بدأ قائد الإنشاد تلاوة الترنيمة بصوت خفيض أكثر من اللازم. بدأ اللحن عاليا، وانخفض إلى أدنى السلم الموسيقي مع وصول الترنيمة إلى السطر الأول. وحين وصل المرنمون في خفض نبرتهم إلى ثلثي السلم الموسيقي، وجدوا أنهم لا يستطيعون خفضها عن ذلك، ولا حتى أولئك الذين كانوا يرنمون بطبقة القرار الصوتية. فشعر القائد ببعض الارتباك واضطر إلى رفع درجة النغم، ورأى أولئك المستهترون الجالسون في مؤخرة القاعة سوء تقديره مضحكا للغاية. فتح الباب بهدوء، والتفتوا جميعا متوقعين رؤية ماكدونالد، لكن الوافد لم يكن سوى ساندي. كان قد غسل وجهه، دون تأثير ملحوظ، وأظهر انتفاخ خده، الذي كان كالدمل، أنه لم يلق التبغ من فمه قبل دخوله مبنى المدرسة. مشى على أطراف أصابعه إلى مكان بجوار أصدقائه.
همس إلى أقرب شاب جالس بجواره قائلا وهو يضع يده بجوار فمه كي لا يسمع الآخرين صوته: «العجوز في الخارج.» وحين التقت عيناه بعيني ييتس للحظة، غمز له غمزة ودية .
ازدادت الترنيمة جهارة وحيوية مع استمرارها، وتعافت تدريجيا من سوء التقدير البسيط الذي وقع في بدايتها. وحين انتهت، جلس الواعظ المحلي بجوار المجدد. كانت مهمته قد انتهت؛ لعدم وجود تعريف رسمي بالمتحدث يلقيه إلى الحاضرين. وبقي الآخر كما هو حاني الرأس لوقت بدا طويلا جدا.
خيم صمت مطبق على كل الحاضرين. حتى الهمسات بين المتهكمين توقفت.
وأخيرا، رفع السيد بندرسون رأسه ببطء، وقام ثم تقدم إلى مقدمة المنصة. كان له وجه قوي مهيمن حليق ذو فك مشدود يوحي بأنه رجل عنيد؛ رجل لا يهزم بسهولة. قال بصوت هادئ: «افتحوا الباب.»
كان قد وجد هذه بداية فعالة في الجلسات القليلة الماضية التي عقدها. وكانت جديدة على الجمع الحاضر أمامه حاليا. فعادة ما كانت مجموعة من الأشخاص تقف بالخارج، وحين كان يجدهم هناك، كان يدعوهم، عبر فتح الباب، إلى الدخول. وحين لم يكن يجد أحدا هناك، يكون جاهزا بعبرة يقدمها، قائمة على الظلام والسكون. أما في هذه الحالة، فكان من الصعب تحديد أيهما كان أشد دهشة مما حدث عند فتح الباب: المجدد أم الحاضرون. فقد تقدم ساندي، الذي كان واقفا على قدميه، إلى الباب وفتحه فجأة. فدهش أشد دهشة مما رآه إلى حد أنه اختبأ بسرعة خلف الباب المفتوح. كان ماكدونالد واقفا أمام الباب مباشرة في الظلام الحالك في وضعية رابضة، كما لو كان على وشك الوثب. من الواضح أنه كان يحاول رؤية ما يحدث في الداخل عبر ثقب المفتاح، وحين أخذ على حين غرة بفتح الباب فجأة هكذا، لم يكن لديه متسع من الوقت ليستعيد وضعيته الطبيعية. ولم يكن التراجع ممكنا آنذاك. لذا وقف على قدميه بوجه شاحب مهزول كمن أفرط في الشراب، ودخل دون أن ينطق بكلمة واحدة. اقترب أولئك الجالسون على الدكة التي كانت أمام ييتس من بعضهم قليلا ليفسحوا مكانا للحداد، الذي جلس على المساحة الشاغرة التي تبقت على طرف الدكة. وفي خضم ارتباكه، سحب يده على جبينه وأحدث طرقعة عالية بإصبعيه وسط الصمت المطبق. تبسم بعض الجالسين في الخلف، وكانوا سيضحكون لولا أن ساندي، الذي أغلق الباب بهدوء، رمقهم بنظرة تهديد أخمدت مرحهم. فما كان ليسمح بالسخرية من «الرجل العجوز» في محنته، وكان كل الحاضرين يهابون قبضة ساندي لذا أذعنوا لنظرته كي لا يعرضوا أنفسهم لخطر مواجهتها بعد انتهاء الجلسة. صحيح أن ماكدونالد نفسه كان أولى أن يخشى من خوض عراك معه، ولكن كان من المرجح أنهم سيكونون آمنين من هذا الخطر طوال الأسبوعين القادمين أو الثلاثة إذا أتى التجديد ثماره. أما ساندي، فلم يكن قط من التائبين؛ لذا كان يخشى منه لأنه دائما ما كان متأهبا للدفاع عن رب عمله، سواء بالصوت أو بالضرب. لم يوح هذا الحادث المفاجئ الذي شهده السيد بندرسون إليه بأي كلام آنذاك؛ لذا اكتفى بالصمت لأنه كان رجلا حكيما. فيما تساءل الحاضرون متعجبين عن الكيفية التي عرف بها سلفا أن ماكدونالد كان يقف وراء الباب، ولم يكن أحد منهم أشد تعجبا من ماكدونالد نفسه. وبدا للكثيرين أن المجدد يحظى بهبة التنبؤ بالغيب التي كانوا محرومين منها، وهذا الاعتقاد جعل أذهانهم أشد استعدادا من أي وقت مضى للاستفادة من الخطبة التي كانوا على وشك سماعها.
بدأ السيد بندرسون خطبته بنبرة رتيبة خفيضة، لكن صوته تغلغل في كل شبر من الغرفة. فقد كان لديه صوت ذو طبيعة مميزة؛ عذب كنغمات إحدى طبقات التينور ويطرب الآذان كالموسيقى، وكان يحمل بين الحين والآخر رنة رجولية تثير الحماس والمتعة لدى المستمعين إليه. قال: «قبل أسبوع من الليلة، وفي مثل هذه الساعة بالضبط، كنت واقفا بجوار فراش موت شخص صار الآن وسط المباركين. كان قد وجد الخلاص منذ أربع سنوات، برحمة من الرب وبواسطة متواضعة سخرها له في أقل عباده شأنا. كان شرفا أنعم الرب به علي أن أرى هذا الشاب - أو هذا الصبي - يسلم روحه إلى يسوع. كان عمره أقل من عشرين عاما حين أسلم روحه إلى يسوع، وكانت آماله في عيش حياة طويلة في قوة آمال أصغر واحد بين الحاضرين هنا الليلة. ومع ذلك فارق الحياة في مقتبل نضارة رجولته؛ فارق الحياة دون سابق إنذار تقريبا. حين سمعت بمرضه الذي لم يدم طويلا، ومع أنني لم أكن أعلم شيئا عن خطورته، دفعني شيء ما بداخلي للذهاب إليه، وفي الحال. حين وصلت إلى بيته، أخبروني بأنه كان قد طلب رؤيتي، وأنهم أرسلوا للتو ساعيا إلى مكتب التلغراف ببرقية إلي. فقلت: «لقد بعث الرب إلي ببرقية.» أخذوني إلى جوار فراش صديقي الشاب، الذي كان في آخر مرة رأيته فيها قبل تلك مفعما بالحيوية والقوة كأي واحد هنا.»
ثم روى السيد بندرسون بصوت مرتعش من شدة الانفعال قصة مشهد لحظات الاحتضار الأخيرة. كانت ألفاظه بسيطة ومؤثرة، وكان واضحا حتى لأشد المستمعين قسوة وجمودا أنه كان يتكلم من القلب وهو يصف المشهد الذي رآه بكلمات محزنة مثيرة للشفقة. دخلت فصاحته البسيطة غير المنمقة قلب كل مستمع مباشرة، وضاقت الكثير من الأعين من شدة التدقيق وهو يعرض أمامهم صورة بيانية للسكينة التي غشيت نهاية حياة عاشها صاحبها كما ينبغي.
وتابع قائلا: «بينما كنت آتيا وسطكم الليلة، وبينما كنتم تقفون معا جماعات خارج هذا المبنى، سمعت بالصدفة جملة عابرة قالها أحدكم. كان رجل يتحدث عن جار مشغول لم يستطع نيل أي مساعدة في هذا الموسم الحافل بالعمل من العام. وأظن أن من كان يتحدث إليه هذا الرجل قد سأله عما إذا كان ذلك الرجل المشغول موجودا هنا، فكانت الإجابة: «لا؛ فليس لديه حتى دقيقة واحدة يستطيع القول إنها ملكه!» تطاردني هذه الجملة منذ أن سمعتها قبل أقل من ساعة. «ليس لديه دقيقة واحدة يستطيع القول إنها ملكه!» كنت أفكر فيها وأنا جالس أمامكم. كنت أفكر فيها وأنا أنهض لأخاطبكم. وأفكر فيها الآن. من لديه دقيقة يستطيع القول إنها ملكه؟» كانت نبرة صوت الواعظ الهادئة الرقيقة قد تبدلت إلى صيحة مدوية انعكس صداها من السقف إلى رءوس الحاضرين. «ألديكم؟ ألدي؟ ألدى أي ملك، أو أي أمير، أو أي رئيس، أو أي حاكم للبشر دقيقة أو لحظة يستطيع القول إنها ملكه؟ لا أحد . لا أحد من بين الملايين الذين تكتظ بهم هذه الأرض. الدقائق التي مضت ملككم. ففيم أفنيتموها؟ كل جهودكم، وكل صلواتكم، لن تغير أي فعل فعلتموه في أي من تلك الدقائق التي مضت، وتلك هي الدقائق الوحيدة التي تملكونها. فالأفعال التي أوتيت في الدقائق الماضية صارت أبدية راسخة كالنقش على الحجر. وهي محفوظة في كتاب إما لكم أو عليكم. أما تلك الدقائق المقبلة، تلك الدقائق التي ستستطيعون من الآن فصاعدا القول إنها ملككم حين تفنى، فأين هي الآن؟ إنها بين يدي الرب؛ إما أن يعطيها أو يمسكها. فمن يستطيع أن يحصيها وهي بين يدي الرب؟ ليس أنتم، ولا أنا، ولا أحكم إنسان على وجه الأرض. ربما يستطيع الإنسان أن يحصي الأميال من هنا إلى أبعد نجم مرئي، لكنه لا يستطيع أن يخبرك - أنت، لا أقصد جارك، بل أقصدك أنت - لا يستطيع أن يخبرك أنت بما إذا كانت دقائقك المقبلة واحدة أم ألفا. إنها موزعة عليكم، وأنتم مسئولون عنها. ولكن ستأتي لحظة - قد تكون الليلة وقد تكون بعد سنة - سيغلق فيها الرب يده وستكون قد استهلكت كل دقائقك. حينئذ سينتهي وقتك في هذه الدنيا ويبدأ الخلود. فهل أنت مستعد لتلك اللحظة الرهيبة، تلك اللحظة التي ستمنح فيها آخر دقيقة، وتمسك عنك الدقيقة التالية؟ ماذا لو جاءت الآن؟ هل أنت مستعد لها؟ هل أنت مستعد لاستقبالها بصدر رحب كأخينا الذي مات في مثل هذه الساعة منذ أسبوع فقط؟ لم يكن احتضاره هو الوحيد الذي شهدته. فقد حفرت بعض المشاهد الأخرى في ذهني برسوخ يجعلني لا أنساها أبدا. فمنذ عام، استدعيت إلى فراش رجل يحتضر، كان طاعنا في السن، وطاعنا في الخطايا. كان يوعظ مرارا، لكنه كان يصد المسيح عنه، قائلا: «عندما يحين الأوان الأنسب.» كان يعرف الدرب، لكنه لم يسر فيه. وحين نفد صبر الرب أخيرا وأصبح هذا الرجل طريح فراش الموت، لجأ، بحماقته التي لازمته حتى النهاية، إلي، أنا العبد الفقير بدلا من اللجوء إلى الرب، ملك كل شيء. وحين وصلت إلى جانبه، كان ختم الموت على وجهه. كان إصبع سكرات الموت المؤلمة الجارح قد رسم خطوطا على جبينه المنهك الشاحب. كان باديا عليه فزع هائل، وأمسك يدي بقبضة الموت الباردة نفسها. بدا لي في تلك الغرفة المظلمة أنني رأيت ملك السلام واقفا بجوار الفراش، لكنه كان واقفا منزويا، كامرئ أهين مرارا. وتراءى لي عند رأس الفراش شيطان الظلام الأبدي ينحني فوقه ويهمس في أذنه قائلا: «فات الأوان! فات الأوان!» نظر إلي الرجل المحتضر؛ ويا لها من نظرة! أرجو من الرب ألا تروا مثلها أبدا. قال لاهثا: «لقد عشت ... لقد عشت حياة مفعمة بالآثام والخطايا. فهل فات الأوان؟» قلت له مرتجفا: «لا. قل إنك مؤمن.» تحركت شفتاه، ولكن لم يصدر صوت من بينهما. لقد مات على ما عاش عليه. لقد أمسكت عنه الدقيقة الضرورية. أتسمعون؟ لقد أمسكت عنه! لم تكن لديه الدقيقة التي يستطيع القول إنها ملكه. لم تكن لديه تلك الدقيقة التي كان سيزحزح فيها عن اللعنة الأبدية. لقد ... نزل ... إلى الجحيم، ميتا على ما عاش عليه.»
ارتفع صوت الواعظ حتى بدا كنفخة بوق. لمعت عيناه، وكان وجهه متوردا من حرارة موضوع خطبته. ثم وصف بأسرع ما يمكن أن تنطق به الكلمات صورة حية رهيبة ومروعة للجحيم ويوم الدين. سمعت تنهدات وآهات في كل شبر من الغرفة. صاح قائلا: «تعال ... الآن ... الآن! الآن هو الموعد المكتوب، اليوم هو يوم الخلاص. تعال الآن، وادع الرب وأنت تقوم أن يمد لك برحمته في القوة والعمر لتصل إلى دكة التائبين.»
صفحة غير معروفة