وقد تجسدت فكرة ريتشارد عما ينبغي أن يكون عليه المراسل الحق في رجل عجوز بائس عاطل، كان يعمل لدى صحيفة صباحية، انتحر منذ فترة قريبة في ساعة متأخرة من اليوم كي يفوت على الصحف المسائية نشر خبر انتحاره المثير. وكان قبل انتحاره قد أرسل إلى الصحيفة التي كان يعمل لديها تقريرا وافيا عن وفاته بعنوان رئيسي وعنوان فرعي دقيقين، وذكر في رسالته إلى رئيس تحرير الصحيفة سبب اختياره الساعة السابعة مساء لتكون وقت رحيله عن عالم لا يقدره حق قدره.
قال ييتس لنفسه هامسا ومستجمعا رباطة جأشه فجأة: «آه حسنا، يجب ألا أفكر في نيويورك إن كنت أعتزم البقاء هنا أسبوعين. أعرف أنني سأشتاق للمدينة مبكرا جدا، ثم سأهرب إليها بأقصى سرعة. لن يكون هذا مقبولا تماما. فالجو هنا ساحر؛ إنه يملأ الإنسان بحياة جديدة. هذا هو المكان المناسب لي، وسألزمه إلى أن أستعيد عافيتي. تبا لنيويورك! ولكن يجب ألا أفكر في برودواي وإلا سأهلك.»
وصل إلى بقعة في الطريق استطاع أن يرى منها الجانب الأبيض من الخيمة تحت الأشجار الداكنة، وتسلق السياج ذا القضبان، وظل هناك بضع لحظات. كان صوت أحد طيور السمان الصادر على فترات متقطعة من حقل مجاور هو الصوت الوحيد الذي كان يكسر السكون المطبق. كانت رائحة الربيع الدافئة منتشرة في الأجواء. وكانت البراعم قد برزت من غلاف سباتها الشتوي مؤخرا، وكانت الأشجار، بلونها الأخضر الكثيف، تبدو ذات حداثة ونضارة تريحان النظر وتبهجان الحواس الأخرى. بدا العالم آنذاك كأنه لم يخلق إلا حديثا. أخذ الشاب نفسا عميقا من الهواء المنعش، وقال: «كلا، لا مشكلة إطلاقا في هذا المكان يا ديك. نيويورك مكان سخيف بالنسبة إليه.» ثم أضاف متنهدا: «سأرى إن كان بإمكاني تحمله أسبوعين. أتساءل كيف يتدبر الأولاد شئونهم من دوني.»
واصلت أفكاره وخواطره الانجراف إلى المدينة الكبرى رغما عنه، مع أنه قال لنفسه إن ذلك ليس بالأمر المقبول. حدق إلى المنظر الطبيعي الهادئ المترامي الأطراف لكن عينيه كانتا خاويتين من أي تعبير، ولم يكن يرى شيئا. كان صخب الشوارع يملأ أذنيه. وفجأة استفاق من تفكيره الحالم على صوت قادم من الغابة. «أيا ييتس، أين الخبز؟»
نظر ييتس حوله سريعا، مجفلا بعض الشيء، ورأى البروفيسور يتجه نحوه. «الخبز؟ لقد نسيته تماما. كلا، لم أنسه. كانوا لا يزالون يخبزونه، هذا كل ما في الأمر. سأذهب لإحضاره في وقت لاحق من اليوم. ما الغنيمة التي غنمتها يا بروفيسور؟» «معظمها خضراوات.» «جيد. هل حظيت بغداء طيب؟» «بل ممتاز.» «وأنا أيضا. ريني، حين قاطعتني، كنت أحصي عدد البيوت الريفية البادية في الأفق. ما رأيك في أن نتناول وجباتنا فيها تباعا كأجر لنا؟ أنت مدرس، ولا بد أنك تعرف كل شيء عن ذلك. ألا يشجعون التعليم في هذا البلد بدفع أقل أجر ممكن للمدرس، والسماح له بتقاضيه بتناول الطعام مجانا في البيوت بالتناوب؟ هل حصلت على أجرك طعاما مجانيا في البيوت من قبل يا ريني؟» «إطلاقا. لو أن هذه العادة كانت موجودة في كندا قديما، فقد عفا عليها الزمن الآن.» «هذا مؤسف. فأنا أكره أن أواجه طهيي يا ريني. فنحن نصبح أقل جرأة مع تقدمنا في السن. بالمناسبة، كيف حال بارتليت العجوز؟ أكان على أحسن ما يتوقع في ظروفه هذه؟» «بدا كعادته تماما. لقد أرسلت السيدة بارتليت كرسيين إلى الخيمة؛ إذ تخشى أن نصاب بالروماتيزم إن جلسنا على الأرض.» «إنها امرأة لطيفة يا ريني، وتراعي الآخرين. وهذا يذكرني بأن لدي أرجوحة شبكية في مكان ما بين متعلقاتي. سأعلقها. صحيح أن الكراسي مريحة، لكن الأرجوحة الشبكية ضرب من الترف والرفاهية.»
نزل ييتس تدريجيا بسلاسة من أعلى السياج، وسار الرجلان معا إلى الخيمة. بسطت الأرجوحة الشبكية وعلقت متدلية بين شجرتين. اختبرها ييتس بحذر، وأخيرا ائتمن ثناياها الشبكية المريحة على نفسه. كان يتأرجح في كسل وتراخ على ارتفاع عدة أقدام من الأرض، حين قال لرينمارك: «أسمي هذه جنة؛ جنة مستعادة؛ لكنها في الشهر المقبل ستكون جنة مفقودة. والآن، أيها البروفيسور، أنا جاهز للطهي، لكن لدي رغبة في فعل ذلك بالوكالة. الجنرال يوجه، والرجل العادي النافع ينفذ. أين خضراواتك يا ريني؟ بطاطس وجزر، أليس كذلك؟ ممتاز. الآن، هلا غسلتها يا ريني، لكن يجب أولا أن تحضر بعض المياه من النبع.»
كان البروفيسور رجلا صبورا، وامتثل إلى توجيهات صاحبه. فيما واصل ييتس التأرجح يمينا ويسارا وهو يتغزل في مباهج النهار وسكون الغابة ويتغنى بهما. لم يتكلم رينمارك سوى قليل، وكان كل اهتمامه منصبا على ما في يديه من عمل. أنهى تحضير الخضراوات، وأخذ كتابا من حقيبته، وأمال كرسيا إلى الخلف ساندا إياه إلى شجرة، وبدأ يقرأ.
ثم قال للرجل الناعس في الأرجوحة الشبكية: «سوف أعتمد عليك في إحضار الخبز.» «أنت محق يا ريني. ثقتك في محلها. سأنزل الآن في رحلة إلى عوالم الحضارة، وألبي تلك الحاجة الشديدة. سأذهب إلى آل هوارد مرورا بضيعة آل بارتليت، لكني أنذرك بأنني، إذا وجدت وجبة في أي من البيتين، فلن أكون موجودا معك هنا لأختبر أولى محاولاتك في الطهي. لذا ربما تضطر إلى الانتظار حتى الفطور لتعرف رأيي.»
حرر ييتس نفسه ببطء وعلى مضض من الأرجوحة الشبكية، ونظر إليها بأسف حين وقف مرة أخرى على الأرض. «هذا النضال المجنون من أجل الخبز يا بروفيسور هو لعنة الحياة هنا في الأسفل. فهو ما نسعى إليه جميعا. لولا ضرورة المأكل والملبس، ما أطيب الوقت الذي ربما قد يحظى به المرء. حسنا، أستودعك الرب يا ريني. إلى اللقاء.»
سار ييتس على مهل عبر الغابة حتى وصل إلى بداية درب يؤدي إلى ضيعة بارتليت. رأى المزارع وابنه يعملان في الحقول الخلفية. ومن بين البيت البعيد ومخزن الحبوب، ظهر عمود من الدخان الأزرق تصاعد مباشرة إلى الهواء الساكن، وبعدما وصل إلى ارتفاع معين، انتشر كغيمة ضبابية رقيقة فوق البيت. ظن ييتس في البداية أن بعض المباني الخارجية الملحقة بالبيت تشتعل، فأسرع الخطى وبدأ يركض، لكنه فكر للحظة فأدرك أن عمود الدخان كان ظاهرا للعاملين في الحقول، وأنهم ما كانوا ليواصلوا عملهم بهدوء لو كانت ثمة أي مشكلة. وحين وصل إلى نهاية الدرب الطويل، وانعطف بأمان عند زاوية مخزن الحبوب، رأى في المساحة المفتوحة بين ذلك المبنى والبيت نيران مخيم هائلة مشتعلة بالحطب. وكانت ثمة غلاية حديدية كبيرة معلقة فوق لهيب النيران من وتد عرضي محمول على دعامتين متفرعتين. كانت الغلاية شبه ممتلئة عن آخرها، وكان البخار قد بدأ يتصاعد بالفعل من سطحها، مع أن النيران كان من الواضح أنها لم توقد إلا منذ قليل. لم يكن الدخان كثيفا للغاية في هذه اللحظة، لكن كيتي بارتليت كانت واقفة هناك ممسكة بقبعة من القش عريضة الحواف في يديها تهوي بها لتبعد الدخان عن وجهها، فيما كانت القبعة تحمي محياها الوردي من النيران في الوقت نفسه. كان واضحا أنها لم تكن مستعدة لاستقبال ضيوف؛ إذ انتفضت حين خاطبها الشاب، واشتد تورد وجهها وسط انزعاجها الواضح من ظهوره غير المرغوب.
صفحة غير معروفة