التوحيد ليس عقيدة تتجاوز العقل مثل التثليث، بل هو توحيد الذات الإنسانية وطاقاتها الداخلية والخارجية ضد مظاهر الازدواجية مثل النفاق والرياء وانفصام القول عن العمل، وتوحيد المجتمع ضد التفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء، وتوحيد البشرية ضد مظاهر العنصرية والتمييز بين الأقوياء والضعفاء وسياسة الأقطاب، والتفرقة بين المراكز والمحيط. والشريعة لها مقاصد خمسة، ضروريات للحياة الإنسانية: الحياة والعقل والقيمة (الدين)، والكرامة (العرض)، والثروة (المال). وهي أسس «علمانية خالصة. والشريعة الإسلامية وضعية تقوم على أسس في العالم، ومكونات السلوك البشري. والأحكام الشرعية لها أسباب وعلل وشروط. والاجتهاد مصدر رئيسي للتشريع بعد الإجماع لتجديد فهمها طبقا لظروف كل عصر، «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». والمصلحة أساس التشريع، «ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن».
النظام الإسلامي نظام مدني خالص. والدولة الإسلامية دولة علمانية بهذا المعنى الإسلامي. نظامها السياسي يقوم على البيعة العامة، اختيار الناس للرئيس «الإمامة عقد وبيعة واختيار». والرئيس ليس نائبا عن الله أو ابنا لملك بل هو نائب عن الشعب. ونظامها الاقتصادي يقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج الزراعي والصناعي وليس الخدمات، «الناس شركاء في ثلاث، الماء والكلأ والنار». ونظامها الاجتماعي يقوم على تذويب الفوارق بين الطبقات وعلى إقامة مجتمع العدل والمساواة «ليس منا من بات شبعان وجاره طاو». ونظامها الإعلامي يقوم على حرية الرأي وضرورة الرقابة على جهاز الدولة. فالحسبة هي الوظيفة الرئيسية للحكومة. الدين النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل عالم قادر.
فأين الخلاف بين الإسلام والعلمانية؟ إنه مجرد صراع على السلطة بين تيارين رئيسيين وقوتين سياسيتين وجناحين متصارعين في الدولة ، أيهما يخلف النظام القائم، نظام التبعية للخارج، والفساد والقهر في الداخل، والدولة سعيدة بها وتؤججه، تضرب هذا الفريق بالفريق الآخر مرة ثم تضرب هذا الفريق الآخر بالفريق مرة أخرى حتى يضعف الجناحان، ويبقى القلب، وتفتت المعارضة، ويقوى الحزب الحاكم لغياب البديل.
اليسار الإسلامي يسار علماني. ويعلن ذلك على الملأ نظرا وعملا ضد الكهنوت الديني والتسلط السياسي، وهو ليس مثالا بعيد المنال أو رؤية طوباوية أو هدفا صعب التحقيق. فالتجربة التركية والتجربة الماليزية ماثلتان للأذهان. اليسار الإسلامي هو الطريق الثالث بين السلفيين والعلمانيين، بين المحافظين والمجددين، بين القدماء والمحدثين. ولقد اقتربت بعض التيارات الإسلامية من ذلك بالبرامج السياسية الجديدة التي قدمها الإخوان في مصر والأردن وسوريا ولبنان واليمن. فالإسلام دولة مدنية تقوم على التعددية السياسية. فهل يستطيع العلمانيون تغيير أنفسهم وتخفيف عدائهم لبعض الأجنحة الليبرالية في التيار الإسلامي لإنقاذ أنفسهم من تلميع نظم الحكم والتعاون معها على مواجهة الإسلاميين كهدف مشترك بدلا من التعاون والحوار معهم في جبهة وطنية واحدة ضد نظم الفساد والتبعية والطغيان؟ (15) اليسار الإسلامي، اعتراضات وردود
وبالرغم من هذه المداخل الواضحة لليسار الإسلامي وعرض أوجهه المختلفة إلا أن تجربة ربع قرن من محاولات تأسيسه لم تمنع من توجيه بعض الاعتراضات الرئيسية عليه. وهي شبهات تثار من الأحزاب السياسية الدينية والعلمانية، المحافظة والتقدمية، ومن الدولة ومؤسساتها الدينية، ومن الأفكار الشائعة نتيجة للإعلام المزيف وما تعود عليه الناس من تقليد لما هو سائد دون التفكير الأصيل. إذ يقال على اليسار الإسلامي: (1) «ليس في الإسلام يسار ويمين.» الإسلام دين واحد، جوهره واحد، وعقائده ثابتة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، خيره وشره. كبائره معروفة وصغائره محصاة. لا تختلف العبادات من قطر إلى قطر، ولا من قارة إلى قارة، ولا من شعب إلى شعب، ولا من ثقافة إلى ثقافة. شهادة أن لا إله إلا الله على كل لسان. ينطقها المسلم ليعلن انتماءه وانتسابه إلى الأمة. وهذا صحيح نظرا، ولكن عملا تتعدد القراءات والممارسات الإسلامية خاصة في المعاملات والعادات. يشير اليسار الإسلامي إلى إحدى القوى الاجتماعية الموجودة في المجتمع، الفقراء والمحرومين والمساكين والطبقات الدنيا في مقابل إسلام الأغنياء وشركات توظيف الأموال ورجال الأعمال وموائد الرحمن وبيوت الزي الإسلامي. ففي كل مجتمع هناك يسار ويمين، فقراء وأغنياء، طبقة دنيا وطبقة عليا. اليسار الإسلامي سياق اجتماعي سياسي تاريخي للإسلام في مرحلة تاريخية معينة وفي عصر معين ولدى شعب معين، في مرحلة تفاوت الدخول في عصر النفط. وكما أن هناك تمايزا بين المذاهب الفقهية الأربعة والاتجاهات الفلسفية والفرق الكلامية والطرق الصوفية هناك تمايز أيضا في تفسير الإسلام طبقا لحاجات الناس وطبقاتهم الاجتماعية التي تتغير بتغير الزمان والمكان، وكما فعل الشافعي بين العراق ومصر. (2) «اليسار الإسلامي نزعة توفيقية وأحيانا تلفيقية بين نزعات عدة تجمع بين عدة متناقضات.» هو مشروع مستحيل مثل «الثلج المقلي»، يرفضه اليسار واليمين، فاليسار علماني لا ديني، واليمين ديني لا علماني. والحقيقة أن هذه الشبهة إنما تنتج من عقلية الاستقطاب بين مطلبين كلاهما صحيح، القديم والجديد، الماضي والحاضر، التراث والمعاصرة، الأصل والفرع، الآخرة والدنيا. وكل سمات اليسار الإسلامي مطالب فعلية للعصر. فهو إسلام مستنير لحاجة العصر إلى العقلانية والاستنارة كما عبر عن ذلك بعض المفكرين العرب المعاصرين مثل محمد عبده ومصطفى عبد الرازق وطه حسين، وهو إسلام ليبرالي لحاجة العصر إلى الحرية كما عبر عن ذلك الطهطاوي والعقاد والشرقاوي، وهو إسلام اشتراكي جماعي لحاجة العصر للعدالة الاجتماعية والمساواة كما عبر عن ذلك مصطفى السباعي في سوريا وسيد قطب في مصر، وهو إسلامي قومي كما هو الحال عند منير شفيق وخلف الله ومحمد عمارة نظرا لمخاطر التجزئة والتفتيت للأقطار بعد أن قضي على الخلافة لصالح القومية العربية في 1923م ثم قضي على القومية لصالح القطرية بعد حربي الخليج الأولى والثانية، ثم قضي على القطرية لصالح الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية والقبلية بعد العدوان الأمريكي على العراق في 2003م، والحرب الأهلية في لبنان وإبراز قضية السودان شمالا وجنوبا في الجنوب، وشرقا في دارفور. وهو إسلام إنساني كما عبر عن ذلك العقاد وغيره نظرا لخرق حقوق الإنسان في عصرنا وتعذيب المعتقلين السياسيين بالآلاف، وهو إسلام تقدمي كما هو الحال في تونس نظرا لتصنيف الشعوب العربية والإسلامية ضمن الدول المتخلفة أو النامية، وهو إسلام طبيعي يبدأ من العالم والناس نظرا لغلبة العقائدية القطعية والنصية الحرفية مثل أحمد كمال أبو المجد وسليم العوا، وهو إسلام وطني مثل طارق البشري نظرا للهويات الطائفية السائدة الآن وتواري الأوطان، وهو إسلام أممي مثل عادل حسين نظرا لما فعلته الحدود الوطنية من تجزئة وتقسيم ومعارك حدودية ونزاعات بين القبائل على طرفي الحدود على الثروات الطبيعية، وهو إسلام علماني مثل أحزاب الوسط نظرا لسيادة النزعات الدينية المعادية لقيم العقل والحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وهي قيم إسلامية أصيلة تجلت في التراث الإسلامي، وهو إسلام عملي حركي مثل بعض الأجنحة المستنيرة في الحركة الإسلامية نظرا لسيادة الخطاب الديني النظري الوعظي الذي يدخل في أذن ويخرج من الأذن الأخرى. (3) «اليسار الإسلامي نزعة مادية وتيار ماركسي شيوعي إلحادي.» لا يهتم بالغيب ولا بالحياة بعد الموت إلى آخر ما هو معروف من أمور المعاد. والحقيقة أن هذه هي صورة نمطية للإسلام منذ العصر العثماني، تغليب الآخرة على الدنيا، والنفس على البدن، والله على العالم، وهو ما قاومته حركات الإصلاح الديني الحديثة. فالتراث الإسلامي قام على أساس الاهتمام بالعالم. يبدأ علم الكلام وهو علم العقائد بالعالم أولا للاستدلال به على وجود الله. ويتحدث الفلاسفة عن الطبيعيات كمقدمة للإلهيات. ويدافع بعض الصوفية عن وحدة الوجود، الجمع بين الحق والخلق. ويقوم علم أصول الفقه على تعليل الأحكام الشرعية بالعلل المادية ليقيس عليها أحكام الوقائع الجديدة. (4)
اليسار الإسلامي تيار غربي يقلد «لاهوت التحرير» في المسيحية خاصة. والحقيقة أن اليسار الإسلامي استئناف لحركات الإصلاح التي أسسها الأفغاني وإقبال، وتطويرها كي تصبح أكثر جذرية وقدرة على التأثير في العالم وإصلاح المجتمعات وتأسيس نهضة الشعوب. وقد سبقت الديانات الأخرى مثل المسيحية والبوذية الإسلام في وضع أسس «لاهوت التحرير» المعاصر في تحقيق المشاريع القومية في الحرية والعدالة، والاستقلال والتنمية ابتداء من تراثها. كان القدماء منتصرون على الأرض فصاغوا العقائد النظرية. ونحن منكسرون على الأرض في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، وكلها تحت الاحتلال المباشر، وما زلنا نتحدث عن عذاب القبر ونعيمه، ومنكر ونكير، ونواقض الوضوء وحلق عانة الميت، وإرضاع الكبير. كما أن هذا الشبهة تعطي النفس أقل مما تستحق، وتعطى الغرب أكثر مما يستحق. وترجع كل تقدم وإبداع عند الأنا إلى منابعه ومصادره عند الآخر وكأن الأنا أصبح عقيما رضي بأن يكون تلميذا إلى الأبد، والآخر هو المبدع والمعلم. ولقد استطاع الإسلام في الماضي القيام بنهضة من الداخل وتأصيله في إبراهيم ولم ير غضاضة في التعامل مع الحضارات المجاورة، يونانية ورومانية غربا، وفارسية وهندية شرقا، والآن أوروبية شمالا، وأفريقية جنوبا. (5) «اليسار الإسلامي خلط بين الدين والسياسة، يرغب في الوصول إلى الحكم.» هو مجرد توزيع أدوار داخل الحركة الإسلامية التي ما زالت تسعى للوصول إلى السلطة. اليسار الإسلامي مجرد واجهة إعلامية مستنيرة تقوم بدور الغطاء النظري للحركات الإسلامية المحافظة التي تمارس العنف بل والإرهاب. والحقيقة أن الإسلام لا يفرق بين الدين والسياسة كما يفعل الغرب نظرا لظروف الكنيسة في صراعها مع الدولة. الإسلام يطبق المثال في الواقع، وملكوت السموات الذي عرفته المسيحية في ملكوت الأرض الذي عرفته اليهودية. يحول النظر إلى عمل، والفكر إلى ممارسة. هدفه تحقيق التقدم والتغير الاجتماعي من خلال التواصل وليس من خلال الانقطاع حتى لا يحدث رد فعل إلى القديم من جديد كما حدث في الغرب. الإسلام هو اللحظة الثالثة في تطور العلاقة بين الدين والسياسة بعد اللحظة الأولى تغليب السياسة على الدين في اليهودية، واللحظة الثانية، الفصل بين الدين والسياسة في المسيحية. اليسار الإسلامي تيار معارض. ينقد النظم السياسية القائمة على التبعية للخارج، والقهر والفساد في الداخل. وينقد المؤسسة الدينية التابعة للدولة والمبررة لقراراتها في الحرب والسلم، في الاشتراكية والرأسمالية بنفس الرجال ونفس الفتاوى. الإسلام دين ليس به رجال دين أو كنيسة أو سلطة دينية إلا سلطة العلم. يفك الحصار عن المعارضة العلمانية بأنها ضد الدين. ويخفف من عداء الحركات المحافظة للأيديولوجيات العلمانية، ليبرالية وقومية واشتراكية وماركسية وإسلامية مستنيرة، كما هو الحال في تركيا وماليزيا. وينقد نفاق الإعلام الرسمي واستخدام الدين لصالح الحزب الحاكم. (6) «التيار الإسلامي يرفضه الناس لأنه يمس عقائدهم الشعبية.» هو تيار نخبوي يسهل حصاره من اليمين واليسار والدولة. هو عند اليمين الديني شيوعية وإلحاد مقنعان. وعند التيار العلماني إسلامي مقنع، وفي أجهزة الدولة الأمنية اليساريون الإسلاميون «إخوانيون شيوعيون» كما اتهم الشاه من قبل فصائل الثورة الإسلامية مثل «مجاهدي خلق». هو غير مؤثر، أقلية معزولة أمام الأغلبية الطاغية للحزب الحاكم. والحقيقة أن الاتصال المباشر بين اليسار الإسلامي والجماهير يدل على قدرته على التعبير عن الأغلبية الصامتة، عن الوسط بين الجناحين السلفي والعلماني. يريد المحافظة على الشرعيتين في نفس الوقت، الإسلام والعالم، الدين والثورة. ليس حريصا على السلطة والحكم بل هو للحفاظ على وحدة الأمة في مسارها التاريخي، «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها».
الفصل الثالث
الأرض
(1) الأرض
للألفاظ أيضا فقه الأولويات. وما زالت الألفاظ المستعملة في خطابنا الديني يغلب عليها الألفاظ التقليدية الموروثة التي لا صلة لها بالواقع المعاش ولا ظروف العصر. تعتمد في معظمها على النقل دون العقل، من عالم الغيب وليست من عالم الشهادة، موضوع للتصديق الإيماني دون برهان عقلي ومن ثم هي أقرب إلى الظن منها إلى اليقين طبقا للأشاعرة لأنها تعتمد على النقل وحده دون العقل.
صفحة غير معروفة