تؤكد استعمالات لفظ المال إذن على معان ثلاثة: الأول، المال حق الله، وحق الآخر، وواجب استقلال الشعور الذاتي عنه. المال مال الله وليس ملكا لأحد. وللإنسان حق التصرف والانتفاع والاستثمار. فإذا ما استغل أو احتكر أو اكتنز من حق السلطة الشرعية استرداد الوديعة بالتأميم والمصادرة للصالح العام. المال حركة اجتماعية وسيولة بين أفراد الجماعة لا يجوز اكتنازه أو احتكاره أو الاحتفاظ به. ومن حق السلطة الشرعية مصادرته لتدويره للصالح العام. فالملكية ليست حقا طبيعيا بل أمانة ووديعة واستخلاف،
وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه .
وفي النظم الإسلامية ما تعم به البلوى لا يجوز امتلاكه ملكية فردية مثل الماء والهواء والزرع طبقا لحديث «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» أي الزراعة والصناعة. وهما أهم قطاعات الإنتاج. وما يوجد في باطن الأرض مثل المعادن لا يجوز أيضا امتلاكه على نحو فردي لأن شرط الملكية التحرك في السوق. عرف القدماء الذهب والفضة والنحاس والحديد وعرفنا نحن النفط. والإقطاع هي مراعي الدولة المشاع التي يحق لكل إنسان الرعي فيها دون امتلاكها مثل القطاع العام.
طريق التنمية للأمة ولتحقيق العدالة الاجتماعية ليس هو الطريق الرأسمالي، والاقتصاد الحر، «دعه يكسب، دعه يمر» بل هو طريق التخطيط والتوجيه والملكية العامة لوسائل الإنتاج. والشائع عند الناس بل ولدى الحركات الإسلامية المعاصرة أن النظام الاقتصادي الإسلامي نظام رأسمالي يقوم على حرية التجارة والكسب الحلال. فالرزق من الله، والتسعير من الله. والطبقات الاجتماعية طبيعية،
ورفع بعضكم فوق بعض درجات ، وليس في العلم والفضيلة وحدهما. وكل كسب حلال بصرف النظر عن مصدره. والرزق مقسوم ومقدر من قبل. لا يمكن تغييره زيادة أو نقصا «يا متعوس يا متعوس غير رزقك ما تحوش». وما دامت زكاة المال تؤدى، 2,5٪، فالباقي 97,5٪ حلال، وهو ما يتفق مع بعض الأمثال العامية «التجارة شطارة»، بالرغم من نقد ابن خلدون أخلاق التجار، واعتبار التجارة خدمة لا سلعة، غير منتجة عكس الزراعة والصناعة.
إن الطريق الرأسمالي للتنمية في البلاد النامية مرتبط أشد الارتباط بتراثها القديم وبثقافتها الوطنية، وهو قادر على إقامة نظام اقتصادي يرعى مصالح الأغلبية. لذلك ظهرت دعوات «اشتراكية الإسلام» أو «الإسلام والاشتراكية» من بعض المفكرين الإسلاميين الاشتراكيين، مثل مصطفى السباعي في سوريا وسيد قطب وعبد الرحمن الشرقاوي في مصر، للتأكيد على الطابع الاشتراكي للإسلام، وهو ما يستأنفه اليسار الإسلامي، ويعيد تأكيده لحل قضية التفاوت الشديد بين الفقراء والأغنياء في الأمة. «ليس منا من بات شبعان وجاره طاو».
لا يعني انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية وفي آسيا أي خلل في النظام الاشتراكي وفي قيم العدالة الاجتماعية بل في طرق التطبيق الآلي التسلطي المادي لها. فالاشتراكية قيمة إنسانية وروحية عالية. تعلن أن الناس سواسية كأسنان المشط، وأن كلهم لآدم وآدم من تراب. وتلك الدلالة العامة للإحرام في الحج، إمحاء الفردية لصالح الجماعية. لباس واحد، طبقة اجتماعية واحدة، قبلة واحدة، أمة واحدة، وإله واحد. (2) الظلم
يبرز اليسار الإسلامي المفاهيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في القرآن الكريم كرد فعل على تركيز اليمين الإسلامي على الشعائر الصورية والعقائد الإيمانية الشيئية. والغاية إعادة توجيه المسلمين نحو العالم بعد أن فقدوا السيطرة عليه لصالح الأمم الأخرى التي استعبدتهم واحتلتهم ونهبت ثرواتهم.
ومن ذلك مفهوم «الظلم» في القرآن الكريم، وهو مفهوم رئيسي أهم من العدل. فقد ذكر مائتين وتسعا وثمانين مرة في حين ذكر «العدل» ثمانيا وعشرين مرة أي حوالي عشرة أضعاف. فمن يحارب الظلم يحقق العدل. ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح في القواعد الفقهية القديمة.
ومعظم استعمالات اللفظ أفعال وصفات وليست أسماء. فالظلم فعل بشري، وسلوك إنساني، وليس جوهرا ثابتا. فلم يذكر الظلم كاسم إلا عشرين مرة والأفعال والصفات حوالي خمسة عشر ضعفا من الاسم. والظالمون هم الناس والبشر. وهي الصفة الأكثر استعمالا حوالي نصف الاستعمالات. ولم يذكر المبني للمجهول «مظلوم» إلا مرة واحدة لأنه لا أحد يقبل أن يكون مظلوما، في الحياة أو في الممات. والمظلوم هو المقتول،
صفحة غير معروفة