ثانيا: الثقافة القومية:
إننا إنما نعيش اليوم في عصر القومية، ولم نصل بعد إلى عصر «الإنسانية». إن الحضارة الأوروبية تستهدي في كل أعمالها وحركاتها بوحي القومية وحدها. إذن يجب علينا أن نسير على نهجها ونعمل عملها. لم تعترف أمة بحق أمة أخرى بعد، ولم تشفق أمة على غيرها، ولم يهب شعب لنجدة آخر، وما الحروب الطاحنة التي قامت في أوروبا إلا دليل حي على صحة ما نذهب إليه. ولقد حاول البعض أن يفسر موقف أوروبا العدائي إزاءنا بأنه راجع إلى بواعث دينية، وهذا ليس بصحيح؛ فإن الحضارة الأوروبية ليست بشعوبية مسيحية، ولا هي بجمعية نصرانية؛ فإن مثل هذه الأساليب التفكيرية قد زالت وانمحت من الذهنية الأوروبية. وليس أسخف من الحركات التي تقوم مناقضة لهذا المبدأ في تاريخ الدنيا الحديثة . وما جمعية الأمم إلا مثال محزن يؤيد صحة مذهبنا؛ فإن العقلية الإنسانية لم تقم بعد في ضمائر الشعوب؛ ولهذا يتعذر علينا أن نعمل مؤتمين بموحيات المنطق الإنساني، وليس لدينا إلا القومية والمنطق القومي وحدهما ... وهذا هو نتيجة التناحر على الحياة، وما التناحر إلا أساس الحياة في كل مكان. هذا مبدأ ثابت لا مبدل له (ص155).
ثالثا: الاقتصاد القومي : (ص160-171) إن الاعتراف بحقوق الإنسان قد مهد السبيل للحضارة الحديثة؛ فإن الثقافة القومية قد خلقت في الناس طابعا خاصا. أما الاقتصاد القومي فقد حفظ ذلك الطابع وزوده بالقوة التي بها يستطيع أن يشغل في نظام هذه الدنيا أعلى مكانة. إذن فسنادة الحضارة الحديثة في الواقع هو الاقتصاد القومي. وكل الدنيا إنما تعمل اليوم على هذا المبدأ. وهذا نظام لم تتمتع به كل الأمم على السواء، إنه نظام يكاد يكون خاصا بأسرة الأمم الأوروبية، وهو في الواقع نتائج للعقلية الأوروبية (ص161). «إن هذا المبدأ من أقوى المبادئ التي قامت عليها الحضارة الحديثة، وهو مبدأ على أية حال مخالف تمام المخالفة للمبادئ التي قامت عليها حياة الشعوب القديمة. أما إذا كانت الشيوعية قد قامت خلال الزمان الذي ظهر فيه المسيح مثلا لكفت حاجات الناس لعهده، ولكنها كانت تحفظ على الجماعات طابعها الفطري الأول على الدوام؛ فإن المسيحية قد اتبعت مبدأ الإنتاج على قدر الكفاية والكفاف، أما مبادئ الاقتصاد الحديث فمناقضة لهذا المبدأ تماما، إنها لا تقوم على قاعدة الإنتاج على قدر الحاجة، بل على مبدأ الاستهلاك بقدر الإنتاج. والفرق بين المبدأين شاسع بعيد، إنها تزيد الإنتاج وفي الوقت ذاته تنوع فيه» (ص167).
هذا هو نظام الحضارة الأوروبية، وليس من شأننا أن نبحث فيما إذا كانت حضارة بحق أم إنها بربرية ووحشية، كلا. يكفينا أن الحياة الإنسانية تقوم على هذا الوجه في العصر الحاضر. والواجب على تركيا أن تندمج في هذه الأسرة المتحضرة وأن تقيم حقوقها وثقافتها واقتصادها على أسس أوروبية. إن الحياة منطق صرف، وجهد متواصل، ولكنها بينة الطرق، ممهودة السبيل.»
مثال المدرسة الثانية : الأستاذ جلال نوري بك «لقد عملت العثمانية» على أن تعطي العقلية الآسيوية صفة الاستمرار في العقل الأوروبي. وكانت هذه المحاولة في حكم المستحيلات بمقتضى الوسط والبيئة. ولقد كانت بنا حاجة ماسة لأن ننتحل العقلية والأساليب الأوروبية، ولكن حال دون ذلك التواء الأمر في الإدارة الحكومية، وهي الأساس الذي كانت تقوم عليه الدولة، حتى لقد وقفت هذه الحالات حجر عثرة في سبيل أن «نستغرب»
1
وعاقت خطا التقدم طويلا؛ ذلك لأن النظام الذي كان قائما قد عجزت معه الأمة عن هضم المبادئ الغربية وتمثيلها
2
وإدماجها في النظام الاجتماعي (ص10-18). «إن الأمة التركية ذات كفايات عظيمة، وعلى الأخص كفاية الإدارة والنظام والقدرة على امتصاص الشعوب الأخرى،
3
صفحة غير معروفة