قد تجاهلت النوع التقوي الشعبي من الأناجيل والمؤلفات المنحولة لأسباب شتى أهمها امتلاؤها بالعجائب والغرائب والمعجزات، فإنها حرمت المؤلفات الغنوصية باعتبارها هرطقة وتجديفا وخطرا على الإيمان المسيحي.
في هذا الفصل سوف نركز على الأناجيل الأربعة القانونية؛ لأنها عماد المسيحية التي نعرفها اليوم، ونبحث في مؤلفيها وبنيتها ومضمونها، مع التركيز على وجهتي النظر التي تطرحها بخصوص حياة يسوع وشخصيته وتعاليمه، تتبدى وجهة النظر الأولى في الأناجيل الثلاثة المدعوة بالإزائية والمتشابهة، وهي متى ومرقس ولوقا، أما وجهة النظر الثانية فتتبدى في إنجيل يوحنا، الذي يعتبر نسيج وحده بين الأربعة. (1) الأناجيل الإزائية
عزيت هذه الأناجيل إلى أسماء من العصر الرسولي، هم على التوالي: متى ومرقس ولوقا، ويبدو أن عناوين هذه الأناجيل، التي تقول: الإنجيل بحسب متى، أو بحسب مرقس، أو بحسب لوقا، قد وضعت بعد تأليفها بزمن طويل، وذلك لإضفاء السلطة والمصداقية عليها، إن أقدم إشارة إلى متى ومرقس بوصفهما مؤلفين لإنجيليهما قد وردت لدى أوزيبوس القيساري
Eusibius Of Caesarea ، الذي عاش في القرن الرابع الميلادي ووضع في تاريخ الكنيسة كتابا اعتمد في أخباره عن الإنجيليين على الأسقف بابياس
الذي عاش في القرن الثاني الميلادي. يقول بابياس بأن متى كان أول من جمع تعاليم يسوع في مؤلف دعاه «بالأقوال»
Logia ، كتبه بالآرامية، ثم قام الآخرون بترجمته كل حسب مقدرته، ونحن لا نعرف بالفعل ما إذا كان هذا الكتاب هو نفسه إنجيل متى المعروف، والذي يحتوي على أكثر من مجرد أقوال وتعاليم يسوع، ولا ندري ما إذا كان متى «الأقوال» هذا هو نفسه متى العشار تلميذ يسوع. وفي الحقيقة فإن معظم الباحثين في العهد الجديد، منذ القرن التاسع عشر، يشكون بنسبة إنجيل متى إلى متى العشار تلميذ يسوع، ولكن هذا الخبر عن «الأقوال» أو «اللوجيا» يلفت نظرنا إلى حقيقة مهمة تتعلق بتأليف الأناجيل، وهي أن المؤلفين قد اعتمدوا مجموعة أو أكثر لأقوال يسوع، ثم وضعوا لها مناسبات معينة، وشبكوا هذه المناسبات إلى بعضها في سياق كرونولوجي لتعطي الانطباع بسيرة مطردة، وقد بقي لنا نموذج عن مثل هذه «الأقوال» التي لم تتحول إلى سيرة، وذلك في إنجيل توما، الذي يحتوي على 114 قولا ليسوع دون ذكر مناسباتها أو سياقها الكرونولوجي في حياة يسوع، الذي يبدو هنا خارج أي سياق دنيوي، ومعلما يهدي إلى العرفان في جمل قصيرة ومكثفة.
ثم يقدم لنا بابياس هذا مرقسا باعتباره مرافقا لبطرس في رحلاته التبشيرية، ويقول بأن مرقس قد سجل ما سمعه من بطرس عن حياة وأقوال يسوع، على الرغم من أنه لم ير يسوع ولم يسمع منه مباشرة. أما عن الإنجيل الثالث فإن أقدم إشارة تربطه بلوقا تأتي من أول كاتالوج للعهد الجديد في نهاية القرن الثاني الميلادي، ولوقا هذا، شأنه شأن مرقس، شخصية غامضة وغير واضحة المعالم، ونحن لم نعرف عنهما إلا من إشارات متفرقة في سفر أعمال الرسل، وفي رسائل بولس.
وبشكل عام، هنالك شبه إجماع بين دارسي العهد الجديد، على أنه على الرغم من الاسم الرسولي لكاتب الإنجيل الأول، فإن مؤلفي الأناجيل الثلاثة لم يروا يسوع ولم يسمعوا منه مباشرة، وإنما كتبوا أناجيلهم باللغة اليونانية بعد مضي جيل أو جيلين على وفاة يسوع، اعتمادا على ذكريات ومعلومات غير مباشرة، وربما توفرت لواحد منهم أو أكثر مجموعة أقوال ليسوع دونها مؤلف مجهول الهوية. ويبدو من المعلومات التي يوردونها عن فلسطين عصر يسوع، عدم معرفتهم بجغرافية وطبوغرافية وبيئة فلسطين، من ذلك مثلا ما ورد في إنجيل مرقس 517: 1 وإنجيل لوقا 8: 26، عن ممسوس في كورة (أو ناحية) الجدريين (نسبة إلى بلدة جدرة الجليلية) أخرج يسوع منه شياطين كثيرة كانت تعذبه، ولكن الشياطين استأذنت يسوع أن تدخل في قطيع من الخنازير كان يرعى في الجوار، فأذن لها، وعندما حلت الشياطين في الجزيرة اهتاجت واندفعت من على الجرف إلى بحر الجليل وغرقت، والمعروف أن بلدة جدرة كانت تقوم على مسافة بعيدة جدا عن بحر الجليل، بحيث إذا أرادت الخنازير أن تصل إليه كان عليها أن تطير لا أن تقفز.
2
دعيت هذه الأناجيل الثلاثة بالإزائية؛ لأنها تعكس وجهة نظر واحدة في حياة يسوع ورسالته؛ ولأن القصة فيها تسير عبر مفاصل رئيسية متقابلة، بحيث نستطيع المقارنة بينها عن طريق وضعها إزاء بعضها بعضا في أعمدة ثلاثة. لننظر مثلا إلى حادثة شفاء يسوع لحماة بطرس في الأناجيل الثلاثة، ونرى كيف تتقابل الروايات عندما نضعها في ثلاثة أعمدة إزائية.
صفحة غير معروفة