الفصل الأول في الوصية
صفحة ٢١
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
الوصايا: جمع وصية، وهي: اسم مصدر من أوصاه ووصاه توصية، أي: عهد إليه، كما في القاموس (1).
وهو أولى مما في جملة من كتب الفقه من أخذها من وصى يصي، بمعنى " وصل " لوصل الموصي تصرفه بعد الموت بتصرفه قبل الموت (2)، لأن الألفاظ المستعملة من هذه المادة في الكتاب (3) والسنة (4) وكتب الفقهاء كلها
صفحة ٢٣
من باب الأفعال والتفعيل، لا الثلاثي المجرد، اللهم إلا أن يريدوا أن أصل هذه اللفظة مأخوذة من وصى يصي، حتى أن الايصاء والتوصية بمعنى العهد مأخوذ من ذلك، لا أن (1) الوصية المذكورة في الاستعمالات مصدر وصى يصي، فلا خلاف في المعنى، ولعل هذا هو المتعين.
ونظيره: أنهم يفسرون الطهارة - في كتاب الطهارة - بفعل المكلف، أعني استعمال الطهور، أو نفس الوضوء والغسل والتيمم، ومع ذلك يذكرون:
أن الطهارة من " طهر "، وليس مرادهم أن الطهارة المفسرة بفعل المكلف مصدر ل " طهر "، لأن المصدر منه حدث قائم بالجسم الطاهر أو بالشخص المتطهر.
والغرض من ذلك كله: أن الوصية في الكتاب والسنة وألسنة الفقهاء بمعنى العهد إلى الغير، إلا أن هذا المعنى قد يتعلق بتمليك شخص شيئا من ماله، وقد يرجع إلى تسليط في التصرف، وقد يتعلق بفعل آخر: كفك ملك بتحرير أو وقف، وقد يرجع إلى أمر يتعلق بنفس الموصي كأمر تجهيزه ودفنه، وقد يتعلق بغير ذلك.
ففي رواية الجعفري (2)، عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يحسن وصيته عند موته كان نقصا في مروته وعقله، قيل: يا رسول الله وكيف يوصي الميت؟ قال: إذا حضرته الوفاة واجتمع الناس إليه، قال: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب
صفحة ٢٤
والشهادة، الرحمن الرحيم، [اللهم] (1) إني أعهد إليك في دار الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأشهد أن محمدا عبدك ورسولك، وأن الجنة حق ، والنار حق، والبعث حق، والحساب حق، والقبر (2) حق، والميزان حق، وأن الدين كما وصفت، وأن الاسلام كما شرعت، وأن القول كما حدثت، وأن القرآن كما أنزلت، وأنك أنت الله الحق المبين، جزى الله محمدا عنا خير الجزاء، وحيا الله محمدا وآل محمد عنا بالسلام.
اللهم يا عدتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدتي، ويا ولي نعمتي، إلهي وإله آبائي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا، فإنك إن تكلني إلى نفسي طرفة عين كنت أقرب من الشر وأبعد من الخير. وآنس في القبر وحشتي، واجعل لي عهدا يوم ألقاك منشورا، ثم يوصي بحاجته.
وتصديق هذه الوصية في القرآن في السورة التي ذكر فيها مريم قوله تعالى: (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا)، فهذا عهد الميت.
والوصية حق على كل مسلم ومسلمة، وحق عليه أن يحفظ هذه الوصية ويعلمها.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: علمنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: علمنيها جبرئيل عليه السلام " (3).
صفحة ٢٥
وظاهر بعض القدماء كالمفيد (1) وابن زهرة (2) والحلبي (3) وجوب الوصية بما في الرواية.
ثم إن الوصية بالمعنى المذكور - أعني العهد إلى الغير - تحتاج بحكم العقل في تحققها إلى الموصي، والموصى إليه، والموصى به.
وأما مثل: فلان حر بعد وفاتي، أو لزيد كذا بعد وفاتي، فالموصى إليه عام لكل من له دخل بهذا المطلب من الورثة وغيرهم، ممن له شأنية ترتيب آثار العتق والملك، لكنه مقطوع النظر من جهة عدم تعلق الغرض به.
ثم الموصى به قد يكون تمليك شخص مالا، ويقال له: الموصى له، فالموصى له ليس من أركان مطلق الوصية، وإنما هي (4) من أركان فرد خاص منها (وهي) التي عرفها جماعة بأنها (تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة) ولا يخفى عدم كونها جامعة لأفراد الوصية المبحوث عنها عند الفقهاء، لخروج أفراد كثيرة، بل ولا مانعة، لدخول التمليك بالعوض بعد الوفاة، ولذا زاد في التذكرة قيد التبرع (5)، فيخرج مثل: هذا لزيد بعد وفاتي بكذا.
ويشكل أنه إن أريد عدم صدق الوصية فممنوع، وإن أريد بطلانها فلا دليل عليه إلا بطلان المعاوضة المعلقة، فإن تم إجماعا، وإلا ففيه تأمل.
صفحة ٢٦
ودعوى انصراف إطلاق الوصية في الكتاب والسنة إلى التبرع، مشكلة أيضا.
وكيف كان، فلا إشكال ولا خلاف في كون الوصية عقدا في الجملة بين الموصي والموصى إليه، حيث يتعلق الغرض بخصوص الموصى إليه، لا مثل: أعطوا زيدا كذا، وبينه وبين الموصى له حيث يكون هناك موصى له، وقد تجتمع الجهتان وقد تفترقان، إنما الاشكال في كونها عقدا على الاطلاق كما يظهر من جماعة (1).
والذي يقتضيه النظر - بعد عدم قيام إجماع ولا غيره على كونها عقدا على الاطلاق - أن الوصية من حيث معناها اللغوي والعرفي ليست عقدا، إلا أنه حيت ثبت من الدليل توقف حصول متعلقها على القبول، وعدم كفاية الايجاب فيه، كالتمليك المعلوم من الشرع عدم حصول أثره بدون رضى المملك - بالفتح - وكالتولية المعلوم كونها كذلك، فلا بد من التزام كونها هناك عقدا، إلا أن يكون دليل التوقف على الرضى أعم من كونه ناقلا أو كاشفا، فلا يثبت بذلك كونها عقدا، إلا أن يقال: إن الأصل يقتضي كونه ناقلا فيثبت كونه عقدا.
وأما إذا كان متعلقها مما لم يثبت توقفه على رضى غير الموصي فليست (2) هناك عقدا.
ولا ينافي هذا الاختلاف في الموارد اتحاد معنى الوصية في جميع الموارد، لكونه ناشئا عن اختلاف متعلق الوصية لا نفسها، فهي نظير
صفحة ٢٧
الوقف. لكن الحكم بذلك يتوقف على وجود عموم يدل على نفاذ وصية الموصي بقول مطلق، وإلا فالأصل فيما شك في توقفه على الرضى الوقف، فيكون حينئذ عقدا، كما لو ثبت بالدليل توقف حصول متعلق الوصية على الرضى.
(و) مما ذكرنا من أصالة كون القبول عند ثبوت الحاجة إليه ناقلا، يظهر أن الوصية بالمعنى الذي ذكره المصنف: عقد (يفتقر إلى إيجاب وقبول)، لا مطلق الوصية، كما مر إجماله وسيجئ تفصيله، وظاهر قوله قدس سره: (فالايجاب: كل لفظ دل على ذلك القصد (1)) أن المعتبر في إيجاب الوصية هو اللفظ مع التمكن منه كما هو المشهور، بل إجماعا كما في ظاهر الغنية (2)، حيث ادعى الاجماع على كونها عقدا - الظاهر في اعتبار اللفظ - فلا يكفي الإشارة مع القدرة على النطق، ولا الكتابة، ولا يترتب عليهما أثر، خلافا لبعض متأخري المتأخرين كسيدي الرياض (3) والمناهل (4) واحتمله في التذكرة (5)، وربما ينسب إلى النافع (6)، للاطلاقات (7) المؤيدة بما دل على أنه:
صفحة ٢٨
لا يبيت المرء إلا ووصيته تحت رأسه (1)، ولا يخلو عن قوة لولا الشهرة العظيمة وظهور عدم الخلاف، وربما قيل (2): بأنهما تفيدان مؤدى اللفظ، وأنهما بمنزلة المعاطاة في العقود اللازمة.
وفيه: أن المعاطاة في البيع عند المشهور - على ما تقدم في أول البيع - لا يفيد إلا إباحة التصرف دون الملك، وكذلك في الهبة، ولا معنى للإباحة هنا، ولا خلاف في عدم تحققها. ولذا التزم بعض المعاصرين - المدعي لكون الايجاب الفعلي من قبيل المعاطاة - عدم الثمرة هنا بينها وبين عقد الوصية (3)، وهو أضعف من التزام الإباحة، إذ لا معنى حينئذ لحكمهم بافتقار الوصية إلى الايجاب والقبول، وحمله على أن المفتقر إليهما عقدها لا مؤداها كما ترى، إذ لا داعي - مع فرض حصول تأثيرها بغير العقد - إلى الالتزام بكون الوصية عقدا حتى يفتقر إليهما.
والحاصل: أنه لا إشكال في كون الوصية عند المشهور من العقود التي لا يؤثر غير اللفظ فيها أثرا، لعدم حصول التملك به عندهم، وعدم معنى للإباحة هنا وعدم قائل بها. نعم، ذكروا كفاية الفعل في قسمين من العقود:
أحدهما: العقود المملكة التي يعقل فيها الإباحة، كالبيع والقرض والهبة، وثمرة الفعل ثمرة المعاطاة في البيع.
والثاني: العقود المفيدة للإذن، كالوكالة والوديعة والعارية إذا أنشأها بالإشارة والكتابة.
صفحة ٢٩
والظاهر أنهم توسعوا في هذه العقود، فجوزوا الفعل في إيجابها، لا (1) أن الفعل فيها من قبيل المعاطاة في العقود، والوصية خارجة من القسمين.
هذا، مع أن حكم المعاطاة لا يجري فيما يجري من العقود اللازمة والجائزة إلا مع القبض من الطرفين أو أحدهما، وهذا المعنى لا يجري في الوصية، كما لا يخفى.
ثم إنه لا فرق - فيما ذكره المشهور (2) من عدم جواز الوصية بالكتابة - بين أن يعمل الورثة ببعضه، وبين أن لا يعملوا بشئ منه، خلافا للمحكي عن نهاية الشيخ (3)، فألزم الورثة بالمكتوب إذا عملوا ببعضه، لرواية قاصرة السند (4).
ثم إن الألفاظ الدالة على الايجاب كثيرة:
منها: ما هو صريح في ذلك (كقوله: أعطوا فلانا بعد وفاتي، أو لفلان كذا بعد وفاتي، أو أوصيت له) كذا، وكل هذه (5) صريحة في الايجاب كما في التذكرة (6)، ولا إشكال في الأخيرة، وكذا في الثانية، بناء على ما ذكره
صفحة ٣٠
المصنف من أن الوصية هي التمليك (1).
كما لا إشكال في الأولى إذا جعلناها بمعنى العهد إلى غيره، إنما الاشكال في الجمع بينهما في الصراحة، فإن الثانية غير صريحة في العهد، كما أن الأولى غير صريحة في التمليك، فكل منهما يدل بالالتزام العرفي على ما يدل الآخر عليه بالمطابقة، ولعل المراد بالصراحة ما يتضح دلالته على التمليك ولو التزاما.
(وينتقل بها) أي بالوصية المنشأة بالايجاب (الملك) الموصى به ([إلى الموصى له] (2) بموت الموصي) الذي علق عليه التمليك، فلا يعقل تنجزه قبله، (وقبول الموصى له) الذي هو مجرد الرضى، بإيجاب الوصية نظير القبول في الهبة، ولا يتضمن إنشاء آخر كما في المعاوضات، ولذا جعل سبب الانتقال في ظاهر العبارة هو الايجاب، وجعل القبول - الذي هو جزء العقد الناقل - مساوقا للموت الذي هو شرط.
وعلى هذا، فظاهر العبارة كون القبول شرطا، فجعله - كصريح بعض العبارات - كون القبول جزء السبب الناقل (3)، في غير محله، إلا أن يستظهر ذلك من جعل الوصية من العقود، وحينئذ فيكون كسائر ما صرح فيه بكون الوصية عقدا، وهو وإن كان ظاهرا، بل صريحا فيما ذكر، إلا أن تعبير من قال بكون القبول كاشفا بذلك يكشف عن كون المراد بالعقد ما يتوقف على القبول، لا ما يتركب منه ومن الايجاب.
صفحة ٣١
وكيف كان، فالاحتمالات في القبول أربعة:
أحدها: كونه شرطا، ولا يعلم القائل به، وإن ذكرنا (1) أنه ظاهر عبارة المصنف قدس سره (2).
الثاني: كونه جزءا ناقلا، وهو المنسوب إلى المصنف هنا (3) وجماعة (4) الثالث: كونه كاشفا، وهو المنسوب إلى الأكثر (5) تارة، وإلى المشهور (6) أخرى، لكنه مخالف لظاهر إطلاق الأكثر، بل الكل (7)، لكونه عقدا.
الرابع: كونه شرط اللزوم، فعليه يملك الموصى له ملكا متزلزلا، نظير العقد الجائز بالذات وبالخيار، وهو الذي قواه في موضع من المبسوط (8) - تمسكا بإطلاق تقديم الوصية على الإرث من غير تقييد بالقبول - إلا أنه ضعفه في موضع آخر (9).
والمطابق لأصالة عدم الانتقال هو الأول من هذه الثلاثة.
والمطابق لما يظهر من أدلة نفوذ الوصية وحرمة تبديلها - من كون .
صفحة ٣٢
الايجاب علة تامة في الملك، إلا أن الاجماع قام على كونه بعد رد الموصى له ملكا للوارث - هو القول الثالث، فالقول بالكشف مخالف للأصل والاطلاقات، فإن تم ما ذكروا له من الدليل، وإلا فيؤخذ بالثاني إن تمت الاطلاقات، وإلا فلا مناص عن القول الأول وهو المعتمد، لأن حاصل ما اعتمدوه في الكشف أمور:
الأول: ما ذكره جماعة - منهم الوحيد البهبهاني على ما حكى عنه سيد الرياض -: أن مقتضى الايجاب هو انتقال الملك عقيب الموت بلا فصل، والقبول إنما وقع على هذا الايجاب (11) لا إيجاب آخر، ووقوعه على بعض الأزمنة المتأخرة بديهي الفساد.
وفيه: أن الكلام في السبب الشرعي الذي يترتب عليه الملك، ولا يعقل انفصاله وانفكاكه عنه بتقدم أو تأخر، فإن ثبت أنه الايجاب المجرد - على ما يتراءى من ظواهر إطلاق نفوذ الوصية وحرمة تبديلها - فهو دليل آخر سيجئ، ولا يحتاج معه إلى ما ذكر دليلا آخر من أن القبول متعلق بمدلول الايجاب الذي هو الملك عقيب الموت (12).
وإن لم يثبت ذلك كان مقتضى أدلة وجوب الوفاء بالعقود ترتب الأثر من حين صدق العقد وإن كان مدلول العقد سابقا على ذلك، ولذا لم يكن القبول في سائر العقود كاشفا عن الملك من حين الايجاب، مع أنه دال على الرضى بالايجاب السابق.
ومنشأ توهم الفرق يحتمل كون التمليك في الوصية مؤقتا بالموت،
صفحة ٣٣
فمقتضى الرضى بالتمليك الموقت حصول الملك في وقته المجعول، كما لو وقته بزمانه خاص.
ويدفعه: أن المفروض عدم ثبوت استقلال الايجاب بالأثر من دون الرضى ، ودعوى استقلال الايجاب بالتأثير لو تمت رجعت إلى القول الثالث كما سيأتي.
وبالجملة، فتخيل الفرق في القبول بين هذا العقد وبين غيره - بكون الايجاب هنا معلقا أو موقتا، وفي غيره منجزا - في غير محله، وقد ذكرنا في إجازة عقد الفضولي (1) - في رد الاستدلال على الكشف، بأن الإجازة هي الرضى بالعقد السابق المقتضي للتمليك من حينه - ما يوضح ما ذكرنا هنا.
الثاني: ما استدل به غير واحد (2) من ظواهر إطلاقات انتقال المال إلى الموصى له بمجرد الموت من دون توقف على أمر آخر، وهي وإن لم تتضمن اشتراط القبول، إلا أنه خرج منها صورة عدم القبول.
والظاهر بناء هذا الاستدلال على الفراغ عن ضعف القول الثالث، وإلا فالمتيقن خروجه منها صورة الرد، لا مطلق عدم القبول.
ويرد عليه - بعد ظهور كون تلك الأدلة مسوقة لبيان حكم الوصية بعد الفراغ عن إحراز ما يعتبر فيها من شرائط الموصي والموصى له والموصى به -: أن مقتضى الجمع بين تلك الاطلاقات وأدلة اعتبار القبول بتقييدها بها، هو القول بأضعف الوجهين في الكشف، وهو لزوم الوصية المتعقبة بالقبول
صفحة ٣٤
المستلزم لترتيب أحكام تملك الموصى له، إذا علم تحقق هذا القيد فيما بعد.
أما على القول بالكشف الحكمي والنقل الحقيقي، فاللازم تقييد لزومه بما بعد القبول، ودعوى قيام الدليل الخارجي على حكم الكشف بعد تحقق هذا الجزء الأخير للعلة التامة، والمفروض انتفاؤه في المقام، فافهم فإنه لا يخلو عن دقة.
توضيح المطلب على وجه يظهر منه حال القبول في سائر العقود وفي هذا العقد، وحال الإجازة في عقد (١) الفضولي: أن ظاهر <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/5/1" target="_blank" title="المائدة: 1">﴿أوفوا بالعقود﴾</a> (2) بل (وأحل الله البيع) (3) و (البيعان بالخيار) (4) ونحوهما، مما لا يدل على اللزوم أو يدل على عدمه، هو كون العقد علة تامة لتحقق مدلوله شرعا.
وحينئذ فيتوقف تحقق مدلوله شرعا على أمرين:
أحدهما: تحقق موضوع العقد.
والثاني: الحكم من الشارع بوجوب العمل بمدلوله، فإن انتفى الأول كما في الايجاب المجرد عن القبول، أو الثاني، كما إذا كان العقد الموجود غير محكوم بوجوب الوفاء، أو مطلق السببية بأن فرض تحقق العقد قبل تشريع سببيته، أو وجد من الفضولي، فلا بد أن ينظر بعد وجود القبول المحقق للسبب في الأول، وبعد حكم الشارع المحقق للسبب في الثاني من
صفحة ٣٥
النظر (1) إلى مدلول ذلك العقد، فإن دل على إنشاء ملكية مقيدة بزمان، وفرضنا صحة ذلك التقييد في ذلك العقد، وجب العمل على طبق مدلوله حتى لو كان ذلك الزمان متقدما على زمان تحقق العقدية أو زمان الحكم بالسببية، لأن هذا مقتضى الوفاء بالعقد، فيترتب الآثار من ذلك الزمان، وليس هذا من الكشف، كما لا يخفى.
أما إذا كان الملكية المنشأة غير مقيدة بزمان، بل كان الزمان زمان الانشاء، كان ترتب الآثار من زمان تحقق السبب والحكم بسببيته.
فظهر من ذلك أن القبول الراجع إلى الايجاب السابق للتمليك المطلق، والإجازة اللاحقة للعقد السابق المفيد للتمليك، لا يوجبان إلا ترتب الآثار من حينهما، لا من زمان متعلقهما.
وأما الوصية فلما كانت عقدا متضمنا لتراضي الموصي والموصى له على التملك من حين الموت دون التملك المطلق، كان الوفاء به بعد القبول عبارة عن ترتب آثار ملك الموصى له من حين الموت مع كون الملك قبل القبول ملكا (12) واقعيا لغيره، وهذا معنى الكشف الحكمي الذي هو أقوى الوجهين في إجازة العقد الفضولي. هذه خلاصة الاستدلال على الكشف.
ويرد عليه: منع كون القبول المتراخي عن الموت راجعا إلى التملك بمجرد الموت وإن سلم أنه مؤدى الايجاب، وأن ظاهر القبول تعلقه بنفس مؤدى الايجاب، لأن الملك بعد الموت قبل القبول كان لغير الموصى له في الواقع، ولا يعقل رضى الموصي بصيرورته ملكا في ذلك الوقت للموصى له
صفحة ٣٦
لاستحالته عقلا.
وهذا نظير منفعة العين المستأجرة، وبضع المتمتع بها فيما بين الايجاب والقبول، فإنها مقابلة بجزء من المعوض في الايجاب، مع وقوع قبول المعاوضة على ما عداها، لأنها تبقى على ملك المؤجر (١).
وبالجملة، فالقدر الممكن تعلق القبول به، هو ملك القابل من حين قبوله، ولذا كان حكم الشارع بعد الإجازة بترتب أحكام الملك قبلها وبعد العقد، مع كون الملك في هذا الزمان للمالك أمرا تعبديا يعبر عنه بالكشف الحكمي، ومثل هذا التعبد غير موجود في العرف حتى يتعلق رضى القابل بتملك ما كان ملكا لغيره، بمعنى ترتب أحكام الملك عليه تعبدا عرفيا قد أمضاه الشارع بحكم <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/5/1" target="_blank" title="المائدة: 1">﴿أوفوا بالعقود﴾</a> (2).
الثالث (3): عموم ما دل على وجوب نفوذ الوصية وحرمة تبديل الوصية (4) التي هي فعل الموصي وإيجابه، خرج منها: ما إذا لم يقبل الموصى له ولو بعد حين، وبقي الباقي. وهذا الاستدلال مبني على الفراغ عن إبطال القول الأخير، وإلا فمقتضى تلك العمومات وجوب الانفاذ وحرمة التبديل، خرج منها ما إذا رد الموصى له.
ويرد عليه - بعد إمكان دعوى أنها مسوقة لبيان حكم الوصية بعد الفراغ عن إحراز ما يعتبر في صحتها من شرائط الموصي، والموصى به، وله -:
صفحة ٣٧
أن الدليل القائم على اعتبار القبول، إما الاجماع على كونه عقدا، وإما عدم النظير لدخول المال قهرا في ملك الغير بالتمليك الاختياري. والأول - بعد الفحص عن مدرك المجمعين - كالثاني، ليس مفاده إلا كون القبول معتبرا في الانتقال لا كاشفا، ولازمه: عدم تمليك الموصى له قبل القبول.
الرابع (1): أنه لو لم ينقل من حين الموت - مع فرض القبول المتأخر - إلى الموصى له، لكان: إما باقيا على ملك الميت، وإما منتقلا إلى الوارث إذ كونه لغيرهما مفروغ العدم. لا سبيل إلى الأول، لأن الميت لا مال له إما عقلا، لأن الملك نسبته بين المال والشخص الحي، وإما لأن ظاهر العرف والشرع أن الميت يترك ماله لغيره، فلو كان قابلا للملك لم يصدق الترك ودعوى: كونه في حكم مال الميت بعد حاجة المال إلى وجود مالك حي، لا تجدي وأما كونه للوارث - فمع منافاته لظهور أدلة الإرث في تأخره عن الوصية - يدفعه: أن ظاهر أدلة الوصية تلقي الملك من الموصي لا من الوارث، مع أن خروجه عن ملك الوارث من دون اختياره عديم النظير.
هذا، ولكن الانصاف ضعف هذا الدليل في نظرنا، لامكان التزام كونه في حكم مال الميت، ويكني في عدم امتناعه ذهاب جماعة (2) إليه في حكم تركة الميت المديون، والتزام كونه في ملك الوارث مع خروجه عنه بالقبول.
وثبوت الإرث بعد الوصية كثبوته بعد الدين لا يراد به إلا استقراره،
صفحة ٣٨
ولذا لم يقل أحد بثبوت ما قابل الدين للغرماء.
وبالجملة، فهذا الدليل في محل التأمل، بل النظر، بل المنع.
والعمدة في هذا القول: الوجه الثاني، فإن تم الاطلاقات بعد تقييدها بالقدر المتيقن - وهو الوصية المقبولة في أحد الأزمنة الثلاثة - فهو (و) إلا فمقتضى الأصل أن (لا ينتقل بالموت منفردا عن القبول} لا منجزا ولا مراعى (على الأظهر) عند المصنف، وجماعة منهم العلامة في التحرير (1).
(و) اعلم أن إيجاب الوصية لما كان إنشاء معلقا على الموت، فيكون زمان تنجز التملك التقديري المنشأ ما بعد الموت، فعلى هذا (لو قبل قبل الوفاة جاز) عند الأكثر كما في المسالك (2)، لحصول المطابقة بين الايجاب والقبول، لرجوع القبول إلى الملك التقديري المنشأ بالايجاب، وقيل بعدم الجواز (3)، وظاهر الروضة (4) أنه المشهور، لأن الايجاب في الوصية ليس مجرد إنشاء التمليك التعليقي الذي هو مدلول لفظ الموصي، ولذا لو رد الموصى له بعد هذا الانشاء لم يؤثر في بطلانه على ما هو حكم باقي العقود، بل هو هذا المنشأ بعد وجود المعلق عليه، ولذا لو رد حينئذ بطل الايجاب.
والحاصل: أن [مقتضى] (5) عدم. تأثير الرد في إنشاء الموصي بضميمة قاعدة أن الرد يؤثر في إبطال الايجاب: أن مجرد قول الموصي الذي مدلوله
صفحة ٣٩
الانشاء التعليقي ليس إيجابا.
ودعوى: أن التزام كون الايجاب هو المعنى المنجز بعد الموت دون القول الدال على الانشاء التعليقي، ليس بأولى من التزام عدم تأثير الرد في هذا المقام في إبطال الايجاب، بل لأن الأول مخالف لمقتضى قاعدة العقود من كون الايجاب هو الانشاء المدلول عليه باللفظ - وهو الانشاء التعليقي دون المعنى الحاصل منه عند الموت، وهو التمليك المنجز - مدفوعة: بأن الالتزام الأول ليس مخالفا لقاعدة العقود، لأن الأمر الحاصل بعد الموت هو نفس المنشأ بالقول الأول، إلا أنه يغاير مدلول اللفظ بالاعتبار، فإن التملك على تقدير الموت المدلول [عليه] (1) بالانشاء هو الذي يتنجز عند الموت.
هذا، ولكن الانصاف أن قاعدة العقود تقتضي كون الايجاب هو نفس مدلول اللفظ، وهو الأمر المنجز في مرتبة نفسه أعني التمليك على تقدير لا نفس التمليك، لذا ذكروا أن التعليق في العقود ممنوع، إذ على ما ذكر لا تعليق في العقد رأسا، ويلزم تقدم القبول على الايجاب في العقود التعليقية.
ويؤيد ذلك: ما دل على أن إجازة الوارث مؤثرة حال الحياة، فلا مجوز له الرد بعد الموت (2) إذ لولا تمام - الايجاب حال الحياة لم ينفع إجازة الوارث حينئذ.
هذا كله مضافا إلى إطلاقات وجوب إنفاذ الوصية وحرمة تبديلها (3)، الشامل لصورة قبولها حال الحياة (و) إن كان وقوعه (بعد الوفاة آكد)
صفحة ٤٠
من حيث وقوعه بعد تنجز التمليك المعلق في الانشاء.
(وإن تأخر القبول عن الوفاة) فإن له ذلك (ما لم يرد) بعد الوفاة، (فإن رد في حياة الموصي جاز أن يقبل) بعد ذلك في حياة الموصي أو (بعد وفاته) ولو بمدة (إذ لا حكم لذلك الرد) السابق.
(فإن رد بعد الموت) فإن كان (قبل القبول بطلت) الوصية إجماعا فلا ينفع القبول، (وكذا لو رد بعد القبض وقبل القبول) إذ القض لا يغني عنه.
(ولو رد بعد الموت والقبول وقبل القبض، قيل) والقائل الشيخ في المبسوط (1)، والمحكي عن المجامع (2): أنها (تبطل)، لاعتبار القبض في أصل الملك كما فهمه بعض (3) من كلام الشيخ، أو في لزومه كما يظهر من صدر عبارة المبسوط وإن مثل لها أخيرا بالقبض في الوقف الذي اختار فيه كغيره اشتراط القبض في صحته.
وكيف كان، فلا دليل على اعتباره في شئ من الأمرين ليقيد إطلاق أدلة وجوب إنفاذ الوصية وحرمة تبديلها، (و) لذا (قيل) - والقائل المعظم (4) -: إنها (لا تبطل، وهو أشبه) بالقواعد، (أما لو قبل وقبض ثم رد لم تبطل، إجماعا) وإن ذكروا أن الوصية من العقود الجائزة، ومقتضاه جواز الفسخ، (لتحقق الملك و) ثبت (استقراره) بالأصل والعمومات
صفحة ٤١