إن العقل الإنساني يميل بطبعه ميلا شديدا إلى أن يجمع بين الشتيت المختلف في وحدة مؤتلفة. إن ما تقع عليه العين يبدو لحواسنا لأول وهلة متعددا متنوعا. غير أن العقل البشري الذي يتعطش دائما لتفسير الغامض وتوضيحه يحاول أن يجعل من الاختلاف ائتلافا. والفكرة التي ترمي إلى توحيد الأشتات، أو التي تصمد لتقلبات الزمان تلقى في نفوسنا رواجا. إن النفس لترتاح إلى الفكرة التي تخضع المتنوعات التي لا ترتبط في الظاهر برباط معقول إلى وحدة معقولة. وإلى هذه الحقيقة السيكولوجية الأساسية ترجع نشأة العلم والفلسفة وعلوم الدين. إننا إذا لم نحاول دائما أن نوجد من الاختلاف ائتلافا تعسر علينا التفكير كل العسر، وبات العالم فوضى لا نظام له، وأضحى سلسلة مفككة من الظواهر التي لا يمسكها رباط.
غير أنا كثيرا ما نغالي حينما نحاول أن نجمع الأشتات في وحدة مؤتلفة. وأكثر الناس ميلا إلى المبالغة في ذلك المفكرون الذين يعملون في ميادين لا تخضع لقواعد العلوم الطبيعية المنظمة. إن علماء الطبيعة يعترفون بأن الكون لا تزال به بقية من الظواهر المختلفة التي لم يستطع العقل حتى الآن أن يكتشف ما بينها من روابط، ولم يتمكن بعد من إخضاعها لوحدة مؤتلفة أو لحكم العقل والمنطق. أما في العلوم غير المنظمة، فالأمر ليس كذلك؛ إذ الاتجاه الأول فيها هو التوحيد وإيجاد الفكرة العامة. ويترتب على ذلك أن يلجأ الباحثون في هذه العلوم إلى المبالغة في التبسيط.
ومن ثم ترى أن الإنسان ينزع أحيانا نحو إدراك الوحدة بين الظواهر المختلفة، كما أنه في أحيان أخرى يرى ما بين هذه الظواهر من خلاف؛ فهو مثلا يرى أن الطباشير والجبن كلاهما مركب من إلكترونات، وكلاهما مظهر مادي وهمي للحقيقة المطلقة الخفية. ومثل هذه النظرة التي ترى من وراء الاختلاف ائتلافا قد تشبع رغبتنا في حب تفسير الظواهر. غير أن لنا جسوما كما أن لنا عقولا، وهذه الجسوم تجوع فتشتهي الجبن ولا تشتهي الطباشير، وحينئذ ندرك ما بينهما من خلاف. وما دمنا حيوانات تجوع وتعطش فلا مناص لنا من أن نعرف أن هناك فرقا ما بين هو نافع للصحة وما هو ضار بها، وقد يكون إخضاع هذا وذاك لوحدة مؤتلفة صحيحا عند الدراسة، ولكنه في غرفة الطعام لا يجدي نفعا.
إن زيادة تبسيط الأمور فيما يشبه ظاهرة الطباشير والجبن سرعان ما تؤدي إلى نتائج خطرة قاتلة؛ ولذا فإننا قلما نلجأ إلى مثل هذه المبالغة في التبسيط. ولكن هناك ظواهر أخرى لا تعود زيادة التبسيط فيها علينا بضرر، وليس الخطأ فيها جسيما أو مباشرا، بل إن مرتكبي الخطأ أنفسهم لا يحسون بالضرر؛ وذلك لأن الضرر الناشئ لا يحرمهم من خير هم بالفعل مستمتعون به، وإنما يمنع عنهم خيرا كانوا ينالونه لولا ارتكاب هذا الخطأ. خذ مثلا لذلك هذا التبسيط الزائد للحقائق الذي شاع في حين من الأحيان والذي كان يجعل الله مسئولا عن كل ظاهرة لا يمكننا أن نفهمها فهما كاملا. إن فريقا من الناس يغض الطرف عن الأسباب الثانوية ويرد كل شيء إلى الخالق. وهذا التبسيط الشديد في التعليل، وهذا التأليف الشامل بين المختلفات لا ينجم عنه أثر سيئ مباشر. غير أن أولئك الذين يرون سببا واحدا وراء جميع المظاهر لن يكونوا من رجال العلم الباحثين، ولكنهم لا يعرفون ما هو العلم الحق؛ ولذا فهم لا يحسون بأنهم يفقدون شيئا.
إن رد المظاهر جميعا إلى سبب واحد قد بات - في بلاد الغرب على الأقل - أمرا باليا عتيقا ولم يعد من الآراء الحديثة. إن الغربيين لا يحاولون اليوم أن يردوا كل شيء إلى الله ثم يقفون عند هذا الحد من التعليل والتفسير. إنما هم يحاولون أن يخضعوا المختلفات المعقدة التي تحيط بهم إلى نظريات جديدة. فهم مثلا حين يبحثون في الجماعة أو في الأفراد لا يقولون هذه هي إرادة الله، وبذا يبسطون كل أمر، وإنما هم يردون المظاهر إلى أسباب اقتصادية أو جنسية أو إلى عقدة من عقد النقص. وهذه النظريات هي كذلك تبسيط زائد للأمور، والضرر منها ليس كذلك مباشرا أو واضحا. إنما العقوبة التي يقاسيها الغربيون بسبب انتحائهم هذه الناحية من التفكير هي عجزهم عن تحقيق مثلهم العليا وعن الفرار من الحمأة الاجتماعية السيكولوجية التي يتمرغون فيها. إننا لن ولا نستطيع أن نعالج مشاكلنا الإنسانية علاجا نافعا حتى نتبع سبيل العلماء الطبيعيين، ونخفف من حدة رغبتنا في التبسيط العقلي، وذلك بأن نعترف بأن الأشياء والحوادث ما زالت فيها بقية معينة لا تخضع لتعليل العقل أو للتوحيد والائتلاف. إننا لن نستطيع أن نحول عصرنا هذا من عصر حديدي إلى آخر ذهبي حتى نتخلى عن أطماعنا في إيجاد سبب واحد لجميع الأمراض التي نشكو، وحتى نؤمن بوجود أسباب كثيرة تعمل كلها في آن واحد، وحتى نعتقد في وجود علاقات معقدة وفي تعداد المؤثرات والآثار.
وقد رأينا فيما سلف أن هناك آراء كثيرة متنوعة يتحمس لها معتنقوها أشد الحماسة ويتعصبون لها أشد التعصب، وهي آراء تتعلق بخير السبل التي تؤدي بنا إلى الهدف المقصود. ومن الخير أن نبحث هذه الآراء جميعا؛ إذ إننا إذا رفعنا إلى حد التقديس واحدا منها ارتكبنا خطأ شدة التبسيط الذي أشرنا إليه.
وفي الصفحات المقبلة سأتعرض لبعض الوسائل التي يجب أن تستخدم والتي يجب أن تستخدم كلها في آن واحد لو كنا نريد أن نحقق الغاية التي رسمها المصلحون والفلاسفة للبشر، وتلك الغاية هي أن نعيش في جماعة حرة عادلة تصلح لأن يكون الرجل المتحرر أو المرأة المتحررة عضوا فيها، وهي في الوقت نفسه جماعة لا يستطيع تنظيمها غير المتحررين من الرجال والنساء.
الفصل الثالث
الإصلاح الاجتماعي الشامل
هناك فريق من المفكرين لهم آراء طريفة جريئة نسميهم - أو يسمون أنفسهم - «المجددين» يرى هؤلاء المفكرون أن الغايات التي نصبو إليها جميعا يمكن أن تتحقق بمعالجة بناء المجتمع. إنهم لا يبشرون «بتغيير نفوس» الأفراد، وإنما ينادون بإنجاز إصلاح شامل معين، في السياسة وفي الاقتصاد بنوع خاص.
صفحة غير معروفة