إن الإنسان ليتطلع إلى عصر ذهبي تسود فيه الحرية والسلام والعدل والحب الأخوي، عصر لا تسل فيه أمة على أمة سيفا ولا يقاتل الإنسان فيه أخاه الإنسان، عصر يؤدي فيه تطور كل أمة وتقدمها إلى تطور الأمم الأخرى جميعا وتقدمها، عصر يعرف الناس فيه جميعا ربهم حق المعرفة ويغمر عقولهم العلم بباريهم كما تغمر المياه البحار.
قلت إننا متفقون جميعا على الغرض الأسمى من مجهود البشرية. ولكن هل نحن متفقون على السبل والوسائل التي تؤدي إلى تحقيق هذا الغرض؟ لا وربي. هنا تختلف الآراء وتتناقض وتتضارب، وهي آراء فطيرة غير ناضجة. ومن عجب أن كل رأي من هذه الآراء - على تناقضها وتضاربها - له أتباع يؤمنون به ويتحمسون له، ويعتنقونه بغير بحث أو تمحيص، ويتعصبون له أشد التعصب.
فمن الناس في الوقت الحاضر من يعتقد أن الطريق الذهبي إلى عالم خير من عالمنا هذا هو طريق الإصلاح الاقتصادي. ومن الناس من يعتقد أن أيسر السبل إلى المدينة الفاضلة والحياة المثلى هو الانتصار الحربي وسيادة دولة معينة على باقي الدول. وآخرون يؤمنون بالثورات الداخلية المسلحة وتسلط الطبقة الممتازة من الشعب على غيرها من الطبقات، وفرض إرادتها وآرائها على الناس أجمعين. وهؤلاء وأولئك جميعا تشغل أذهانهم حين يفكرون في الإصلاح الجماعة الإنسانية وطرق تنظيمها تنظيما شاملا واسعا، وينسون الفرد أو يتناسونه كأنه حجر في بناء شامخ، إذا استقل فقد قيمته، وإذا انضم إلى غيره كان جديرا بالتقدير والنظر. ولكن هناك طائفة أخرى من المصلحين تنظر إلى الموضوع من زاوية أخرى. هؤلاء يعتقدون أن الإصلاح الاجتماعي لا يتحقق إلا بإصلاح الأفراد الذين منهم يتألف المجتمع، ومن بين هؤلاء الذين ينحون في التفكير هذا النحو من يعلق آماله على التربية ويضع فيها كل ثقته، ومنهم من يؤمن بالتحليل النفسي كوسيلة لإصلاح الفرد، ومنهم من يعتنق مذهب السلوكيين ويرى فيه سبيل الإصلاح. وهناك طائفة من الناس لا ترى خيرا إلا في العودة إلى الدين وقوة اليقين، ولكن أفراد هذه الطائفة يختلفون فيما بينهم على الدين الذي يجب أن يعتنقه الإنسان.
ومهما يكن من شيء فالكل مجمع على أن الإنسان لا بد أن يرقى، ولا بد أن يرتفع إلى المثل الأعلى. ولا بد لنا لزيادة الإيضاح من أن نقول كلمة في هذا الإنسان المثالي الكامل الذي تتطلع إليه الأنظار ويصبو إليه مريدو الإصلاح. إن لكل عصر وكل طبقة مثلها الأعلى. فالطبقات الحاكمة في بلاد اليونان كانت تقدس الرجل الكريم النبيل عالي النفس، الرجل «العالم المهذب». وكانوا في الهند قديما - كما كان نبلاء العصور الوسطى في أوروبا - يقدسون «الفارس». والمثل الأعلى للرجل في القرن السابع عشر هو «الرجل الأمين». أما في القرن الثامن عشر «فالفيلسوف» هو مثل الإنسانية الأعلى. والقرن التاسع عشر يقدس الرجل الرزين «الموقر». وفي مستهل القرن العشرين آمن الناس بالرجل «الحر»، ثم تطور الرأي العام واتجه إلى عبادة «الزعيم المؤله» الذي تسير وراءه الجماعة سير الأغنام. أما الطبقات الوضيعة الفقيرة فقد كانت خلال العصور جميعا تحلم بالرجل الحر السعيد صحيح البدن الذي لا يناله من غيره ظلم أو اعتساف.
هذه مثل مختلفة متعددة، وهي فوق هذا مضطربة تدعو من يتدبرها إلى الحيرة والارتباك، فأيها نختار لأنفسنا في هذا العصر الحديث؟ لا أظن أن واحدا من هذه المثل يلائم حياتنا الحاضرة؛ لأن كلا منها كان ثمرة لظروف اجتماعية معينة تختلف عن الظروف التي تحيط بنا اليوم.
بيد أنه ينبغي لنا ألا ننسى أن هناك أفرادا من ذوي العقول الممتازة الجبارة استطاعوا في فترات مختلفة من التاريخ أن يتحرروا من ظروف الزمان والمكان، وألا يقيدوا أنفسهم بملابسات عصورهم وبلادهم. وقد رسم كل فرد من هؤلاء الأفراد للإنسانية مثلا أعلى يختلف عن المثل السائد في عصره. ومما هو جدير بالاعتبار والنظر أن الآراء التي نادى بها هؤلاء الرجال جد متشابهة؛ وذلك لأن أهداف الإنسانية هي بعينها في كل زمان ومكان، وقد استطاع هؤلاء المصلحون أن يدركوها بما لديهم من بصيرة نافذة ، وأن يخطوا لتنفيذها خططا متقاربة متشابهة. وقد أمكن لهؤلاء الأفذاذ أن يتحرروا من تقاليد زمانهم لأنهم بدءوا بأنفسهم فحرروا عقولهم من التحيز والهوى، واخترقوا ببصائرهم حجب الحياة المعاصرة، ونفذوا بها إلى الحقائق الأبدية العليا. والواقع أن كلا منا لديه بصيص من هذه البصيرة الوقادة، ولكنه لا يستطيع أن يفيد منها أو يستغلها إلا إذا ترفع عن التحيز لرأي بعينه أو عقيدة بذاتها. غير أنه قل من الناس، بل قل من الفلاسفة الحاذقين، من نجح في تحرير نفسه كل التحرر من سجن عصره وجو بلده الخانق. وربما كان أقرب الناس إلى التحرر العقلي جماعة المتصوفين ومؤسسو العقائد والأديان؛ أولئك الذين يجمعون بين الفضيلة ونفاذ البصيرة.
وقد أجمع هؤلاء الرجال الأحرار - على كر الأجيال - على الصفات التي ينبغي أن تتوفر في الفرد كي يصبح إنسانا مثاليا. إن الرجل الذي يكبل نفسه بتقاليد عصره قد يعجب بهذا المثل حينا وبذاك حينا آخر، ولكن أحرار الرجال في كل زمان ومكان لهم رأي واحد يعتنقونه ولسان واحد ينطقون به.
ومن العسير أن نجد كلمة واحدة تصف وصفا كاملا هذا الرجل المثالي كما يتصوره الفلاسفة الأحرار والمتصوفة وواضعو العقائد والأديان. وربما كانت خير كلمة تعبر عن مجموع صفات مثل هذا الرجل هي «المتحرر». الرجل المثالي هو الرجل المتحرر، المتحرر من أحاسيسه البدنية ومن شهواته، المتحرر من الولع بالنفوذ وحب الامتلاك، المتحرر من الغضب والبغضاء، المتحرر من العشق والهيام، المتحرر من حب الثراء وبعد الصيت والشغف بعلو المركز الاجتماعي، بل المتحرر من قيود العلم والفن وحب الإنسانية. أجل، المتحرر حتى من هذه الصفات التي نحسبها حسنة مرغوبة؛ لأنها جميعا صفات لا تشبع النفس المتعطشة إلى الخير المحض. ويرى الفلاسفة وواضعو الأديان أن التحرر من الذات ومن شئون الدنيا يؤدي إلى الاتصال بحقيقة عليا أعظم من الذات وأكثر منها أهمية، بل أعظم وأكثر أهمية من خير ما تهبه لنا هذه الدنيا. ولا نحب أن نفصل القول في هذه الحقيقة العليا في هذا الموضع من الكتاب. إنما نحب أن نشير إلى أن فكرة التحرر تقتضينا أن نعترف بوجود حقيقة روحانية عليا تكمن خلف مظاهر الدنيا جميعا وتهيمن على كل الوجود.
وقد يظن القارئ أن «المتحرر» يقف من الحياة موقفا سلبيا، لا يتحرك ولا يعمل، ولكن الواقع غير ذلك؛ إذ إن المرء إن أراد أن يتحرر كان من واجبه أن يتحلى بالفضائل جميعا، بل وأن يمارسها عملا. عليه أن يتصف بالتسامح؛ لأن الغضب والحقد يعوقان النفس عن أن تتصل بما هو أعلى من النفس وأرقى. وعليه كذلك أن يتصف بالشجاعة؛ لأن الخائف ينصرف إلى التفكير في سلامة البدن. والتحرر - فوق ذلك - يربي في المرء قوة الذكاء وعادة الكرم وعدم الاكتراث أو المبالاة. ومن ثم ترى أن التحرر يفرض على من يتحلى به أن يقف من هذه الدنيا موقفا إيجابيا، ينزل إلى ميدان الحياة ولا يحجم عن خوض معركتها.
والتحرر بهذا المعنى معروف منذ ثلاثة آلاف عام. فهو من صميم الهندوسية والبوذية، كما أن لاوتسو الفيلسوف الصيني عرفه وعبر عنه أحسن تعبير. وبشر به الرواقيون في اليونان. وليس إنجيل المسيح سوى إنجيل التحرر من أعراض هذه الدنيا الزائلة حتى يتسنى للمسيحي أن يتصل بربه وبارئه. وقد نادى الفلاسفة المسيحيون بضرورة التحرر، فقال جون تولز
صفحة غير معروفة