأسهم، وكان معظم كبار الملاكين في إيالات البروزه ولاباسليكانه وكلبريه من أنصار الأسرة الساقطة، أضف إلى هذا أن الإكليروس في المدن والأرياف؛ كانوا في جانب الملاكين المذكورين وأعداء للأحرار .
ومع أن الشقاوة كانت وليدة أسباب اجتماعية إلا أنها أصبحت أداة سياسية بيد العملاء المرسلين من جايته وروما لتحريض العصابات على النهب والقتل في سبيل العرش والكنيسة، فقد كان في نابولي أناس من طراز الذين رأيناهم في باليرمو، ومع أن الفساد لم يعم صقلية كما عم في شبه الجزيرة؛ فكان هؤلاء يتآمرون على الوحدة ويقفون في وجه الانسجام.
وفي طليعة هؤلاء الموظفون الذين فقدوا وظائفهم وصنائع كريسبي ومورديني الذين أصبحوا يخشون أن يفقدوها والمتطوعون الذين تركهم غاريبالدي في الجزيرة واللصوص والسفاكون الذين قاتلوا في الثورة ولكنهم حرموا من الغنمية، أفلا يجدر في بلد انتشر فيه الفساد إلى هذا الحد أن يتولى شئونه دكتاتور إلى حين؟ لقد كانت أمنية غاريبالدي وجود الدكتاتورية مع أنه كان السبب الأول لهذه الفوضى، ومهما يكن الأمر فينبغي الوصول إلى طريقة تساعد الحاكم على توطيد الأمور من دون أن يخشى تدخل الحكومة المركزية أو مجلس الأمة.
وأوصى فاريني بإرسال ريكاسولي مؤقتا إلى صقلية مزودا بسلطات واسعة، ومع أن ريكاسولي رفض هذا التكليف فقد أوصى بإقامة دكتاتورية عسكرية، غير أن كافور كان لا يريد أن يصغى إلى هذه الوصايا؛ لأنه كان يخشى أن تمس سمعة البلاد في نظر إنجلترة وأوروبا ويقول: «النضال من مقتضيات الحكومة الدستورية.»
صفحة غير معروفة