كان هيرود آدوميا من جهة الأبوين؛ ولهذا لقب بهيرود العربي؛ لأن الآدوميين في القرن الأول قبل الميلاد كانوا قد ذابوا في الجماعات النبطية العربية التي استقرت في مناطقهم التقليدية الواقعة إلى الجنوب من البحر الأحمر باتجاه خليج العقبة. أما عن ديانة هيرود، فكانت نوعا من اليهودية السياسية التي ورثها عن أبيه أنتيبار الذي لم يولد من أسرة يهودية، ولكنه تهود خلال خدمته في قصر المكابيين وترقيته فيه، من هنا، فإن اليهود لم يعتبروا هيرود يهوديا قط، مثلما لم يعتبر نفسه كذلك، وكانت فترة حكمه صراعا مستمرا مع اليهود والديانة اليهودية التقليدية.
نحو عام 40ق.م. دفعت الأصولية اليهودية إلى واجهة الأحداث واحدا من أفراد الأسرة المكابية يدعى أنتيغونوس، وهو ابن أخ لهيركانوس الثاني. وقد تآمر هذا لقلب نظام الحكم، وتراسل مع البلاط الفارسي لمعونته في مشروعه، فأمده الفرس بجيش ساعده على دخول أورشليم، فقبض على عمه وأودعه في السجن بعد أن قطع أذنيه، أما هيرود فقد استطاع الهرب ولجأ إلى روما، كانت الأوضاع في روما شديدة التعقيد عقب مقتل يوليوس قيصر، وكانت السلطة بيد مجلس الشيوخ الذي يدير الأمور من خلال حكومة ثلاثية مؤلفة من أنطونيو وليبيدو وأوكتافيان، الذي صار فيما بعد قيصرا تحت لقب أوغسطوس، فمثل هيرود أمام مجلس الشيوخ والحكومة الثلاثية، وأقنعهم بأنه الوحيد القادر على استعادة أورشليم إلى روما، فعينه المجلس ملكا على اليهودية مطلق الصلاحية وزوده بجيش قوامه 30000 جندي، سار معه إلى أورشليم حيث هزم الفرس ودخل المدينة عام 37ق.م. فحكمها مدة تزيد عن الثلاثين سنة.
بعد أن صار أوكتافيان قيصرا عقب تغلبه على أنطونيو في معركة أوكتيوم الشهيرة، تابع دعم هيرود وأعطاه المزيد من المقاطعات، حتى اشتملت مملكته على جميع المناطق السابقة للمكابيين في عصر أليكسندر ينايوس، وزادت عليها شمالا باتجاه حوران والجولان في الجنوب السوري، فقد أثبت هيرود أنه الوحيد القادر على تدعيم سلطة روما في هذه المناطق، وكان أكثر الحكام السوريين ولاء لها ودعما لجيوشها في مواجهة الفرس، يضاف إلى ذلك أنه قد أثبت للرومان أن الدولة اليهودية لن تعود إلى سابق عهدها كدولة دينية، وذلك بفصله لمنصب الكاهن الأعلى عن منصب الحاكم، وإحلاله للقوانين الرومانية محل الشريعة التوراتية من أجل الفصل في العلاقات المدنية، وعندما حاول السنهدرين، وهو المحفل اليهودي الذي يساعد الكاهن الأعلى في مهماته، التدخل من أجل منع تطبيق القوانين الرومانية على اليهود، أعدم هيرود 46 من أعضائه البارزين، ثم أخذ يعين ويعزل الكاهن الأعلى على هواه، وبذلك تم تحميل منصب الكاهن الأعلى إلى مجرد وظيفة رسمية، وجرده من سلطانه وهيبته السابقة.
حكم هيرود مملكته بقبضة من حديد، حتى إن آخر مجازره ضد اليهود قد تمت وهو على فراش الموت، ولكن عصره كان عصر ثراء وازدهار في جميع المجالات، لقد أحب هيرود جمع المال، ولكنه أحب إنفاقه بسخاء أيضا، فعمل على تنشيط التجارة والإفادة من مكوسها، وجعل طرقها آمنة، والتزم تحصيل الضرائب في مملكته الواسعة، وشارك روما في عائداتها، وكان جل إنفاقه على المرافق والمشاريع العامة، وبما أنه كان محبا للفكر الهيليني ولطرائق الحياة الإغريقية، فقد عمل على تزويد أورشليم بكل مظاهر ومرافق المدينة الرومانية- اليونانية، فبنى فيها مؤسسات ثقافية هيلينية كالمسرح والملعب الرياضي، وبما أنه لم ينظر إلى نفسه كحاكم يهودي، وإنما كحاكم لكل الشعوب المنضوية تحت لواء هذه المملكة الرومانية، فقد زاد اهتمامه بالمناطق الأخرى عن اهتمامه باليهودية، فبنى أو أعاد بناء مدن وثنية عديدة، وأشاد فيها معابد للآلهة المحلية، وبعيدا عن المناطق التابعة لمملكته، فقد طالت عطايا هيرود التي بذلها للمشاريع العمرانية ذات الطابع الهيليني جميع مدن بلاد الشام، وتجاوزتها إلى أرض اليونان.
لقد كان هيرود أكثر من هيليني متحمس، كما وصفه المؤرخون، كان موطنا عالميا يؤمن بوحدة الأديان والثقافات، وبانفتاح الحضارات على بعضها وتعاونها على بناء دولة عالمية شمولية، لا فضل فيها لدين على دين ولا لعرق على عرق، وهو لم يكره شيئا قدر كراهيته للتعصب العرقي والديني والانغلاق الثقافي والمذهبي، ومن هنا جاءت كراهيته وكراهية اليهود له، ومع ذلك ، فقد بنى في أورشليم هيكل يهوه الذي ذاع صيته في المنطقة، وكان درة نشاطات هيرود العمرانية، ولم يكن في ذهنه عندما بنى هذا الهيكل سوى مشروع أنطوخيوس أبيفانوس القديم، الذي هدف إلى مطابقة الإله يهوه بالإله زيوس الأوليمبي، وقد جاء بناء الهيكل الجديد انطلاقا من هيكل زربابل القديم الذي وسعه إلى الضعف وزاد عليه في الأبهة والعظمة، حتى كان لمعان جدرانه المبنية بالحجر الأبيض المطعم بالذهب والفضة يبهر أنظار القادمين من مسافة بعيدة.
لم تكن مملكة هيرود يهودية، بل على العكس، فلقد عمل هيرود طوال حياته على قمع روح العصبية اليهودية، وأتاح لشعوب مملكته حياة دينية حرة وشجعها على ممارسة طقوسها، وساعدها على بناء معابدها الخاصة، وهذا ما حفز غالبية من تهود تحت قوة السلاح على الارتداد عن اليهودية والعودة إلى دين أسلافه، وعندما توفي في عام 4ق.م. قسمت مملكته بين أولاده الثلاثة، فأعطيت اليهودية والسامرة والآدومية إلى أرخيلاوس والجليل إلى أنتيباس، وشرقي الأردن والجولانية إلى فيليبس، حكم أرخيلاوس بن هيرود في أورشليم فيما بين عام 4ق.م. و6م، ثم تمت إزاحته لتصبح منطقة اليهودية مقاطعة تحكم من قبل ناظر روماني (
) يتبع مباشرة إلى القنصل الروماني، الذي يدير ولاية سورية من دمشق، ومنذ ذلك الوقيت بقيت مقاطعة اليهودية ضمن حدودها السابقة التي رسمها لها بومبي، تحكم من قبل نظار رومانيين، بلغ عددهم حتى دمار أورشليم عام 70م أربعة عشر ناظرا، وفيما عدا بونتوس بيلاطس الذي ارتبط اسمه بمحاكمة يسوع وصلبه، فإننا لا نعرف عن هؤلاء النظار سوى أسمائهم.
في عام 66م قامت الأصولية اليهودية بآخر جولاتها من أجل استعادة الاستقلال، ولكن التمرد أخضع بقسوة من قبل الرومان، وقام القائد الروماني تيتوس بإحراق وتدمير هيكل هيرود ومعظم أحياء أورشليم عام 70م، ولكن الحياة لم تتوقف تماما في المدينة، وبقي قسم من السكان يعيش فيها، ولكن من دون معبد ولا ذبائح ولا طقوس، أما في بقية مناطق المقاطعة، فقد تناقص عدد السكان نتيجة الحرب والنزوح، وأقفرت الأراضي الزراعية وتدهورت الحياة الاقتصادية بين عامي 130 و131م، قام الإمبراطور هادريان بزيارة عدد من المناطق الشرقية للإمبراطورية، وأرسى القواعد لبناء عدد من المدن الرومانية فيها، وقد أعلن خلال هذه الزيارة عن عزمه على بناء مدينة رومانية في موقع أورشليم، وهذا ما أشعل نار الثورة اليهودية الثانية بقيادة رجل يدعى سمعان باركوخبا، الذي استولى على أورشليم وأعلن اليهودية دولة مستقلة.
جاء رد فعل روما هادئا، وقامت استراتيجية هادريان على التمشيط البطيء لمناطق اليهودية التي سقطت تدريجيا، وهنا يقول المؤرخ الروماني ديوكاسيوس إن الرومان استولوا على خمسين بلدة وذبحوا الثوار فيها كما هدموا 985 قرية، حتى بلغ عدد القتلى 850000 نسمة، بعد ذلك جرى الهجوم الأخير على أورشليم عام 135م، وهدمت حجرا حجرا وسويت جميع أبنيتها بالتراب، أما من بقي حيا من اليهود فقد تم بيعه في أسواق النخاسة، حتى إن سعر اليهودي صار أدنى من سعر الحمار، بعد ذلك أقام هادريان في موقع أورشليم مدينة رومانية تحت اسم إيليا كابيتولينا، ومنع دخول أي يهودي إليها تحت طائلة الموت، وإيليا كابيتولينا هذه هي التي سلم سكانها المسيحيون مفاتيحها إلى عمر بن الخطاب خلال الفتوح العربية لبلاد الشام. (3) الجليل مسرح الإنجيل
تبدو منطقة فلسطين صورة مصغرة عن الغرب السوري الذي تشكل قسمه الأدنى الجنوبي، وهي تتألف من المناطق الجغرافية التالية: (1)
صفحة غير معروفة