ومن غير المستغرب أن الموقف الليبرالي للدروز تجاه الإسلام قد أثار حفيظة رجال الدين الأصوليين. ففي القرن الرابع عشر، عندما كانت الأراضي العربية محاصرة بالأعداء من جميع الجوانب - الصليبيون في الغرب والمغول في الشرق - أراد العالم ابن تيمية استخدام العنف لسحق كل الأفكار «المنحرفة». وقد كان محافظا جدا لدرجة أنه (يقال) لم يأكل البطيخ أبدا لأنه لم يكن لديه دليل على أن النبي أو صحابته قد فعلوا ذلك. وفعل شيء لم يفعلوه يمكن أن يقود إلى خطر «الابتداع»، الذي اعتبره العلماء المحافظون أمرا خطيرا. لا عجب في أن ابن تيمية كان عدوا لدودا للدروز. وأصدر فتوى صارمة بحق كل من الدروز والعلويين، واصفا إياهم ب «الكافرين المضللين». فلم يكن يجوز الأكل من طعامهم، ويجوز استعباد نسائهم، والاستيلاء على أموالهم، ورفض توبتهم، وقتل علمائهم، ومقاطعة جنازاتهم: «يجب قتلهم أينما وجدوا، ولعنهم على النحو المبين». أعقب ذلك مرحلة من الاضطهاد أجبر فيها الدروز على الامتثال ظاهريا للإسلام التقليدي. لكن في نهاية المطاف، رضخ أسيادهم، الذين كانوا في ذلك الوقت من العثمانيين، ومنحوهم حكما ذاتيا وحرية العبادة (على أرض الواقع).
تساءلت: ماذا عن اليوم؟ ما المواقف التي واجهها الدروز مع المسلمين الذين لم يشاركوهم رؤيتهم الباطنية؟ في حانة عصرية في وسط بيروت، التقيت بامرأة توفي والدها وهو يقاتل في الحرب الأهلية بوصفه عضوا في ميليشيا الدروز. وصلت في سيارة بورش صفراء. وكانت الحانة توحي بأنها مكان سيئ السمعة، ولكن في الواقع كان شباب بيروت الأثرياء يترددون عليها كثيرا. أخبرتني عندما جلسنا على كرسيين باهتين: «الأمر كله يتعلق بالسياسة. فعندما ينحاز وليد جنبلاط للسنة، يصبح السنة ودودين، وعندما ينحاز للشيعة، فإنهم جميعا يقولون إن الدروز لا يمكن الوثوق بهم.» لقد أفسحت تقلبات وتحولات الحرب الأهلية الطريق أمام مجموعة من التحالفات السياسية الأقل دموية، ولكنها تتغير بالقدر ذاته.
كانت قد واجهت العديد من الاتهامات الشنيعة في المدرسة؛ على سبيل المثال، أن الدروز يمارسون طقوس جنس جماعي سنوية، أو أنهم يعبدون عجلا ذهبيا مخبأ داخل صندوق. من الشائع أن توجه هذه المزاعم ضد جميع الأقليات في الشرق الأوسط. فالادعاء الأول يوجه للدروز، والسامريين، والعلويين، والإيزيديين. والثاني يوجه للدروز والسامريين. وتاريخيا وجه كلا الاتهامين إلى المسيحيين أيضا، ووجه المسيحيون نسخة من الاتهامات ذاتها للمسلمين. والسبب الكامن وراء هذه العادة غير واضح؛ فهو ليس مجرد تعمد للأذى، ولكن ربما أحد عناصر الخيال الشهواني، وربما، أيضا، ذكرى من بقايا الماضي عن طوائف - حركة زرادشتية منشقة، مجموعات صوفية مختلفة من القرن التاسع - كانت بالفعل تشجع العلاقات الجنسية دون التقيد بالزواج. ربما يكون السبب الأكبر لاتهام الدروز بالفجور الجنسي هو أنهم سمحوا للرجال والنساء بالصلاة معا، وقدموا للمرأة شيئا يقترب من المساواة. (كان الفيثاغوريون أيضا معروفين بأنهم كانوا يسمحون بمشاركة أسرارهم مع النساء وكذلك الرجال.) •••
للكشف عن المزيد من العقيدة الدرزية؛ كنت ذاهبا لزيارة معقلهم، في جبال الشوف في جنوب لبنان. تعتبر كل رحلة في لبنان تعليما دينيا؛ لأن أديان البلد المختلفة تنحو جميعها إلى الإعلان عن نفسها. يمكن للمرء أن يتجه شمالا على طريق ساحلي ضخم، غالبا ما يكون مكتظا بالسيارات، ويمر أمام الكازينوهات والمتاجر الكبرى وصولا إلى تمثال ضخم للمسيح يستقبلك وهو باسط ذراعيه؛ ثم ينطلق صاعدا الجبال، إلى قرى عامرة بتماثيل مريم العذراء، وكروم العنب، والأسماء الآرامية، على حواف الصدوع المذهلة. وبالاتجاه جنوبا من بيروت، يسافر المرء عبر ضواح مزدحمة مزينة بملصقات زعيم حزب الله، حسن نصر الله. بعد مدينتي صور وصيدا الآخذتين في التوسع على نحو غير منظم، يهبط المرء إلى المساحات الرعوية المفتوحة لمعقل الشيعة؛ وعند دخول القرى هناك، قد تستقبلني صورة قبضة تحطم رأس جندي إسرائيلي، وفي سجن الخيام سيئ السمعة، توجد قائمة بمن ماتوا أثناء مدة اعتقالهم خلال الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. هذه الرموز السياسية لا تدع مجالا للشك في الهوية الدينية لسكان المنطقة.
ومع ذلك، فالطريق إلى الشرق مزين بطريقة أكثر خفاء. ففي رحلة استغرقت ساعة مليئة بالتعرجات، والسرعة العالية، وصرير الفرامل بسيارة أرسلها وليد جنبلاط أخذتني إلى جبال الشوف، حيث تتجمع الطائفة الدرزية عادة وحيث توجد قلعة جنبلاط، وفي القرى التي مررنا بها لم أر أي لافتة دينية على الإطلاق. اشترى حسن، السائق، قطعة من «الكنافة»، وهي كعكة حلوة مصنوعة من الزيت والجبن، من متجر توقفنا عنده في طريقنا. أثناء ما كنت أتناولها، نظرت إلى بساتين البرتقال، والجبال الشاهقة، ووديان الشوف العميقة. نمت هنا الطماطم، والزيتون، والموز، والليمون. وأعطت الزهور الوردية التي تشبه الجرس لونا إضافيا للمشهد. وأدى التوسع في أعمال البناء إلى انتشار فيلات خرسانية ذات أسقف حمراء، مغطاة بطبقة رقيقة من الحجر الجيري ذي اللون الأبيض المائل للصفرة على سفوح التلال.
بعيدا بالأسفل، كان البحر يظهر أحيانا عبر التلال المحيطة. وكان المشهد صورة رمزية للبنان، إضافة إلى كونه واقعيا. ارتأيت أن البحر والجبال معا قد جعلا لبنان على ما هو عليه؛ مزيج مسكر من الحداثة الليبرالية الدولية محدودة التفكير والقبلية العنيدة، والتمتع بالحياة والتدين المتعصب. جاء القديسون والقديسات إلى الجبال اللبنانية في أوائل الحقبة المسيحية ليعيشوا حياة عزلة دعمها القرويون المحليون بتبرعاتهم من الطعام. وبعد دخول الإسلام، تظهر روايات العصور الوسطى أن القرى المسيحية رحبت بالمثل بالنساك المسلمين. وعندما توجه دعاة الدروز الأوائل إلى جبال الشوف في أعقاب هجرتهم من مصر، واعظين غيرهم بإنكار الذات وممارسين له، كانوا يتبعون الخطى المتكررة نفسها. ويقول أحد النصوص الدرزية الأولى: «اذهبوا إلى من يعيشون في ظل جبل حرمون. فإنهم على استعداد لاتباعكم.»
لم يكن الدعاة ليجدوا القرويين المسيحيين فقط ولكن أيضا آخر ما تبقى من طائفة وثنية. ففي الوقت الذي وصل فيه مبشرو الدروز الأوائل، كان لدى الحرانيين معبد في بعلبك في لبنان؛ على بعد ستين ميلا فقط شمال جبال الشوف، حيث كنت الآن. ربما كان بعض الحرانيين من بين أولئك الذين تبنوا الفلسفة الدرزية، ووجدوا أنها سهلت قبول الإسلام؛ لأنها شاركتهم إيمانهم بتناسخ الأرواح وسمحت لهم بمواصلة تبجيل فيثاغورس وشخصيات أخرى من التراث الإغريقي القديم تجاهلتها المسيحية والإسلام.
لاحظت أسماء متاجر غريبة في إحدى المدن الدرزية؛ على سبيل المثال: صيدلية الحكمة ومستشفى التنوير. وفي مغسلة ملابس، رأيت قصيدة دينية درزية معلقة مستهلها: «يا خالق الكون ...» كتبها الحلاوي، الشيخ الموقر الذي عرفت اسمه في قلعة الأمير طلال أرسلان. ورسمت فوق مدخل مبنى، بسيط بشكل مختلف، نجمة خماسية.
ميزت صفة أخرى القرى الدرزية عن غيرها من القرى؛ وهي أنه كان يوجد رجال منتشرون في كل مكان على نحو غريب يرتدون سترات عمل بنية اللون، مع قبعات صوفية بيضاء على رءوسهم الحليقة، ويعملون في المنازل والحدائق ومحطات الوقود. الشعر الوحيد الذي كان يمتلكه كل منهم كان شاربا أشعث خشنا. سألت حسنا عنهم. فقال: «شيوخ.» كان هؤلاء «عقال»؛ لكنهم كانوا أصغر مكانة من أولئك الذين رأيتهم عندما زرت دار الطائفة. يعيش الناس العاديون من الدروز كما يشاءون، لكن رجال الدين الدروز يلتزمون بفلسفة إنكار الذات. ويشجع الشيوخ الذكور على الاعتماد في العيش على الأرض، ومن الأقوم بشكل خاص ألا يأكلوا إلا الطعام الذي يزرعونه بأنفسهم. إنهم يعيشون حياة متقشفة، ويصلون ويتأملون بانتظام، ويصومون في رمضان، ويتجنبون أكل لحم الخنزير وشرب الكحوليات، ولا ينخرطون في أي نوع من الإسراف (على سبيل المثال، عند تقديم كوب من الماء لشيخ، لا يفترض أن يشربه كله، لكنه يرتشف منه فقط دون أن يروي عطشه). يشكل رجال الدين الدروز مجموعة كبيرة نسبيا: فربما خمسة عشر بالمائة من جميع الدروز، رجالا ونساء، من الشيوخ. أخبرني حسن أن الانضمام إلى رجال الدين لم يكن عملا معقدا: فالشخص يتقدم بطلب للقبول، وعلى مدى حقبة من الزمن يقيم مستوى التزامه وقدرته على فهم الأمور الدينية.
كانت زوجة حسن من شيخات الدروز. ومثلما يحرث الشيوخ الأرض، كانت تعمل هي وشيخات أخريات في التطريز والحرف المنزلية الأخرى التي أتاحت لهن كسب الدخل دون الخروج إلى العالم. وإذا خرجت زوجة حسن من منزلها، فسترتدي وشاحا أبيض تغطي به رأسها ونصف وجهها، مثل النساء اللواتي كنت قد رأيتهن في دار الطائفة. لم يكن حسن رجلا كثير الكلام، لكنه كان قد بدأ في التحدث بحرية أكبر. لذلك سألته: ما الأماكن التي زارها في لبنان؟ «أذهب إلى بيروت، ثم أعود إلى هنا». لم يكن قد غادر المناطق الدرزية قط؛ وخمنت أن عالمه كله لا يمكن أن يتجاوز الخمسة عشر ميلا مربعا على كلا الجانبين. وتوقعت أنه كان مقاتلا في الحرب الأهلية.
صفحة غير معروفة