في نحو سنة 240 غادر ماني الأهوار والمجتمع الذي نشأ فيه وسافر شرقا إلى عاصمة الإمبراطورية الفرثية. كان شخصية مميزة بمعطفه المتعدد الألوان، وبنطاله المقلم، وحذائه العالي الرقبة. وبمساعدة الروابط الأرستقراطية لعائلته والموقف العام للفرثيين تجاه الدين، القائم على عدم التدخل، كاد ينجح في أن يتبنى الإمبراطور قضيته؛ لكنه أعدم بسبب جهوده. ومع ذلك، استمرت ديانته في الانتشار. وعندما اتجه أتباعه شرقا من إيران، اعتمدوا على الرسومات البوذية لشرح رسالتهم. وصور ماني على أنه «بوذا النور». وأقيمت مملكة مانوية وسط الإيغور في آسيا الوسطى. وفي القرون اللاحقة، ازداد عدد المانويين في الصين، حيث اشتهروا برفضهم أكل اللحوم. وكانت عبارة «عبدة الشيطان النباتيين» هي الطريقة التي وصفتهم بها السلطات في مرسوم سنة 1141. وأدى الاضطهاد الرسمي إلى تشرذم أعدادهم، لكن ربما ظلوا باقين في جنوب الصين حتى مطلع القرن العشرين. في الواقع، يبدو أن ماني لا يزال يعبد، بمحض الصدفة، في مكان واحد في الصين اليوم: ففي معبد في شرق الصين، يعود تمثال بوذا ذو اللحية والشعر الأملس إلى الوقت الذي بنى فيه المانويون المعبد؛ والأرجح أنه كان في الأصل تمثالا لماني.
في الغرب، كان تبجيل يسوع من تعاليم المانوية وكانت منافسا جادا للمسيحية المبكرة. وكاد مانوي يدعى سيباستيانوس أن يصبح إمبراطورا لروما في منتصف القرن الرابع، ولو كان ذلك قد حدث، لكان تاريخ العالم سيختلف تماما. بدلا من ذلك، اختفت المانوية إلى حد كبير في أراضي الإمبراطورية، حيث أصبحت المسيحية دين الدولة في روما، وبدأت السلطات الرومانية في قمع العقائد المنافسة. صمدت المانوية وقتا أطول بين المسلمين، وتولى المانويون مناصب مركزية في الحكومة، حتى قرر الخليفة المهدي في القرن الثامن أن أتباعها أصبحوا أقوياء أكثر من اللازم، وصلب أعدادا كبيرة منهم. وعرف العالم المسلم ابن النديم، الذي ترك رواية حياة ماني التي يستند إليها ما ورد أعلاه، بعض المانويين في بغداد في القرن العاشر، لكن لا يبدو أنهم عاشوا أكثر من ذلك بكثير في ظل الحكم الإسلامي.
ومع ذلك، تركت المانوية أثرا ممتدا في الحضارة الأوروبية . إذ توجد بعض الأدلة على أن المسيحيين شعروا بالحاجة إلى محاكاة التقشف غير المسبوق لرجال ونساء ماني الورعين. واستلهاما من اعتقادهم أن الشر كان يتخلل المادة وأنها كانت سجنا للروح، حاولت النخبة المانوية تثبيط كل الدوافع الجسدية، وحذا حذوهم النساك المسيحيون، فحرموا أنفسهم من النوم، وأكلوا العشب والفاكهة فقط، وخصوا أنفسهم في بعض الأحيان. وكانت الرهبنة المسيحية قوية بوجه خاص في مصر، حيث كانت أديرة مانوية بالفعل قد أنشئت. وكان القديس أغسطينوس، الذي كان مؤمنا إيمانا قويا بالخطيئة الأصلية ومدافعا عن العفة، مانويا وشعر بالحاجة إلى مقاومة دعوتها. باختصار، قد لا يزال الزهد والرهبنة في المسيحية الحديثة مدينين لماني.
أما المندائيون فليسوا مانويين ولا مغتسلة. وعلى عكس هاتين المجموعتين، فإنهم يرفضون المسيح ويعتقدون أن الزواج وإنجاب الأطفال واجبات أخلاقية. لكن من نواح أخرى، لديهم العديد من الأشياء المشتركة مع المانويين. فهم يرفضون إبراهيم ويؤمنون أن الجسد سجن للروح. ويؤمنون بملاك من نور، هو هيبل زيوا، يصارع الظلام دائما. ويعتقد المندائيون أنهم شرارات من النور الكوني التي انفصلت عنه وأصبحت محاصرة في وطن مادي. وعندما تتحرر بالموت من سجونها الجسدية، يمكن لشرارات الضوء هذه أن ترتقي مرة أخرى إلى النور العظيم الذي أتت منه يوما ما. لذلك في الجنازات، قد يخاطب الكاهن المندائي روح رجل ميت على النحو التالي: «لقد تركت وراءك الفساد والجسد النتن الذي وجدت نفسك فيه، مسكن الأشرار، المكان الذي كله خطايا، عالم الظلام، والكراهية والحسد، والفتنة، المسكن الذي تعيش فيه الكواكب، جالبة الأحزان والأسقام.» ويعتقد المندائيون أن الطريقة التي يأكل بها الكاهن وجبة مقدسة في جنازة عضو متوفى من المؤمنين بعقيدتهم يمكن أن تحدث فرقا في مصير ذلك الشخص في الحياة الآخرة. هذه كلها أفكار وممارسات كانت مألوفة لأتباع الديانة العراقية الأخرى، المانوية. لذلك فإن المندائيين حلقة وصل ليس مع تاريخ الشرق الأوسط القديم فحسب، وإنما أيضا مع تاريخ المسيحية. •••
من المرجح أن عدد المندائيين أقل من مائة ألف في العالم كله، وحتى سنة 2003 كان معظمهم يعيش في العراق. ليس كلهم متدينين، كما اكتشفت عندما التقيت للمرة الثانية بأحد المندائيين، هذه المرة في مقهى في مانهاتن، سنة 2009. كانت نادية قطان في زيارة للولايات المتحدة قادمة من بريطانيا، التي منحتها حق اللجوء. وعلى الرغم من أنها قد غادرت العراق، بقيت، على حد تعبيرها، «عراقية متشددة. فنحن أناس عمليون، ولسنا مهتمين بالإبهار. وأنا عاطفية وانفعالية، ولست مثل الأوروبيين.» وبسبب نشأتها في عائلة يسارية في ضواحي بغداد، رأت نادية نفسها عراقية أولا ومندائية ثانيا. وكان لديها أصدقاء من ديانات مختلفة كثيرة، ولم يكن والداها شديدي الالتزام. تابعت قائلة: «لم يعلماني شيئا عن الدين، فقط القواعد الأخلاقية: ألا أكذب، وألا أسرق، وأن أتذكر دائما أنني امرأة.»
لم تكن الكتب المندائية المقدسة متاحة لنادية لتقرأها، حيث كان الكهان يحتفظون بها في معبد يسمى «مندي». ولم تكن عائلتها تصلي، وفي بيتهم في بغداد، الذي وصفته لي، كان من اللازم أن يتمتع المرء بعين ثاقبة ليلاحظ أي شيء يميزهم عن غيرهم من عائلات الطبقة الوسطى العلمانية العراقية. كان ما تلاحظه العين لأول وهلة هو غياب الأشياء، وليس وجودها. فالجدران لم تكن مزينة بآيات قرآنية، ولا بأي صورة للكعبة المشرفة في مكة مع آلاف الحجاج الذين يرتدون ملابس بيضاء وهم يطوفون بها، ولا بصورة مرسومة للإمام الحسين (التي يميل الشيعة إلى امتلاكها). وبنظرة فاحصة، قد يرى الزائر المميز المزيد من الأدلة على المندائية. إذ كانت صورة متوارية عن الأنظار «للدرفش» معلقة على حائط غرفة المعيشة. وكانت أردية وأحزمة التعميد البيضاء الخاصة بالعائلة، التي كانت تستخدم في عمليات التغطيس المقدسة في مياه نهر دجلة، مخزنة في خزانة مطهرة من كل دنس، جاهزة للمناسبات النادرة عندما يحتاجون فيها إليها.
نشأت نادية في بغداد، لكن عائلتها لم تنتقل إلى هناك إلا في سبعينيات القرن الماضي. قبل ذلك كانوا يعيشون في بلدة صغيرة في جنوب العراق تسمى «سوق الشيوخ». وكان والد نادية مدرسا هناك، وكان لديه متجر ذهب صغير كعمل جانبي. وعندما عادت العائلة إلى هناك لحضور الأعياد المندائية ، عاشت نادية تجربة ممارسة دينها حقا كما ينبغي، وقضت الوقت مع جديها المتدينين. وفي صورة قديمة أرتنيها نادية، رأيت جدها: محاطا بأطفال يرتدون ملابس غربية، كان رجلا مسنا ذا لحية طويلة ويرتدي كوفية باللونين الأحمر والأبيض. ولم يكن يأكل اللحم إلا إذا كان مأخوذا من حيوان ذكر لا تشوبه شائبة، ذبح موليا وجهه إلى الشمال ثم نزف دمه حتى جف، ولم يسمح إلا لزوجته بإعداده. كانت بجواره في الصورة: امرأة متدينة بالقدر ذاته، ترتدي ملابس سوداء بالكامل وتضع حجابا على شعرها. كان حدادا ومارست هي الطب الشعبي، حيث كانت تعالج أمراض العيون التي قد يصاب بها المزارعون المحليون خلال موسم حصاد الأرز. عندما زارت نادية هذين الجدين، قيل لها إنها إذا كانت في فترة الحيض، فعليها الجلوس على طاولة منفصلة. كان هذا تطبيقا صارما لقاعدة مشتركة بين كل من البابليين القدماء واليهود (في بابل كان الرجل الذي يمس امرأة حائضا يصبح نجسا لمدة ستة أيام). لكن مع نادية انتهى هذا الأمر. فقد رفضت، وفي النهاية توقف جداها عن الشكوى من انتهاكها للقواعد.
كان هذان الزوجان قد وصلا إلى سوق الشيوخ سنة 1949. قبل ذلك كانا يعيشان في الأهوار العراقية، تلك المتاهة الشاسعة من الجزر الصغيرة، وأحواض القصب، والجداول الضحلة التي تحد البلدة من جانبها الشرقي. يتألف غالبية السكان من قبائل مسلمة مستقلة بشدة. وقد عاش هناك الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر في خمسينيات القرن الماضي ووصفها بأنها «عالم مكتمل بذاته»، مع أدنى حد من التدخل من الخارج. كان مفتونا بالقبائل، التي وجد بينها مزيجا غريبا من التسامح (على سبيل المثال، تقبل النساء المسترجلات اللائي كن يعاشرن نساء أخريات) والصلابة (كانت القوانين المنظمة للطهارة صارمة لدرجة أن الرجل قد يرى ابنه ينزف حتى الموت ولا يلمسه خشية أن يتنجس عقائديا).
يذكر ثيسيجر بإيجاز المندائيين الذين عاشوا جنبا إلى جنب مع المسلمين في الأهوار. ويعلق على لحاهم الطويلة، وأغطية الرأس ذات المربعات باللونين الأحمر والأبيض، والمشغولات الفضية، وعادة تربية البط، التي كان المسلمون المحليون يعتبرونها حيوانات نجسة. من يعرف: ربما التقى ثيسيجر بجد نادية من الأم، الذي عمل لحساب زعماء القبائل في تصليح الأسلحة من أجل رحلات صيدهم. أخبرتني نادية: «كان يمكنه فك بندقية وإعادة تجميعها.» كان جدها من جهة والدها يصنع قوارب صغيرة وبسيطة يستخدمها السكان المحليون للتنقل، إذ كان التنقل في أنحاء الأهوار في الماء أيسر منه على الأرض. كانت هذه القوارب تسمى «بيليم»، وهي كلمة ذات جذور سومرية.
التقط ويلفريد ثيسيجر هذه الصورة سنة 1950 لعرب من الأهوار العراقية يستخدمون «البيليم»، وهو نوع من القوارب التي يعود تاريخها إلى العصر السومري، للتنقل عبر الأهوار، التي كانت معزولة للغاية لدرجة أنه أطلق عليها «عالم مكتمل بذاته». الصورة مهداة من متحف بيت ريفرز.
صفحة غير معروفة