وما هو إلا ذلك الفيض الذي يغمر كل جمهور التأم لغرض نبيل. فيدفق في كل قلب وينعش منه القوى، ويحمله على تقدير ممكناته وتقدير الحياة. فيعود القلب جذلا كأنه وجد نفسه فهزته عوامل العطف والصلاح والنشاط وحب السعي لغاية نافعة.
وإني لشاكرة لهذه الجمعية الكريمة دعوتها. ولكنت أشكرها الشكر ذاته لو هي دعتني أصغي إلى إحداكن بدلا من التحدث إليكن. فإن كل امرأة مخلصة يسمع الشرق صوتها في هذه الأيام إنما تترجم عن بعض ما يخامر جميع الشرقيات. ويزيد في سروري أن يضم هذا الاجتماع طائفتين من الطوائف التي تعلق عليها البلاد أعز آمالها؛ أعني طائفة المعلمات وطائفة المتعلمات.
تساءل يوما لورد بايرن الذي احتفل أخيرا بيوبيله المئوي: «ما هو الشعر؟» ثم أجاب: «هو الشعور بعالم مضى وعالم مقبل.»
وهذه الكلمة من خير ما يعرف به طور التربية والتعليم. أي إن المنحنى على النفوس الفتية يعالج إنماءها وصقلها لا بد له أن يسبر غور الماضي ليكون على بصيرة مما يمكنه أن يعد للمستقبل من الشخصيات الصالحة.
هي هذه الفكرة - وقد علمت أن هذا الاجتماع سيضم الناظرات والمعلمات والطالبات من مدارس الحكومة - التي ساقتني إلى الكلام عن وردة اليازجي ، وهي من أشهر النساء اللائي عرفهن تاريخ الآداب العربية ومن أذكاهن وأفضلهن.
الفصل الأول
لمحة في حياتها
يخيل إلي أن آلهة اليقظة والنشاط شاءت أن تتفقد الشرق حوالي منتصف القرن الماضي، فنشأت فئة من فضليات النساء على مقربة من الرجال الذين قدر لهم أن يكونوا عاملين في صرح الشرق الجديد. فولدت عائشة عصمت تيمور في مصر سنة 1840م، وولدت في تلك الأعوام بسوريا وردة الترك، ووردة كبا، ولبيبة صدقة وغيرهن. وولدت زينب فواز صاحبة «الرسائل الزينبية» و«الدر المنثور»، في صيدا سنة 1860م. وولدت في العام نفسه فاطمة علية ابنة المؤرخ التركي جودت باشا. وهي رغم كونها كتبت بالتركية فإن لها الحق أن تذكر بين أديبات العرب؛ لأنها عرفت لغتهن، وانتشر صيتها في أقطارهن، وعاشت طويلا في بلادهن التي جاءتها طفلة في عامها الثالث يوم تولى والدها ولاية حلب بعد أن كان وزيرا للمالية في الدولة العثمانية. ويوم أن ولدت زينب فواز وفاطمة علية، أي سنة 1860م، كانت وردة اليازجي في الثانية والعشرين من عمرها. لأنها ولدت سنة 1838م، هي ومريانا مراش الشاعرة الحلبية في عام واحد.
تذكرن، أيتها السيدات، أن ذوي المواهب البارزة ينقسمون إلى فريقين أولين، ينقسم كل منهما بعدئذ إلى أجزاء صغيرة شتى؛ وهما أولا: الفريق الذي يشذ عن محيطه ويسبق جيله بإدراكه وفطنته وابتكاره. وثانيا: الفريق الذي هو ابن محيطه وابن يومه، تتلخص عنده مدركات جماعته وعواطفها فيحدثهم عنها بلهجة بليغة قريبة المنال.
والفريق الأول يكثر مناهضوه في الغالب فيظل منفيا في قومه، غريبا في جماعته. إن هم أنالوه مرة ما لا يضنون به وبأكثر منه على من هو دونه، فإنهم يكفرون عن ذلك بتعذيبه بعدئذ ووضع العراقيل في سبيله ما استطاعوا. ولا ينفك الحسد والعجز يهاجمانه بالدسائس والوشايات والتحريف والانتقاص، غير مغتفرين له ما تفرد به. قلائل هم أبناء هذا الفريق. ولكنهم رسل الإلهام.
صفحة غير معروفة