أن أعمل خيرا من أن أقدمه لاسمكم الشهير. إنني مقتنع بأنه بعد فناء الجسد ينبغي أن يظل هذا الاسم خالدا، نظرا لأن جنابكم كان الوحيد، في عصرنا، الذي عمل على إحياء طريقة القدامى الجليلة في الكتابة في مجال العلوم. فأنتم لم تقلدوا، ولم تحرفوا، ولم تنقلوا كتابا عن كتاب، كما لم تنسبوا لأنفسكم أشياء الآخرين كما فعل الكثيرون؛ بل عملتم على تمحيص الوقائع بحذق ودراية. وقدمتم للعالم عددا من الطرق الجديدة التي لم يسمع أحد كلاما عنها من قبل بل التي لم يتصورها أحد. وهذا ما حدث في علم الفلك، فقد اكتشف شخصكم الحركات السماوية مع يقين مطلق، وأوجد نظرية غاية في احكامها عن وحيدات المركز. وفي الفلسفة، فقد مهدتم للطريقة السرية التي تولد فينا الذكاء والطريقة التي كانت مجهولة للبحث عن أسباب ظاهرات غريبة، أسباب ظلت مخفية خلال العديد من القرون، كأسباب التوافق والتنافر الطبيعية، والتي نلاحظها في ظروف كثيرة. أما في مجال الطب فقد درستم لأسباب الأمراض السارية وأفضل الطرق وأسرعها في علاجها. وإني لأترك جانبا قصيدة مرض الزهري، التي على الرغم من أنها كتبت بقلم جنابكم في سن الشباب، والتي تبدو كأنها لعبة، فهي مع ذلك مليئة بأفكار فلسفية وطبية وبديعة جدا، وموشاة بحلة قشيبة من أفكار قدسية، ومزدانة بأزهار شعرية متنوعة، حتى أن رجال عصرنا لا يعتورهم ريب في أنها تعادل القصائد القديمة، مما يضعها في عداد القصائد التي تستحق البقاء وأن تقرأ خلال قرون لا نهاية لها.
لقد اعتبرت الدول والإمارات والثروات والأشياء التي من هذا القبيل والتي يمنحها الحظ، اعتبرت دائما أمورا غير مستقرة وقصيرة البقاء. وهي في الحقيقة كذلك. أما كنز العقل، ولا سيما إذا كانت قيمته من مستوى عقل جنابكم، فمن المعروف يقينا بأنه متين، يقاوم أية إهانة ويصمد لكل صرف من صروف الدهر، ويعمل جاهدا، رغم أنف الزمن، ليصبح سرمديا وخالدا. وما أقوله هو الحقيقة. وإن من يرغب في التكلم عن حياة عدد ضخم من كبار الأمراء أو الأشراف الذين عاشوا في إيطاليا أو في أجزاء أخرى من العالم، بل من يرغب في التكلم عن المعاصرين أنفسهم، فإنه بلا شك سيجد فيما يتعلق بكثير منهم، إن لم نقل فيما يتعلق بأكبر عدد منهم، أن اللحد الذي احتوى أجسادهم قد أسدل رداء النسيان على أسمائهم، بينما نرى أن ذكرى العديد من العلماء والكتاب الذين ماتوا منذ عدة قرون، لا تزال تعيش بين ظهرانينا، وتنعم بنضارة نامية في كل ساعة تمضي.
صفحة ٣٠