174

وحي بغداد

تصانيف

أخي وغريمي ...

كنت أحب أن أسأل من أنت، فقد كان لي في باريس كثير من الغرماء، ولكني عرفتك في لحن القول، كما يعبر القرآن المجيد.

وكيف أنسى الصديق الذي خشى أن أسرق معشوقته في باريس فانتقل إلى ضاحية بعيدة لينجو بها مني، وكان مع ذلك يدعوني للعشاء من وقت إلى وقت ليذوق حلاوة العيش، فقد كانت تلك المعشوقة تبالغ في التعطف عليه حين تراني، فتمسح جبينه وتسوي شعره برفق وحنان، والله يعلم ما كانت تصنع بعد أن أنصرف فلعلها كانت تتجنى عليه لحسنها في الصدود.

إن هذا الغريم يعرف أننا كنا قسمنا الحي اللاتيني إلى مناطق صيد، ويعرف أيضا أني لم أكن من أهل الفجور وإنما كنت أتخذ الحب مادة نفيسة أغذي بها الأدب والبيان.

وكتاب «ذكريات باريس» والطبعة الثانية من كتاب «البدائع» يشهدان بصدق ما أقول، ففي هذين الكتابين ثروة فلسفية وروحية تصور كيف عطرت الأدب بأنفاس الحياة، وأنت نفسك تشهد - والله يحفظك ويرعاك - بأني كنت في أدبي من الصادقين.

ولكن هل تسمح بأن أذكرك بقول الشاعر:

وما سمى الإنسان إلا لنسيه

ولا القلب إلا أنه يتقلب؟

فلو لم تكن ممن ينسون - لأنك إنسان - لتذكرت أنه ما كان يجب أن تداعبني في هذه الأيام، فهي عندي أيام حداد، حداد أسود مظلم فتاك: لأني فقدت غريما من غرمائي في باريس، فقدت غريما كان أرق من الزهر، وأكثر إشراقا من الصباح، وكان هذا الغريم صديقا عزيزا ثم حملني سوء الأدب وسوء الطالع على أن أسرق معشوقته في باريس؛ فبلغ به الحقد كل مبلغ وذهب به الغضب كل مذهب؛ فدبر مؤامرة لاغتيالي في باريس، ولعل وجه العجب عند ذلك الغريم أنه كان من النوادر في عالم الشباب والجمال وأنه كان يملك من الثروة ما يستطيع به اشتراء بلد جميل مثل سنتريس.

كان وجه العجب أن أسرق معشوقته وأنا فقير دميم، وهو غني وسيم.

صفحة غير معروفة