وفي بعض النصوص الغنوصية التي لا تشف عن مؤثرات مسيحية واضحة، مثل «رؤيا آدم»، نجد أن نار العرفان تبقى متقدة في عالم الإنسان من خلال عدد من الشخصيات التي تتالت عبر الزمن، وعملت بوحي من الأب الأعلى على إبقاء جذوتها في النفس الإنسانية، وفي النصوص التي تسير على خطى المسيحية القويمة، حيث يظهر المخلص في هيئة يسوع الناصري في لحظة معينة من التاريخ، فإن المهمة الخلاصية للمسيح لا تقتصر على هذه اللحظة من الزمن، وإنما تستمر من خلال ظهورات المسيح للتلاميذ بعد قيامته ومتابعته تعليمهم وإرشادهم، وهذا يعني أن المسيح على الرغم من دخوله في عالم الزمن، إلا أن مهمته تتجاوز الزمن ولا تنتهي بموته وصعوده إلى الآب.
وهذا ما عبر عنه إنجيل يوحنا الرسمي، ذو الطابع الغنوصي، من خلال شخصية «البارقليط»، روح الحق، الذي يبقى مع المؤمنين وفيهم: «وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم. إني آت إليكم. بعد قليل لن يراني العالم أيضا، وأما أنتم فترونني ... والذي يحبني يحبه أبي وأظهر له ذاتي» (يوحنا 14: 16-21). وهنا يلتقي الإنجيل الرابع مع الأناجيل الغنوصية في لا تاريخانية المسيح على الرغم من ظهوره في التاريخ، فقد كان منذ البدء عند الله، وسيبقى دائما بين البشر وحيا ونداء دائما.
هذا الطابع اللازمني وغير التاريخاني لشخصية المسيح، هو الذي أوحى بفكرة الظهور الشبحي للمسيح في العالم، والتي تتضمن أن المسيح النوراني الأعلى قد تجلى في العالم في هيئة بشرية من غير أن يكون له قوام جسدي مادي من لحم ودم. وفي الواقع، فإن هذه الفكرة لم تكن مرفوضة تماما من قبل المسيحيين الأوائل خلال القرنين الأولين، وذلك استنادا إلى الإنجيل الرابع الذي يقول في مقدمته: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله ... والكلمة صار جسدا وحل بيننا.» ولكن في سياق الجدل بين المسيحية القويمة والمسيحية الغنوصية، جرى استبعاد هذه الفكرة واستبدالها بمبدأ الطبيعتين، الذي يقول بامتلاك يسوع لطبيعة إلهية وطبيعة بشرية في آن معا.
تتدرج فكرة الشبحية (أي الظهور الشبحي للمسيح) من شبحية معتدلة، إلى شبحية توفيقية، فشبحية مطلقة. تقول الشبحية المعتدلة بأن المسيح قد ظهر في العالم بجسد روحاني يشبه أجساد البشر، وهذا النوع من الشبحية يقترب إلى حد كبير من مفهوم الطبيعتين في اللاهوت القديم. نقرأ في أحد نصوص نجع حمادي المعروف بعنوان «وثيقة ملكي صادق»: ليس مولودا، مع أنه ولد، لم يأكل مع أنه قد أكل، لم يشرب مع أنه قد شرب، ليس مختونا مع أنه قد ختن، ليس جسديا مع أنه جسدي، لم يسلم إلى العذاب مع أنه عذب، لم يقم من بين الأموات مع أنه قام من بين الأموات.
14
أما الشبحية التوفيقية فتميز بين يسوع الناصري الإنسان المولد من امرأة مثل كل البشر، والمسيح الأعلى النوراني الذي هبط على يسوع في هيئة حمامة بعد خروجه من ماء العماد في نهر الأردن، فحل فيه ردحا من الزمن ثم فارقه قبل الصلب، أي إن من صلب ومات وقام من بين الأموات هو يسوع، وليس المسيح الذي لم يخضع لشروط هذا العالم، ومن القائلين بهذا النوع من الشبحية معلمان غنوصيان هما كيرينثوس وباسيليد، وفق شهادة إيرينايوس وهيبوليتوس،
15
وأما الشبحية الراديكالية فتقول بالطبيعة الواحدة للمسيح، وبأن مظهره البشري لم يكن سوى وهم بصري، أحدثه بقدرته على اتخاذ أشكال لا حصر لها، وفي هذا يقول أحد نصوص نجع حمادي: «لم يظهر أبدا بشكله الحقيقي، فللكبير ظهر كبيرا وللصغير ظهر صغيرا، وللملائكة ظهر ملاكا، وللناس ظهر بشرا، وبذلك حجبت طبيعته نفسها عن الجميع.»
16
وفي نصوص أخرى يشهد بعض التلاميذ بأنهم لم يتبينوا أحيانا أثرا لقدميه على الأرض، أو أن عينيه لم تكونا ترمشان كبقية البشر.
صفحة غير معروفة