ومما يجدر ذكره أن في الأمزجة طرزا جديدة، كما أن هناك في الطب والملابس والمعتقدات وجسم المرأة مستحدثات جديدة؛ فكان الناس في القرن الثامن عشر مثلا يعجبون بالمزاج اللمفاوي - مزاج الرجل الحريص بطبعه، المفكر، الذي لا يهتز بسهولة. ثم أفسح فولتير المجال لروسو، وتحول الناس من الإعجاب بالحكمة الباردة إلى الإعجاب بالعاطفة الحارة. وفقد المزاج اللمفاوي نفوذه، وحل محله المزاج الحار - العاطفة القوية والدموع التي لا تجف. وبعد جيل من الزمان أخلى المزاج الحار السبيل لمزاج بيرن - وهو مزيج من حرارة العاطفة والاكتئاب، وخليط عجيب من المتناقضات، هو كالحرارة والرطوبة ممزوجتين بالبرودة والجفاف. ثم قامت محاولة جديدة أيام الحركة الأدبية الإبداعية ترمي إلى إحياء المزاج اللمفاوي. وعقب ذلك المزاج الصفراوي - مزاج الرجل المقحام الجريء في العمل.
ومن الخطأ أن نميز مزاجا على مزاج، إنما ينبغي أن نستغل الأمزجة جميعا؛ فمن حق الفرد أن يكون لمفاويا كما أن من حقه أن يكون بدينا. ولكنا لجهلنا وتعصبنا نحب أن نصوغ جميع الناس في قالب المزاج الحديث، فيصبحون جميعا مكتئبون - مثلا - كما نحبهم أن يكونوا جميعا ذوي قدود رشيقة هيفاء. ويبلغ بنا السخف أحيانا أن نتطلب من الناس مزاجا خاصا لا يتفق وتكوينهم الجثماني.
وكل أنواع التقسيم متفقة على أن الفرد لا ينتمي من جميع نواحيه إلى طراز واحد؛ فكل إنسان مزيج من عدة أمزجة، وقد يغلب عليه مزاج ما ولكنه لا يعدم بعض الصفات المميزة للأمزجة الأخرى، وإذا كان بالفرد ميل شديد نحو مزاج معين كان التفاهم بينه وبين غيره من أفراد الطرز الأخرى شاقا عسيرا.
وأستطيع هنا أن أضرب مثلا توضيحيا من تجربتي الخاصة. إن طبيعتي بوجه عام لمفاوية المزاج؛ ولذا فمن العسير علي أن أفهم عالم أولئك الذين تثور عواطفهم لأتفه الأسباب، وأنا لا أقف من الكتب العاطفية موقف المتعجب، بل موقف المتحير، ولا أعرف لماذا يهتز الناس في هياج شديد إذا أثرتهم إثارة طفيفة. قرأت مثلا ديوان بليك
Blake
فألفيته مفعما بتشبيهات مستمدة من الرعد والبرق والسحاب والعواصف لوصف آرائه ومشاعره العادية، فقلت لا بد أن تكون لهذا الشاعر عقلية خاصة أو مزاج خاص لا أدركه ولا أستطيع أن أبلغ كنهه، ولكني موقن في الوقت نفسه أني لو التقيت ببليك لوجدت بيني وبينه أرضا مشتركة نستطيع أن نقف عليها متفاهمين، ونرتبط فيها بعلاقات إنسانية قوية. لو لاقيته لعاملته بالرأفة والاحترام والتكريم والثقة، ولقابل معاملتي بمثلها. ومن هذا يتبين أننا نستطيع أن نجمع بين الأفراد المختلفين في الطبيعة والمزاج في ميدان الأخلاق العملية. إن الهوة التي تفصل بين الأفراد المختلفين في المزاج وفي المقدرة لا تغرق الشخصية بأسرها، ومن واجب المصلح الكبير أن ينظم بنيان المجتمع بحيث يضيق الفجوة التي تفصل بين الأفراد المختلفين في المزاج فيسهل بين الناس التفاهم. ومن واجب المربين ورجال الدين أن يقنعوا الأفراد أن التفاهم أمر مستحب، وأن يعلموهم حسن النية في المعاملة.
ويتعسر التفاهم بين الأفراد في المجتمعات التي يبلغ فيها عدم المساواة الاقتصادية والتربوية مبلغا كبيرا، وكذلك في المجتمعات التي يسود فيها النظام الدكتاتوري. ويسهل التفاهم في المجتمعات التي يسود فيها نظام الحكم الذاتي، والتي تتحمل فيها التبعات الجماعات دون الحكومات، وحيث تقل الفروق الاقتصادية والتربوية؛ ولذا فإن النظام الإقطاعي والرأسمالي والدكتاتوري مما يعمل على سوء التفاهم بين الأفراد والطبقات؛ ففي ظل هذه النظم تقوى الفروق الطبيعية، وتتولد فروق جديدة مصطنعة. وأكثر البيئات ملاءمة لتحقيق المساواة بيئة يملك فيها وسائل الإنتاج أفراد المجتمع جميعا متعاونين، والسلطة فيها لا مركزية، والمجتمع مقسم إلى جماعات صغيرة بينها روابط شديدة، تحكم كل منها نفسها حكما مستقلا محملا بالتبعات.
إن المساواة في المعاملة - أو بعبارة أخرى تبادل السلوك الحسن - هي النوع الوحيد من المساواة الذي له وجود حقيقي. ولكن هذا الضرب من المساواة لا يتم ولا يكمل إلا إذا توفرت الفرص للأفراد المختلفين في النزعة النفسية وفي العمل والمهنة ليجتمعوا فترات طويلة بغير كلفة. ومن واجب المصلح الاجتماعي أن ينظم بناء المجتمع بحيث يمكن للأفراد حرية الاتصال ويهيئ لهم فرصته. وتحويل الجماعة من النظام الاستبدادي إلى نظام التعاون يتطلب منا أن نحطم الحواجز التي تفصل طبقة عن أخرى ، والتي تجعل من العسير على الأفراد في الوقت الحاضر أن يجتمعوا كما يشاءون. وهناك طرق متنوعة لإيجاد الصلة بين الأفراد، وقد رسم
Dr. A. E. Morgan
خطة تعليمية لكلية أنطاكية في أوهيو لهذا الغرض. وسأشرح هذه الخطة في الفصل الذي سأخصصه لنظام التربية. ويمكن تطبيق خطة مورجان على المجتمع والاستفادة منها في دائرة أوسع من المدرسة.
صفحة غير معروفة