ومع أن البروفيسور كان متحيرا بعض الشيء من الوضع العام المحيط به، إلا أنه ظل كامنا في طبيعته إصرار عنيد كان قد نفعه للغاية من قبل، وكان يمكنه في نهاية المطاف من التفوق على رجال أذكى بكثير. لم يكن راضيا إطلاقا عن حواره المقتضب مع الموظف. فقرر أن يبادر بالتحدث إلى ذلك الشخص المشغول مجددا، إن استطاع أن يجتذب انتباهه. ومر بعض الوقت قبل أن يلفت انتباه الموظف المتكلم، ولكن حين استطاع ذلك، قال: «كنت على وشك أن أقول لك إنني أنتظر صديقا من نيويورك ربما لم يصل بعد. اسمه السيد ريتشارد ييتس من ...» «أوه، ديك ييتس! بالطبع. إنه هنا.» ثم التفت إلى الزنجي قائلا: «انزل إلى صالة البلياردو وانظر ما إذا كان السيد ييتس هناك. وإذا لم يكن كذلك، فابحث عنه في الحانة.»
كان واضحا أن الموظف يعرف السيد ديك ييتس. قال دون أن يلاحظ نظرة الدهشة التي اعتلت وجه البروفيسور: «إذا انتظرت في قاعة القراءة، فسأرسل ييتس إليك حين يأتي. سيعثر الصبي عليه إذا كان في الفندق، لكنه ربما يكون في الجزء الشمالي من المدينة.»
لم يشأ البروفيسور أن يزعج الموظف الخدوم أكثر من ذلك، فلم يسأله عن مكان قاعة القراءة. وسأل بدلا منه حمالا متعجلا، وتلقى إجابة مقتضبة لكنها وافية: «قاعة الطعام في الطابق التالي. قاعات القراءة والتدخين والكتابة عند البهو. وصالة البلياردو والحانة والمراحيض في الطابق السفلي.»
بعدما دخل البروفيسور صالون الحلاقة ومتجر بيع السيجار، وصل أخيرا إلى قاعة القراءة. كان العديد من الصحف اليومية متناثرا عبر أرجاء الطاولة، وكانت كل منها مثبتة على حامل طويل مشقوق بدائي الشكل من الخشب، فيما كانت توجد مجلات أخرى، مثبتة أيضا، متدلية من أرفف مستندة إلى الحائط. جلس البروفيسور على أحد الكراسي الوثيرة المكسوة بالجلد، لكنه لم يأخذ صحيفة، بل أخرج كتابا رفيعا من جيبه، وسرعان ما انهمك فيه بشدة حتى صار لا يشعر تماما بمحيطه الغريب. ثم وقعت لمسة خفيفة على كتفه أعادته من كتابه إلى العالم مرة أخرى، رأى وجها صارما لشخص غريب ذي شارب كثيف يحدق فيه من الأعلى.
قال الرجل الغريب: «معذرة يا سيدي، ولكن هل لي أن أسألك إن كنت أحد نزلاء هذا الفندق؟»
خيم طيف طفيف من القلق على وجه البروفيسور وهو يدس الكتاب في جيبه. فقد خالجه شعور غامض حالما دخل الفندق في البداية بأنه يتعدى على ممتلكات الغير، وها قد تأكدت شكوكه في هذه اللحظة.
قال متلعثما: «أنا ... أنا لست نزيلا بالضبط.»
تابع الآخر رامقا البروفيسور بنظرة باردة مدققة: «ماذا تقصد بأنك لست نزيلا بالضبط؟ فأنا أفهم أن الرجل إما أن يكون نزيلا أو لا. فأيهما أنت؟» «أظن، وفق المعنى الحرفي للكلمة، أنني لست نزيلا.» «وفق المعنى الحرفي للكلمة! مزيد من المراوغات. دعني أسألك يا سيدي، بصفتك رجلا شريفا حسبما يبدو عليك، هل تتخيل أن كل هذه الرفاهية، وهذه ... هذه الأناقة، تصان مجانا؟ هل تظن يا سيدي أنها متاحة لأي رجل ذي قدر كاف من الوقاحة ليدخل إلى هنا من الشارع ويستمتع بها؟ هل تحفظ وتصان من أجل أناس ليسوا نزلاء، بالمعنى الحرفي للكلمة؟»
تفاقمت أمارات الشعور بالذنب على وجه البروفيسور التعيس الحظ. لم يكن لديه ما يقوله. فقد أدرك أن سلوكه كان شديد الفجاجة إلى حد لا يسمح له بالدفاع عنه؛ لذا لم يحاول فعل ذلك. وفجأة، استنار محيا مستجوبه بابتسامة، وضرب البروفيسور على كتفه. «عجبا، أيها الرجعي الذي عفا عليه الزمن، لم تتغير قيد أنملة طوال خمسة عشر عاما! أنت لا تقصد التظاهر بأنك لا تعرفني، ألست كذلك؟» «لا يمكن ... لا يمكن أن تكون ريتشارد ييتس؟» «يمكن، بل لا يمكن أن أكون أحدا سواه. أعرف ذلك لأنني حاولت مرارا. عجبا، عجبا! لقد اعتدنا أن ندعوك ستيلي، ألا تتذكر ؟ لن أنسى أبدا تلك المرة التي غنينا فيها «أوفت إن ذا ستيلي نايت»، أمام نافذتك حين كنت تذاكر للامتحانات. دائما ما كنت رجلا هادئا يا ستيلي. كنت في انتظارك النهار كله تقريبا! كنت بالأعلى لتوي مع مجموعة من الأصدقاء حين أحضر الصبي بطاقتك إلي، كان تجمعا خيريا صغيرا، أشبه بترتيب لتحقيق منفعة متبادلة، كما تعلم؛ إذ أسهم كل منا بما استطاع ادخاره في صندوق للأموال العامة ذهب ما به إلى شخص يستحقه من عموم الناس.»
قال البروفيسور بنبرة جافة: «نعم. سمعت الموظف يخبر الصبي بأرجح مكان قد يجدك فيه.»
صفحة غير معروفة