مقدمة
تأملات في الحياة
خواطر في شئون الناس
قصص وأماثيل
وصف وتصوير
غزل ومناجاة
قوميات واجتماعيات
فكاهة
متفرقات
مقدمة
تأملات في الحياة
خواطر في شئون الناس
قصص وأماثيل
وصف وتصوير
غزل ومناجاة
قوميات واجتماعيات
فكاهة
متفرقات
وحي الأربعين
وحي الأربعين
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
الشعر العصري
تناول بعضهم ديوانا من الشعر، فقال: هذا شعر عصري! هذا ديوان خلا من باب المدح وباب الهجاء، فهو شعر جديد وليس بشعر قديم.
ذلك مثل من أمثلة التقليد في إنكار التقليد، فالشعر لا يكون عصريا مبتكرا لأنه خلا من المدح ولا يكون قديما محكيا لأنه يشمل عليه، وإنما يخرج «المدح» من الشعر لأنه كلام يضطر الناظم إليه اضطرارا ولا يعبر فيه عن عقيدة صادقة أو عاطفة صحيحة، ولولا الحاجة إلى نوال الممدوح لما نظمه ولا أجاله في خاطره، فمن هنا كان المدح كلاما لا شعر فيه ولا دلالة على شعور، أما المادح الذي يقول ما يعتقد أو يحس أو يتمثل أو يتخيل فلا فرق بينه وبين شاعر الوصف والغزل والحماسة من حيث القدرة الشاعرة، ولا سيما إذا هو أثنى بما يوجب الثناء في رأيه وضميره.
ولنضرب لذلك مثلا من التصوير بالريشة، وهو كالشعر، أحد الفنون الجميلة التي يقع فيها الابتكار والتقليد، فلا نعرف ناقدا يزعم أن المصور الذي يرسم رجلا من أجل ثمن مقدور لا يعد من المصورين «العصريين»؛ إذ كل ما يطلب منه هنا أن يجيد نقل الشبه والدلالة على الملامح والأطوار النفسية، فإن أجاد في عمله هذا فهو مصور كأحسن المصورين، وإن لم يجد فليس بمصور وإن كان يرسم الأشخاص متبرعا غير مأجور، أو كان يشغل نفسه بمناظر الطبيعة وما شابهها من الموضوعات التي تقابل الوصف والغزل في القصائد. وكذلك المدح في دلالته، على الشاعرية أو في انتظامه بين أبواب الشعر الصحيحة، فإنما يعاب بيع الثناء من وجهة الخلق والعرف لا من وجهة الفن والتعبير، أما الذين «يقلدون» في إنكار القديم فقد اختلط عليهم الأمر؛ فحسبوا المدح منفيا من عالم الشعر لذاته لا لما قدمناه. •••
وقرأ بعضهم قصيدة في وصف الصحراء والإبل، فأنكر أن تكون من المذهب الجديد وعدها بابا من الشعر لا يجوز أن يطرقه العصريون!
ذلك مثل آخر من أمثلة التقليد في إنكار التقليد؛ لأن وصف الصحراء والإبل إنما يحسب تقليدا لا ابتكار فيه إذا نظمه الناظم مجاراة للأقدمين واقتياسا على الدواوين، أما الرجل الذي يعيش في الصحراء أو على مقربة منها، ويركب الإبل وتجيش نفسه بالشعر والتخيل عند ركوبها ورؤيتها فليس بشاعر إن لم ينظم في هذا المعنى مخافة الاتهام بالتقليد أو جريا على رأي الآخرين.
إذ هذا هو التقليد بعينه في التصور واختيار الموضوعات، وما المقلد إلا من ينسى شعوره ويأخذ برأي الآخرين على غير بصيرة أو بغير نظر إلى دليل.
فهناك إذن «مقلدون» في كراهة التقليد لا يدركون لماذا يستحسنون ولماذا يستهجنون، وربما كان هؤلاء أضر بالمذاهب الجديدة من معشر الجامدين على المذهب القديم.
إن من أراد أن يحصر الشعر في تعريف محدود لكمن يريد أن يحصر الحياة نفسها في تعريف محدود، فالشاعر لا ينبغي أن يتقيد إلا بمطلب واحد يطوي فيه جميع المطالب، وهو «التعبير الجميل عن الشعور الصادق»، وكل ما دخل في هذا الباب - باب التعبير الجميل عن الشعور الصادق - فهو شعر وإن كان مديحا أو هجاء أو وصفا للإبل والأطلال، وكل ما خرج عن هذا الباب فليس بشعر وإن كان قصة أو وصف طبيعة أو مخترع حديث.
كذلك يبلغ من ضيق الوعي وركود النفس ببعض النقاد أن يحصروا كل باب من أبواب الشعر في نمط لا يعدوه ولا هم يتخيلون غيره، فيقولون مثلا: إن الغزل لن يكون إلا هكذا وإلا فليس هو بغزل، وإن الوصف لا بد أن يجري هذا المجرى وإلا فليس هو بوصف، ويحسبون أن النفوس لا تحس إلا على وتيرة واحدة ولا تعبر إلا على أسلوب واحد، فإذا سمعوا غزلا فينبغي عندهم أن يكون على مثال الأغاني التي يسمعها العامة في المراقص والأندية، أو على مثال يشبهه وينحو نحوه! وقس على هذا مذهبهم في سائر الأبواب: من أحب البحتري فليكن الوصف عنده بحتريا، ولا وصف على الإطلاق! ومن ألف حكمة المتنبي فلينظم الناس له أبياتا على طرازها أو لا ينظموا على أي طراز! ومن عرف أن «الاجتماعيات» مجال محمود في بعض الدواوين فحرام على الدواوين كلها أن تتسع لغير الاجتماعيات! ومن ظن أن الملاحم الكبيرة أثرت على كبار الشعراء، فالشاعر الذي لا ملحمة له ليس بشاعر كبير!
لقد سميت إحدى قصائد هذا الديوان «بالغزل الفلسفي» تحديا لهذا الضيق السقيم والحجر العقيم، فقد أضحكني بعضهم حين سألني متباصرا: وهل الغزل الفلسفي مما يصلح لاستهواء الحبيب؟ فقلت له: ومن الذي زعم أننا لا نتغزل إلا لاستهواء الأحباء؟ إنك حين تناجي القمر لا تعني أن تستهويه أو تخاطبه بما هو أدنى إلى إدراكه، وإنك حين تحكي شعورك بالرياض والأزهار لا تفقه عنك الرياض والأزهار حرفا مما تحكيه، ولكنك تناجي وتحكي وتتغزل لأنك تعبر عما في نفسك قبل كل شيء، فالغزل تعبير عما تشعر به حين ترى الوجه الجميل والخلق القويم، وإذا كانت بعض القرائح تستحضر جمال الحياة بأسرها وما تنطوي عليه من الأسرار حين تنظر إلى الوجوه الجميلة، فلماذا يحرم عليها أن تمثل هذا الشعور؟ وإذا كانت بعض الطبائع تقرن بين الجمال وما تستحقه الدنيا من التفاؤل والتشاؤم وما يغمرها من الخير أو الشر، فلماذا يحال بينها وبين التعبير؟ ألأن الجمال لا يقع في معظم النفوس إلا موقع الغناء في المراقص يحتم على الشعراء أن يغرقوا في المراقص طوال الحياة؟
إن ضيق نطاق الحياة هو الذي يلقي في روع الأغمار هذه الأوهام عن الشعر وأبوابه ومراميه، بل ضيق نطاق الحياة هو الذي يلقي في روعهم أن الشعر جانب والجد جانب آخر وأن هذين الجانبين لا يلتقيان، فبين يدي كلمة للمغامر الإنجليزي لورنس يقول فيها: «إن رجال العمل عندنا ينطوون على جانب من الشاعرية بقسطيها من صلاح وطلاح.» وبين يدي كلمة مثلها للحاكم الإيطالي «موسليني» يقول فيها للمؤرخ أميل لدفج: «إن الرجل السياسي ينبغي له أولا وآخرا أن يكون صاحب خيال، فإن لم يكنه جف ولم يبلغ قط شيئا يكتب له الدوام، ولست أقول هذا عن رجل السياسة وحده لأنه ما من إنسان كائنا ما كان يصل إلى شيء يذكر بغير الشاعرية والخيال.» وقد علمنا كيف أن «هريو» الوزير الفرنسي كان يشتغل بوضع كتابه عن هوغو بين شواغله الجسام التي قلما يضطلع بمثلها وزير، وأمثال هؤلاء كثيرون حيثما يتسع أفق العمل والشعور والإدراك.
فالنظر إلى الدنيا لن يتسع ولن يصح ولن يكمل إلا بخيال كبير يستوعب ما يراه ويقيس ما غاب على ما حضر، وما يمكن على ما أمكن، وما يتمخض عنه المستقبل على ما درج في ألفاف الزمان، وتلك ملكة لا غنى عنها لعامل ولا عالم ولا شاعر ولا قارئ ولا متعلم، وما دام أناس منا يجهلون مدى اتساع الحياة فلا عجب أن يجهلوا مدى اتساع الشعر، ولا بدع أن يهبط في مراتب الوجود إلى أفق دون أفق المشرفين على رحبه الشاسع الفسيح.
لقد رأينا دواوين لبعض الشعراء يستغرق ما فيها فضاء محدود يقاس بعشرات الأشبار، فأين بقية آفاق الوجود؟ أين غرائب الإحساس التي تختلف إلى غير نهاية في كل طور من أطوار النفوس؟! إنك لن تستطيع أن تفرضها فرضا إذا أنت قنعت من الدنيا بما تمثله لنا أشعار الناظمين المحدودين، فلنفهم شأن الخيال في توسيع الدنيا والسيطرة عليها نفهم شأن الشعر الصحيح، ولنفهم شأن الشعر الصحيح نحطم تلك السدود التي يحبسنا فيها أصحاب التعريفات من الجامدين أو المقلدين في كراهة التقليد، ولنذكر أبدا أن «التعبير الجميل عن الشعور الصادق» عالم لا ينحصر في قالب ولا يتقيد بمثال.
عباس محمود العقاد
تأملات في الحياة
الخلاصة الأولى والأخيرة
صح جسما فشاقت الأرض عيني
ه جمالا وفتنة وضياء
صح نفسا فشاهت الناس حتى
كره الأرض حوله والسماء
عجبا للحياة ما سر فيها
جانب ترتضيه إلا أساء
الهداية
كم في السماء نجوم
ضلت سواء السبيل
وأنت في الأرض تبغي
هديا بغير دليل؟
سحر الدنيا
سحر دنياك يا أخي قديم
سوف يبقى، ويذهب الكهان
أفيمضي بسحرها كاهن ما
ت وفيها الشموس والأغصان؟
أفيمضي بسحرها كاهن ما
ت وفيها الثغور والأجفان؟
أفيمضي بسحرها كاهن ما
ت وفيها الألحان والألوان؟
كاهن الأولين أول مسحو
ر، وفي كل حقبة ترجمان
سحر دنياك دائم حيثما دا
م عليها الإنشاد والتبيان
سحر دنياك دائم حيثما دا
مت عليها الحياة والإنسان
مسودات الحياة
تأمل ترى الأحياء عجما كأنها «مسودة» للخلق لما تنقح
ويا رب سر في كلام «مسود»
يعود فيخفى في الكلام المصحح
أراها كإخوان تفاوت حظهم
وميراثهم من سابقين ورزح
فمن حائز نعمى أبيه وأمه
إلى خاسر رفديهما أو مطرح
ومن يلقهم يلق الحياة كأنها
حبت طفلة من مهدها المترجح
جلال الموت
أرى في جلال الموت إن كان صادقا
جلالة حق لا جلالة باطل
فلا تجعلن الموت حجة كاذب
لمدحة مذموم ورفعة سافل
المعروف والمنكر
كل ما تصنع الحياة يرجى
من بنيها قبوله واغتفاره
فإذا أنكروا قبيحا ففي القب
ح من الموت لونه أو شعاره
ذاك لب اللباب في كل رأي
شط بالفكر أو تدانى مزاره
رأي واحد في وضعين مختلفين
زعموا الإنسان قردا
قد ترقى وتحلى
وأناس يزعمون ال
قرد إنسانا تدلى
هو رأي واحد نق
لبه علوا وسفلا!
فلسفة حياة
مسائل الفلسفة الكبرى هي: (1)
مسألة الإله. (2)
مسألة الحياة بعد الموت. (3)
مسألة السعادة في الدنيا. (4)
مسألة الخير والشر والحلال والحرام.
والقصيدة التالية تنتهي بالقارئ في كل مسألة من هذه المسائل إلى رأي نوجزه هنا ولا نعرض لأسبابه وبراهينه؛ لأنها مما يضيق عنه المقام.
فأما في مسألة الإله، فخلاصة القول أن الإله الموجود في كل مكان كفيل أن يصل إليك إذا أنت لم تصل إليه، وأن يعرف حقيقتك إذا عجزت أنت عن عرفان حقيقته، وفي هذا عزاء لمن رام العزاء.
وأما في مسألة الحياة بعد الموت، فخلاصة القول أن خيال الإنسان لن يحيط وصف تلك الحياة، أو لن يصل في شأنها إلى وصف يستقر عليه، فهو لا يرضى أن تكون الحياة الأخرى كهذه الحياة الدنيا؛ لأنه يطمح أبدا إلى كمال بعد نقص وغبطة بعد ألم، وهو لا يرضى أن تكون الحياة الأخرى مبدلة مستحيلة؛ لأنه متى تغير شعوره وتبدلت مداركه ومقاييس نظره أصبح مخلوقا آخر، وأصبح النعيم الذي يرجوه كأنما هو نعيم مكتوب لإنسان سواه ... فهو يحب أن يغير حياته ولا يحب أن يغيرها في وقت واحد! ... والخروج من هذه الحيرة لن يكون إلا على حالة فوق ما يعقل وفوق ما يتخيل.
وأما مسألة السعادة، فالرأي في القصيدة أن ترك الدنيا كما يتركها عباد الهند خطأ، وأن التهالك عليها كما يتهالك عباد الحضارة خطأ كذاك، وأيا كان الحرمان الذي يمنى به الإنسان فيشقيه، ففي الدنيا ولا ريب نعم جزيلة لم يحرمها قط إنسان يحبها ويشتاقها، وتلك هي محاسن الطبيعة والإعجاب بالجمال حيث كان.
وأما مسألة الخير والشر والحلال والحرام، فالرأي في القصيدة أنه لا حرام في الجمال ولا حلال في القبح، فالفعل القبيح هو الفعل الحرام، ومن تجنب أن يشوه جميلا أو ينقص كاملا فهو في حل من أن يصنع ما يشاء:
الغرام الملك، والملك الضياع
هات لي الحسن الذي ليس يضيع
ليلة قمراء، أو سحر سماع
أو قصيدا راق، أو زهر ربيع
قال قوم زينة الدنيا خداع
قلت: خير! بالذي نشري نبيع •••
زاهد الهند نعى الدنيا وصام
أنا أنعاها ولكن لا أصوم!
طامع الغرب رعى الدنيا وهام
أنا أرعاها، ولكن لا أهيم
بين هذين لنا حد قوام
وليلم من كل حزب من يلوم •••
أيها السائل: ما بعد الممات؟
يمم الصحراء وانظر قفرها
ما وراء القبر في قول الثقات
حالة تحمد يوما سرها
لست بالراضي حياة كالحياة
لا ولا ترضى حياة غيرها •••
يعبد الأقوام ما يخشونه
وأنا أعبد ما لست أخاف
ليس ينسى الله من ينسونه
فعلام البحث فيه والخلاف؟!
إن وصلتم أو وقفتم دونه
لم يقف دون مقام أو مطاف •••
شرعك الحسن فما لا يحسن
فهو لا يحلو، وإن حل الحرام
ليس في الحق أثام بين
غير مسخ الحسن أو نقص التمام
ما عدا هذين مما يمكن
فاستبحه، وعلى الدنيا السلام
الحظان
قسم حياتك بين حسن بارع
يذكي الحياة، وحكمة تنميها
ما في سوى الحظين من أمنية
للمرء ينشدها ويستبقيها
إنذار الغضب إلى الحق المحتجب
يا حق لا تبرح خباءك
أتعبتنا سعيا وراءك
فيم الإباء؟ ولم نكن
يا حق إلا أصدقاءك
فالزم مكانك في الثرى
إن شئت، أو فالزم سماءك
ما الروضة الغناء ذا
بلة إذا حرمت ضياءك
والناس لا يجفوننا
يوما، إذا علموا جفاءك
والحسن عند المبطلي
ن، وعند من يهوى عداءك
ما فاز من يرجو رجا
لك في الحياة ولا نساءك
أنا إن سلوتك لم أكد
أشتاق ما يغني غناءك
يا حق هذا حدنا
فاختر ظهورك أو خفاءك
إن جئتنا طوعا فجئ
أو لا فلا تبرح خباءك!
رعونة الحياة
فيم اقتحام جنين واهن عطل
أرضا أبوه بها حيران مهموم
هي الرعونة في طبع الحياة ثوت
وإنما حكمة الأقوام تعليم
حكمة جهل الأطفال!
تجمع في إهاب الطف
ل كل غرارة الدنيا
ليطرق بابها طوعا
ويدرج فوقها حيا
أيترك بطن والدة
لو ان لمثله رأيا
لأمر ما دخلناها
ولا عزما ولا وعيا
كلنا شجعان
ما شجاع وجبان؟
نحن شجعان جميعا!
كل مولود تراه
داهم الحصن المنيعا
أولم يطرق جنينا
عسكر الكون الوسيعا؟
جاءه فردا ولم ير
جع كما جاء سريعا
حكمة التوائم
حكيم ذلك التوأم
ومن آبائه أحزم
تهيب أرضهم فردا
فجاء بصاحب ملزم!
ولو جاء بجيش كا
ن في تدبيره أحكم!
حب الدنيا، معجزة خارقة
هل هذه الدنيا جميلة والأوامر الإلهية هي التي تنهانا أن نسعد بجمالها ونفرغ لمحبتها؟ أو هي دميمة والقدرة الإلهية هي التي تحببها إلينا وترغبنا فيها؟
الجواب في القصيدة التالية أنه لا قدرة - دون قدرة المعجزات والخوارق - تستطيع أن تحبب هذه الدنيا إلى الناس، على ما بها من الآفات والأرجاس!
قالوا الدنيا الحسناء سها
عنها رب لا يقبلها
بل قالوا: يحجبها عنا،
أو ينهاها، أو يعقلها
ونرى الشيطان يزينها
ونرى الشيطان يدللها
يا قوم ألا عين نظرت
هذي الشوهاء تمثلها؟
ما يقدر إلا رب الكو
ن يحببها ويجملها
لولاه قتلنا أنفسنا
أو لم نعذل من يقتلها
أفهذي دنيا نعشقها
لولا رضوان يكفلها؟
من شك فهذي قدرته
فليعرفها من يجهلها!
الحياة والتفكير
ما لي أفكر في الحياة ولا أرى
شيئا يقر بها على التفكير؟!
إني مضيت بها انقطعت كأنني
شجر على الدنيا بغير جذور
خذ من الحياة
الموت طراق على ال
أبواب، عاف
1
كالعفاة
الموت أخاذ فخذ
ما تستطيع من الحياة
أم شحيحة
لكل شيء ثمن
قد زعموا من الألم
يا شح دنيا لم تجد
إلا تولاها الندم
لا ترضع الأبناء إلا
بدواة وقلم
وبالربا مضاعفا
غولط في كل رقم!
على بحر الحياة
أمن نظرة الآباد والمثل الأعلى
إلى اليوم بعد اليوم والنظرة العجلى؟
لقد كانت الأجيال عندي قريبة
فقد عادت الساعات توسعني ثقلا
نظرت إلى عليا الحياة أرودها
فألفيتها صفرا، ولم أحمد السفلى
فآليت أقضيها كمن راح طافيا
على اليم، لم يضرب يدا فيه أو رجلا
فإن شئت قل هذا غريق وإن تشأ
فقل سابح لم يدر أقبل أم ولى
نقمة في نعمة
نعمة الإحساس ما برحت
نعمة في طيها نقم
لا يحس الفقد فاقدها
ونصيب الواجد الألم
بنية قوية
تعاقب السوس والجراد وما
باد ربيع ولا انطوى شجر
فلا تخف آفة ولا غيرا
يمنى بها في الضمائر البشر
دنياك هذي قوية صمدت
لكل شر جرى به القدر
ما فوق الحياة
يا طالبا فوق الحياة مدى له
يعلو عليها هل بلغت مداها؟
ما في خيالك صورة تشتاقها
إلا وحولك لو نظرت تراها
ولو استويت على الخلود وجدتها
كفؤا لعينك لا تروم سواها
سر أبي الهول
أكرهونا على هواك وقالوا
أنت يا عالم الشقاء حبيب
إن يكن فيك يا أبا الهول سر
فهو هذا الهوى الخفي العجيب
من دعانا إلى هواك؟ أجبني
نحن أم أنت أم سميع مجيب؟
زميلان في البيت، عدوان في الطريق
لا حين كانوا مؤمنين تقيدوا
بهدى، ولا حين استرابوا في الهدى
الطبع والإيمان إن سكنا معا
ركبا الطريق هنيهة فتفردا
على الشاطئ
وردوا البحر فأهلا
بهم - يا بحر - أهلا
أنت لا تحفل منهم
من ولى أو من تولى •••
نزلوا شطك غيدا
وشبابا ومشيبا
طلبوا في الماء بردا
فذكا الماء لهيبا •••
وردوا البحر عطاشا
رشفوه غرفوه!
لو يكون البحر بحرا
من سرور نزفوه
المساكين يريدو
ن من الدنيا اتساعا
اخدعوها، فهي لا تو
سعكم إلا خداعا •••
وإذا لاحت بوجه
يملأ الأبصار رعبا
فاضحكوا منها وقولوا
ما أحيلى! ما أحبا! •••
وإذا مدت إليكم
بيد فيها الحمام
فخذوا الموت وقولوا
هو خلد وسلام!
نصف رغيف
عجبي للحياة أشرف ما تح
ويه وقف على الحقير الطفيف
صفحات السماء والأرض طرا
والمعاني من تالد وطريف
والوجوه التي تشوقك حسنا
تنطوي إن فقدت نصف رغيف
لا ضيف في الخان
إيه يا دنيا! لو اسطعت سماعي
قد نزلنا منك في غير اتساع
أكرمينا حيثما تدعيننا!
أو دعينا من لقاء ووداع
قالت الدنيا: ولم أكرمكم؟!
كلنا في الحق مدعو وداع
حبذا الخان! فلا ضيف هنا
إنما تجزى متاعا بمتاع
في جانب الهرم
دعا به هاتف من جانب الهرم
بين الظلامين من ليل ومن قدم
تمل ما شئت من سخف ومن عظم!
هنا التقى السخف في التاريخ بالعظم
ما خلد الدهر شيئا قط نعلمه
إلا وفيه من الأنوار والظلم
طفل على البحر
عدا على البحر جذلانا فقلت له:
هل قصر البحر أو أربى على الأمل
فقال في لثغة الطفل البريء وفي
صراحة الطفل قولا بين الخطل
يا حبذا البحر في عمق وفي سعة
لو كان من سكر أو كان من عسل!
كذلك الناس في بحر الحياة لهم
سخف من القول في صدق من العمل
لا تلق بالا إلى ما ينطقون به
وانظر إلى ما تولاهم من الجذل
2
ذات وجوه
وجوه حياتنا متعددات
ودع عنك البراقع والطلاء
فإن تحمد وسامتها صباحا
فقد تنعى دمامتها مساء
قبرة شلي
للشاعر الإنجليزي «شلي» قصيدة ساحرة يناجي بها القبرة الشادية، وللشاعر الإنجليزي «توماس هاردي» قصيدة حزينة يود فيها أن يستنقذ من ركام الأرض أشلاء تلك القبرة الهزيلة التي هاجت خيال «شلي» الفياض.
وقد نظمت الأبيات التالية عقب تلاوة هذه القصيدة الأخيرة:
فيم افتقادك جسم قبرة ثوى
في الأرض بين رمائم وحفائر؟
الأن صوت الشعر خلد صوتها
تبغي الخلود لجسمها المتطاير؟!
خذ ما بدا لك من ثرى الدنيا تصب
فيه رفاتا هاج مهجة شاعر
ضلال الخلود
كان في الأرض قبل عشرين ألفا
من سني الأرض، شاعر عبقري
كان، لا شك فيه عندي ولا مي
ن، وإن شك جاحد وغبي
نظم الشعر في الحسان وحيى
قبلة الشمس وهو داع شجي
ليت لي من قصيدة بيت شعر
في ثنايا البلاد يرويه حي
ليت لي من قصيدة فرد بيت
صح أم لم يصح من الروي
أشتري بيته بديوان شعبي
ن فأين المساوم الصيرفي
ضلة للخلود نأسى عليه،
أخلد الخالدين فيها دعي!
النور
إذا كان النور مما يحس بالعين فليس يلزم من ذلك أن العين هي الوسيلة الفريدة بيننا وبين النور؛ إذ نحن نحسه بأرواحنا وبكل ملكة روحانية فينا، فنشعر أنه والحياة من معدن واحد في عنصرها المحسوس وعنصرها المجرد على السواء ... وإلى أين ينتهي بنا تحليل النور على أيدي علماء الطبيعة فضلا عن الفلاسفة والمتصوفة؟ ينتهي بنا إلى أنه «معنى» يشبه المعاني المجردة في الكنه والقياس، ولو أمكن تحليل الفكر على هذا النمط لالتقى بعنصر النور التقاء القريب بالقريب، وهذا شعور شعرنا به من قديم في الدواوين الأولى قبل أن يصل العلماء إلى تحليل النور على النمط الحديث، وقد عدنا إليه في هذه الأبيات:
النور سر الحياة
النور سر النجاة
النور وحي النهى
النور وحي الصلاة
النور شوق الفتى
النور شوق الفتاة
المحه بالروح لا
لمح العيون الخواة
ما تبصر العين من
معناه إلا أداة
هذا سبيل الهدى
لا ما افتراه الهداة
الشمس
أرى الشمس روحانية في جمالها
وإلا فما بال النفوس بها تسمو؟!
إذا فاض منها النور هزت قلوبنا
سعادة روح ليس يعرفها الجسم
ولو أنها من لذة الحس عفتها
كما قد يعاف اللمح والسمع والشم
كرهت من الدهر الكثير ولم يزل
بقلبي من شمس النهار هوى جم
ترى كل يوم وهي عندي كأنها
غريب عرا، لم يدر وصف له واسم
عجبت لأرض تخطر الشمس فوقها
وتشرق فيها، كيف يطرقها الغم!
إلى غاندي حين أعلن الصيام
أتيت إلى الدنيا العريضة عاريا
وتقضي بها جوعا، وما عز مأكل!
تركت لهم حتى الطعام فقل لنا
على أي شيء بعد موتك تقبل؟!
إذا البؤس والحرمان كانا شفاعة
لعالمك الأعلى، فما هو أفضل
إذا كان ما ندعوه بؤسى غنيمة
لمن يطلب النعمى فبئس المعول
الوجه الفيلسوف
أرى لك أنت فلسفة صراحا
بلمح العين أقرأها جميعا
أذم العيش في ألفي كتاب
وتعرض لي فأمدحه سريعا
إذا ما الفيلسوف أطال سخطي
على لؤم الحياة فكن شفيعا
غنيت عن الأدلة والأحاجي
ومن حاجاك
3
لم يك مستطيعا
خواطر في شئون الناس
القدر يشكو
صغير يطلب الكبرا
وشيخ ود لو صغرا
وخال يشتهي عملا
وذو عمل به ضجرا
ورب المال في تعب،
وفي تعب من افتقرا
ويشقى المرء منهزما
ولا يرتاح منتصرا
ولا يرضى بلا عقب
فإن يعقب، فلا وزرا
1
ويبغي المجد في لهف
فإن يظفر به فترا
ويخمد إن سلا، فإذا
توله قلبه زفرا
فهل حاروا مع الأقدا
ر أو هم حيروا القدرا!
شكاة ما لهم حكم
سوى الخصمين، إن حضرا
الحمد المعكوس
يا رب حمد لم ينله الذي
قد ناله إلا لهجوي أنا
ورب هجو طاف بي لم يكن
يطوف بي لو لم أكن محسنا
عدل الموازين
إنا نريد إذا ما الظلم حاق بنا
عدل الأناسي لا عدل الموازين
عدل الموازين ظلم حين تنصبها
على المساواة بين الحر والدون
ما فرقت كفة الميزان أو عدلت
بين الحلي وأحجار الطواحين
الخبز والفقير
أحسب الخبز لو درى لتأبى
في يد الجائع الفقير إليه
إنما تسلس الطلاب جميعا
لامرئ هانت الطلاب عليه
عداة مريحون
نعم العداة تكفلوا بمدائحي
لما استحقوا الذم والتعذيرا
وتكفلوا بالثأر منهم كلما
ملأوا صدورهم لظى وسعيرا
حملوا المتاعب واسترحت فلم يزل
سعي العداة موفقا مشكورا
عم صباحا، عم مساء
عم صباحا عم مساء
ذهب العمر هباء!
أقبل الصبح وولى
ومضى الليل وجاء
وأخذنا ورددنا
فحكى الأخذ العطاء
ولقينا أصدقاء
وفقدنا أصدقاء
فشقينا بولاء
وتملينا عداء!
وعشقنا وتركنا
حب من سر وساء
من عشقناه ومن لم
نره قط سواء
وعرفنا الحق أحيا
نا فلم نعرف هناء
وجهلنا الحق أحيا
نا فلم نجهل شقاء
وقتلنا الجسم والرو
ح سقاما وشفاء
ثم نمضي حيثما نم
ضي سراعا أو بطاء
لم نزد في الأرض مملو
ءا ولم ننقص فضاء
عم صباحا يا زماني!
يا زماني عم مساء!
شطور
دليل على أن الكمال محرم
إناث خلقن بينها وذكور
فما المرء في جسم وروح بكامل
ولكن كل العالمين شطور
سوء الظن
من ساء بالناس ظنا دون ما ألم
أحق عندي بسوء الظن والتهم
أسئ ظنونك لكن مكرها أبدا
كمن يظن ببعض الآل والحرم
البرهان المحسوس
تعب الفلاسفة الكرام ليهدموا
حجج الشرور ويدعموا البرهانا
وأرى الدمامة في وجوه جناتها
عصفت بفلسفة الشرور عيانا
الآمال
كانت الآمال تحملني
فأراني اليوم أحملها
إن أحلاما تعللني
غير أحلام أعللها
سر في طريقك
سر في طريقك بين اللائمين ولا
تحفل بمن جد في لوم ومن لعبا
فالناس يرضون عمن ليس يحفلهم
ويغضبون على من يحفل الغضبا
اعرف ما ترميه، تعرف ما تجنيه
تعلم كيف تستغني
إذا ما شئت أن تغنى
فمن يجهل ما يلقى
فقد يجهل ما يجنى
إنصاف الظالم
أنصفت مظلوما فأنصف ظالما
في ذلة المظلوم عذر الظالم
من يرض عدوانا عليه يضيره
شر من العادي عليه الغانم
عزاء
لا اليأس أول يأس
ولا الرجاء بسرمد
فإن تقضى رجاء
فإنه يتجدد
أو حل يأس فأهلا
إن الطريق ممهد
شق الطريق قديما
فالعود أهدى وأحمد!
الخلاصة
ليست خلاصة كل شيء غنية
عنه، وإن كانت خلاصة ماهر
فالشهد وهو خلاصة الأزهار لا
يغني العيون عن الربيع الزاهر
تكاليف العظمة
كن عظيما ولا تلومن إلا
همة كلفتك هما جسيما
كل راج يلقي عليك مناه،
فإذا خاب كنت أنت الملوما
تنصف الأمة الضعيف ولا تن
صف يوما عظيمها المظلوما
رب عبوسة خير من بشاشة
إذا ما تبينت العبوسة في امرئ
فلا تلحه، واسأل سؤال حكيم
أجل سله قبل اللوم فيم انقباضه
وفيم رمى الدنيا بطرف كظيم
لعل طلاب الخير سر انقباضه
وعلة حزن في الفؤاد مقيم
فما تحمد العينان كل بشاشة
ولا كل وجه عابس بذميم
قطوب كريم خاب في الناس سعيه
أحب من البشرى بفوز لئيم
وصايا معكوسة
من عمل بها فلعيه وزرها.
ومن لم يعمل بها فأجره على الله!
إذا قال الرجل لرسوله: «اذهب إلى السوق فهات عنبا حامضا!» فليس معنى ذلك أنه يطلب العنب الحامض وإنما معناه أنه يأباه وينبه إلى اجتنابه، وكذلك هذه الوصايا إنما هي وصايا أسف وتحذير وليست بوصايا رضا وترغيب، والقصد منها أن تصف ما يقع أحيانا بين الناس، وتنكر أن يشيع:
الضعة والشرف
وال المدنس بالعيوب ولا تكن
يوما وليا للنبيل الطاهر
فذوو المعائب لا تناحر بينهم
والنبل فيه سبيل كل تناحر
وذوو المعائب آمنون لمن وفى
والنبل ليس بآمن للغادر
وذوو المعائب ما لهم من حاصر
والنبل محصور قليل الناصر
وذوو المعائب يسترون خلالهم
والنبل ما لهناته من ساتر
وذوو المعائب عذرهم في نقصهم
والنبل ما لكماله من عاذر
وذوو المعائب ينعمون بحظهم
والنبل ما لشقائه من آخر
ولرب ربح فات من ذي ذمة
يسعى إليك مع الخئون الخافر
رأي السلامة إن أردت فخذ به
أو لا فدعه إن استطعت وخاطر
مصائب النخوة
لا تكن موئلا لآمال قوم
سوف تمنى بيأسهم منك بعد
وأخف ما استطعت منهم يخالوا
أمنهم من أذاك غنما يعد
أن في طينة ابن آدم لؤما
يستوي في قذاه حر وعبد
بمن تثق؟!
ثق بالرذيلة تلقها
في كل حين حاضره
إن الفضيلة قلما
تلقاك إلا عابره
حتى الأفاضل عرضة
لهوى الهنات البادره
ما كل يوم يرتجى
عطف النفوس الطاهره
ومن النوادر أن ترى
عند التعطف قادره
من لم يدر في دهره
دارت عليه الدائره
من تكون؟ ومن لا تكون؟
كن بينهم «بوذا» فإن لم تطق
فكن كتيمور ونيرونا ...!
أو عش معافى بينهم لا ترى
إصلاحهم دنيا ولا دينا
قد ضل من يطلب إصلاحهم
لا غرو أن سموه مجنونا!
يأمنهم من فاتهم طائعا
أو ساقهم كرها مطيعينا
أو راح فيهم طالبا نفعه
لا عاليا يأبى ولا دونا
من هان أو هان الورى عنده
أو سامهم في ظلمه الهونا
أولئك الرهط الذي لم يزل
يأمن ما يخشى النبيونا
يا بؤس أرض لا نرى فوقها
إلا طغاة أو مراثينا
الخلاصة الأولى والأخيرة
هما سبيلان من يبغ السلامة لا
يأسف على الحق أو يحلم برؤياه
ومن بغى الحق في الدنيا فلا أسف
على السلامة إن خانته دنياه
قد يهجر الأمن من ذلوا ومن وهنوا
وما تفرق قط الهول والجاه
فاختر لنفسك: إما المجد في خطر
أو الهوان، وقد تشقى ببلواه
وما اختيارك إلا ما خلقت له
إن الطبائع ما ترضاه نرضاه
عداوة الرجال وعداوة الأفكار
قصدوا الرجال ورحت أقصد دونهم
إرضاء آمال لمصر كبار
فجنيت أحقاد الرجال وما جنوا
حقدا من «الآمال» والأفكار
ولعلهم إن جاء يوم حسابهم
كسبوا من «الآمال» كل فخار
لولا الطبائع ما توسل عاقل
أبدا بغير وسائل الفجار
صراع بين ندين
بعض المجرمين يوصفون بقوة العقول؛ لأنهم صرعوا ضمائرهم ومضوا خفافا في طريق النجاح، ولو كانت ضمائرهم حية قوية لما استطاعوا قهرها ولا وصفهم أحد بكبر العقول، فرب عقل صغير غلب ضميره؛ لأن ضميره ميت لا يتحرك، ورب عقل كبير عنا لضميره لأن ضميره أكبر ... فخير لمن يصف عقلا بالقوة أن ينظر إلى الندين، وأن يرجع في حكمه إلى أصول الصراع!
صرع الضمير الميت فالتفتوا
يتعجبون لعقله العاتي
ليس الصراع بفن مقدرة
ما بين أحياء وأموات
ولرب عقل للضمير عنا
تعنو العقول له زرافات
صور الرجاء
أمسيت أذكرها ما مضى من صبوتي
والذكر آمال الزمان الغابر
قد ييأس الإنسان من غده ولا
تلقاه ييأس من حنين الذاكر
ما شئت من صور الرجاء فلذ به
بعض الغد الآتي كأمس الدابر
شفاعة العفو
إن الإساءة إن رجعت بها إلى
أصل غرست لها جذورا في الثرى
من علل الأشياء رد دفينها
حيا ويابسها المحطم أخضرا
أولى بمحو الذنب أن يلقى به
كالفرع جف على الثرى فتكسرا
قصص وأماثيل
أكاروس
قصة «ديدالوس» و«أكاروس» تروى على روايات كثيرة في الأساطير اليونانية القديمة، وقد اخترنا هذه الأسطورة لنظمها والتعليق عليها؛ لأنها تجمع العبرة والمتعة الخيالية، وهذه هي خلاصتها: ديدالوس بطل كانوا يضربون به المثل للقدرة الخارقة في الصناعة وحسن الحيلة في تذليل المصاعب والخروج من المآزق، وزعموا أنه غار من ابن أخته الذي كان يتعلم على يديه فقتله وأخفى جثته، ثم خاف العاقبة فهرب من أثينا ومضى يضرب في البلاد برا وبحرا، حتى نزل «كريت» على صاحبها «مينو» فلقي عنده كرامة وحسن وفادة، وأمل «مينو» أن يستفيد من علمه وقدرته في تحصين بلاده وتعليم رعيته فأبقاه وتكفل له بالحماية وطيب المقام.
وكان لمينو زوجة جامحة الهوى تحب ثورا مشهورا في الأساطير باسم «منوطور»، فولدت منه طفلا لا إلى الثور ولا إلى الإنسان، وغلب عليها حب الأم فأرادت أن تستحييه وتحفظه في غفلة من زوجها المخدوع، فلجأت إلى ديدالوس تطلب إليه أن يبني لذلك الطفل سردابا مجهول المنافذ تضعه فيه وتتعهده بالتربية والحراسة، فتردد الصانع أولا وحسب حساب الرفض والقبول، ثم قبل أن يصنع السرداب مخافة من دسيسة الزوجة واطمئنانا إلى خفاء الأمر بعد بناء السرداب، ولكن الملك علم به فثارت ثورته وأغلق مسالك الجزيرة ومنع أن يفلت ديدالوس منها هاربا من عقابه، فلما اشتد الحجر على ديدالوس هدته الحيلة إلى صنع أجنحة له ولولده «أكاروس» يطيران بها عن الجزيرة، ونصح الحكيم الصناع ولده ألا يعلو في السماء فتذيب الشمس لحام جناحه ولا يهبط على الماء فيبللهما الرشاش الكثير، ولكن الولد نسي النصيحة وهو في نشوة الطيران والوثوب، فعلا مصعدا إلى الشمس وكان ما خافه أبوه؛ إذ سقط هالكا على صخرة في البحر يبكيه من حولها نبات الماء، فالأسطورة مجال لاستعراض عبر الشهرة والغيرة والشهوة والطماح:
أكاروس هذا مسبح الطير فاركب
وتلك المهاوي من خضارة
1
فاجنب
زوى الغاشم المخدوع عنا سفينه
ونادى، فنحى جنده كل مركب
وظن بنا عجزا، فيا سوء رأيه!
متى حيل ما بين السماء وكوكب
أدر مركب الريش الذي ما استقله
أنيس ولا جن ولا ذات مخلب
وطر نلتمس عبر
2
الشمال ونرتحل
على سنة الطير التي لم تهذب
تراها إذا ضاقت بلاد بسربها
على أهبة في جوها المتقلب •••
ألا وادخر عزما يقودك شرخه
إلى الأوج، فاحفظه لشوط مغيب
وسر قدما إن المطار لواحد
ولكن سبيل الأوج ليس بمقرب
3
أكاروس! إنا هاربان من الردى
فلا تجعل العقبى إلى شر مهرب
توسط فلا تهبط ولا تعل مصعدا
ولا تك من يعلو إلى غير مطلب
فإنك إن تغتر بالشمس ينخذل
جناحك، أو تبتل بالماء ترسب
هنا لافح يوهي اللحام، وها هنا
لريشك وهي من رشاش مرطب
أكاروس، إني باذل لك من يدي
ومن خبرتي ذخر الصناع المجرب
تذكر عظاتي واعلم اليوم أنه
صنيع الحجى لا الكف أنفس مكسبي
ولا تتخذ ريشي وتنس نصيحتي
يخنك جناح الرأي يوما فتعطب
أقل من الصخر امرؤ ضم جسمه
أمانة روح لم يصنها لمأرب
ولي فيك أعمار طوال وللدنى
فأسند إلى عزم الصبا حزم أشيب
حياتك من بعدي معادي، ولن ترى
فتى صالحا يجني الفناء على أب
وللأمس شوق أن يرى الغد طالعا
فإن مات يوم قبل ماضيه فاعجب
4
بني استمع قولي فما بعد نسيه
سبيل إلى تكراره لمعقب
إلى الجو! هذا يا بني وداعنا
وللأرض منا لهفة المتغرب
فإما لقاء بعد فوق صعيدها
وإما فراق شاعب كل مشعب •••
وصاة لديدالوس وصى بها ابنه
ونعم الموصي من حكيم مدرب
صناع له كف كأن أكفنا
من العجز إن قيست بها لم تركب
عليم بأسرار الفنون، وإنها
لتقبس من سر الحياة المحجب
ومن يؤت تصريف الجماد يضف به
أكفا وأعضادا إلى كل منكب
وناهيك ديدالوس من ذي حصافة
قدير على فعل الأعاجيب معجب
يعيرك من يمناه صوله قشعم
5
وخلسة ثعبان وحيلة ثعلب
ويبني فمبناه عماد لأمة
وبيت لأجيال وزين لمنصب
ولكنه بئس الغيور على اسمه
وقد يحمل الغيران أوزار مذنب
تغيط لما بزه فرع صنوه
ولم يرع حق الأخت في ابن محبب
فأصماه، لم يشفق عليه من الردى
وواراه، لم يندم ولم يتحوب
6
وما كان إلا أن نبا بكليهما
فضاء أثينا من مقيم ومعزب
فهذا مسجى في ثراها مترب
وهذا مزجى دونها كالمترب
تشرد واستعدى لإخفاء أمره
ذكاء يريك النجم في جنح غيهب
ووارته من عين الغريم فنونه
وكانت منارا بين شرق ومغرب
وما زال يغروري البلاد ويتقي
تصعد أثناء الذرى بالتصوب
إلى أن تلقته «كريت» وربها
على خير أهل في حماها ومرحب
وأمل «مينو» منه حصنا لملكه
فحصنه «مينو» بملك مؤشب
7
وما ملك إلا له من صناعة
معاقل يبنيها ليوم عصبصب •••
هنالك كان الأمن لو يأمن امرؤ
يخاف ويرجى للمخوف المؤرب
8
تحير ديدالوس ما بين منكر
وشكر، وغب اثنيهما غير طيب
أيحمل شكر الملك أم كيد عرسه
وأنجاهما في طيه سم عقرب
غوت غرس مينو واشتهت، ساء ما اشتهت
من الناس، لا بل من بهيم مذنب
تحن إلى ثور وتهوى اقترابه
وليس ولي العهد منه بمعجب!
فأولدها طفلا له مثل ظلفه
إلى شر وجه آدمي ومنكب
ويا رب أنثى تعشق الثور كلما
سباها فتى بالجسم لا الروح يستبي •••
فمن غير ديدالوس يخفي شنارها
ويرعى مهاد الطفل رعي المؤدب؟!
أهابت به أما وأنثى حريصة
ومالكة حيرى، فلم يتهيب
بنى لسليل الثور حرزا، وليته
تلمس حزرا من غوائل مغضب
غوائل «مينو» حين ثارت ظنونه
وضاجع أشجان المعنى المعذب
وأقسم لا واق من الموت عنده
ولا وائل من سخطه المتلهب
وأهول من هول الخضارم في الدجى
ضراوة مهتوك وغيظ مخيب •••
فلما تنادى الجند وارتجت القرى
وخيف الأذى من حاضرين وغيب
وقالوا: أمن رب الجزيرة حربه
يوقيه عرض البحر أو طول سبسب
أهاب الصناع العبقري بفنه
فلباه، فاستعلى به متن أشهب
9
تسربل من ريش وسربل نجله
خوافق لوى بينها ألف لولب
فحلق مزهوا وفر مظفرا
وأغرى لسان السخر بالمتعقب •••
مضى ناجيا من بأس «مينو» فهل نجا
فتاه من البأس الذي فيه يختبي؟
بلى! قد نجا لولا طماح سما به
إلى الشمس في ثوب من النار مذهب
تعشقها مفتونة فتقبلت
هواه بوجه صادق النور خلب
وأسكره الشوق الجديد فما ارعوى
لنصح نصيح أو لزجر مؤنب
وما هي إلا وثبة بعد وثبة
إلى الشمس حتى عزه كل موثب
تعشقها نارا، فإن جاءه الأذى
من النار، فليعتب فلا حين معتب •••
علا بدم حي وخر مضمخا
به في جناحي أرجوان مخضب
طريحا على صخر تغشيه رغوة
من العيلم
10
الغضبان في غير مغضب
وراحت بنات الماء يندبن حوله،
ومن ير أنقاض الصبا الغض يندب
وما من عزاء للشباب علمته
سوى مدمع من أعين الحسن صيب
إذا جال في حسبانه هان عنده
دموع ذراها
11
الحزن من طرف أشيب
عيد ميلاد في الجحيم
دخل شقي الجحيم، فحسبوه مولودا جديدا في ذلك العالم القديم، ومضى عليه العام فاحتفل بعيد ميلاده، وقال لأترابه وأنداده:
صفوا الموائد واملأوا الأكوابا
وادعوا الصحاب، وبشروا الأحبابا
قولوا مضى عام ليوم هبوطه
هذا الجحيم، فقر فيه وطابا
وبلا المقام فراح يحمد شر ما
فيه، وآدب
12
باسمه إيدابا
هذا الجحيم أحب لي من عالم
ما كان لي إلا رجاء خابا
الشر ثمة كان شرا كاسمه
والخير كان كما علمت سرابا
يشقى بنوه ليعمروه ويجشموا
فيه الشقاء ليرجعوه خرابا
لا يعرفون الحق إن سمعوا به
إلا ليلقوا في الحقوق عذابا
أهون بصاب في الجحيم أذوقه
قد كان ثمة كل شيء صابا
صابا إذا ارتوت الشفاه شربته
بالناظرين، وساء ذاك شرابا
ولرب وجه يومذاك شهدته
فكأن سما في العيون انسابا
وجه اللئيم إذا استهل ومثله
وجه الكريم إذا اضمحل وذابا
ورضا الظلوم وحيرة المظلوم في
بلواه يطرق كل يوم بابا •••
يا صحب حيوا النار في ويلاتها
واحثوا على ذاك التراب ترابا
ما كان من حسن هناك فجهده
أن يخدع الأبصار والألبابا
أو كان من فضل هناك فحسبه
أن يملأ الدنيا عليك صعابا
يا صحب هاتوا من علاقمها لنا
وادعوا الأحبة واشربوا الأنخابا
من عاش عاما في الجحيم فلا اشتهى
أبدا إلى ذاك الجوار مآبا
هو وضميره
هو :
ماذا أقول؟ ظلمته وجحدته
حق الثناء، وإنه لعظيم
ضميره :
قل إنه خير الأنام، وإنه
عالي المقام، وإنه مهضوم
هو :
هيهات! أخسر ذلك المال الذي
تدري مصادره، وأنت عليم!
ضميره :
لك أن تبوح إذن بباطن سره
وتلوم من هو في الخفاء ملوم
قل إن رب المال أثقل خاطري
فكبا بحمل الصدق، وهو كظيم
هو :
أفأنت خصمي يا ضمير؟ أناصح
لي بالجنون؟ أهازل؟ أسقيم؟
أتريد أفضح آجري
13
وأرتدي
ثوب الصغار، فيبرح المكتوم؟
ضميره :
كيف الخلاص؟ إذن تنقص قدره
وامسخ فضائله، ودعه يهيم
قل إنك الرجل الغيور، وإنه
فدم،
14
وإنك بالعقول رحيم
لا ترتدي ثوب الصغار ولا تشي
بالآجرين، وغيرك المحروم
وتروح بين الناس صاحب سمعة
ينفض حولك مسكها المختوم
هو :
بوركت يا هذا الضمير فأنت لي
أبدا بتهوين الصعاب زعيم
الآن فاذهب «تستريح» فإنني
سأظل أقعد غاضبا وأقوم
أولست بالرجل الغيور؟ أجل أنا الر
رجل الغيور! وحبذا التعليم!
كعبة الأصنام بعد الزلزال
كانت الكعبة والأصنام فيها
زينة تأخذ قلب الصب تيها
حفلت في كل ركن بالدمى
15
والدمى مستعبدات صائغيها
هي أصنام لمن يعبدها
أو تماثيل تناجي عاشقيها
عظمت حينا فلما زلزلت
كاد من صلى إليها يزدريها
كان فيها صنم الحق نبيها
16
فتداعى، فبدا مسخا كريها
نزع الزلزال عيني رأسه
فاحتوته ظلمات غاب فيها
وارتمت ساقاه في جانبه
هل ترى داعيه إلا سفيها؟! •••
كانت النخوة فيها صنما
صاغي السمع، كما شئت، نزيها
يخلب الطرف بحسن واضح
وسمات تزدهي من يجتليها
فارتمت أذناه في الأرض لقى
ومضت كف بلا كف تليها
يطلب الغوث ولا غوث له
هل ترى داعيه إلا سفيها؟!
والإخاء المحض كم أبصرته
حيث لم أبصر له قط شبيها
قائما يفتر عن مبسمه
واسع الصدر، يحييك وجيها
شقه الزلزال فانجاب لنا
عن حنايا صدره لا قلب فيها
خير ما في وجهه ظاهره
هل ترى داعيه إلا سفيها؟ •••
وتراءى الحب فيها فتنة
ما اجتواها زائر من زائريها
ضرب الزلزال في أصنامه
فهوت أشلاؤها تنعى ذويها
ما الذي أبقاه من أشلائها؟
سوأة يعرض عنها مشتهيها •••
وهوى تمثال مجد لامع
يخطف العين بنور يعتليها
ملأ الدار علينا جوهرا
زائفا ينطق بالزيف بديها
وقشورا لا تساوي وزنها
من تراب، لن ترى من يشتريها
هي إن قامت جمال فإذا
سقطت، لم تكد العين تعيها •••
هكذا أقوت زوايا كعبتي
وثوت خاوية من ساكنيها
غير أني طائف من حولها
لم أشأ أهجرها أو أبتنيها
لا طواف المتملي
17
حسنها
أو طواف المهتدي من عابديها
بل كمن نقب في جوف الثرى
يجمع الآثار في شتى سنيها
من فراغ لا من الرغبة في
تلكم الآثار، أمسى يقتنيها
أو هي العادة كالطيف إذا
هام بالأجداث يبكي نازليها
بين الشاعر وعروس شعره
كفى يا عروس الشعر خيبت آمالي
وكذبت أحلامي، وأشمت عذالي
إذا ما وعدت اليوم أخلفت في غد
وهيهات لا تبقين يوما على حال
يظل غريرا من أعارك سمعه
وإن عاش أجيالا عفت بعد أجيال •••
كفى يا صديق العهد هيجت بلبالي
وما أنت بالسالي هواي ولا القالي
ملامك فيه الحق، أو فيه بعضه
وما غاب عن ظني ولا بان عن بالي
إذا قلت زورا فهو من صدق شيمتي
ومن يصف الدنيا يصف خيم
18
ختال
إذا هزلت أمي الحياة فهل ترى
من الصدق ألا يطرق الهزل أقوالي؟
بحسبك من عذري إذا ما عذلتني
أمانة تمثيلي، وروعة تمثالي!
إبليس ينتحر
الاستعباد هو الجو الذي تعيش فيه الشياطين لأنه جو الخوف والإغراء، وإبليس يخاف أن يخرج منه إلى جو الحرية كما تخاف السمكة أن تخرج من الماء:
هاتوا لي الخير والهدى جرعا
أبخع نفسي حزنا كمن بخعا
حرية القوم أفسدت خدعي!
لم تبق لي في الأنيس منخدعا
إن منعت لذة حفزت لها
فكيف حفزي من لم يكن منعا؟
أو حجبت شهوة أزينها
فكيف تزيين ظاهر سطعا؟
وإن طغى ظالم له خنعوا
فكيف يطغى إن عز من خنعا
لو دام هذا البلاء واتسعت
حرية القوم ضاق ما اتسعا
واستغنت الأرض والسماء معا
عن الشياطين فانطووا جزعا
ما حاجة الأرض للأبالس في
عهد نضا الخوف عنه والجشعا؟
وكيف تغذوهم بلا عمل
وهي على السعي شأنها اجتمعا؟
وأين يأوونها إذا قشعت
عنها ظلام الدهور فانقشعا
أتى زمان أموت فيه أنا
إبليس يأسا، وفي يدي صنعا
ودعت ملك الدنيا وودعني
ملك إذا هم قلما رجعا
هاتوا لي الخير جرعة فإذا
ضعفت عنه شربته جرعا
سأسبق الموت حين يتبعني
فإنه لاحق إذا تبعا
وصف وتصوير
خليج ستانلي أو حمام البحر في الإسكندرية
يا ويح قلبك من هدف
صال المسدد أم صدف
بين الملاح المفرغا
ت من الأشعة والسدف
1
سمر كما اسمر الجنى
2
بيض كما ابيض الصدف
كشف الخضم طلاءهن
ن، ولا حجاب لما كشف
قف في سبيلك لحظة
وانس الشقاء وما اقترف
حيث الخماص ولا طوى
حيث العراة ولا شظف
3 •••
يا ويح قلبك من هدف
بين البضاضة والهيف «كوبيد»
4
يعرض من سلا
حيه الفخامة والرهف
تلقى الطويلة كالقصي
رة، والسماحة كالصلف
5
برق السحاب طوالها
وقصارها برق خطف
والسهم يقصد
6
إن جثا
رامي السهام أو اشترف
7 •••
يا ويح قلبك من هدف
بين الأناقة والترف
بل بين ألوان الربي
ع قد اختلفن، وما اختلف
ألقى لهن بقوسه
قزح، وأدبر وانصرف
فلبسن من أسلابه
شتى المطارف والطرف
8
وخلعن من ألوانه
تحفا تنم على تحف
عيد الشباب فلا كلا
م ولا ملام، ولا خرف •••
يا ويح قلبك من هدف
بين الصغيرة والنصف
9
ري لمن طلب الهوى
ريا، ولذة من رشف
10
كالزهرة الحسناء أو
كالغصن في الروض العطف
أن تعلما أو تجهلا
فلأنت تعلم ما التلف
ولأنت تعلم ما الجوى
ولأنت تعلم ما الشغف
الحب يرمي عنهما
يا ويح قلبك من هدف! •••
يا ويح قلبك بين ذي
وطن بمصر وذي كنف
11
ما بين شرقي جفا
أو بين غربي عطف
سل عصبه سكنت «جني
ف» تكلف بك أم كلف؟!
تدعين حرفتك السلا
م، وما السلام بمحترف
هذي الملاحة قربت
بين الحدود، ولا جنف
دين الملاحة واحد
ترك المذاهب وائتلف
حرم بميدان الحيا
ة وملجأ لا يعتسف
ما في جوانب بيته
إلا طبيب أو دنف •••
قف في عبورك غير مأ
مور، ومن يعبر وقف
فإذا ذهبت موليا
فاذهب، فكم لك من خلف
قال الجمال فلا تخف
صدق الجمال وما حلف!
هذي المحاسن موسم
أحيت مواسم من سلف
جمعت لعينك ساعة
وغدا تفرقها الغرف
ملأت خليج «ستانلي»
وطغت على أعلى الطنف
12
بحر تتابع مده
والبحر أعيى من غرف
زمر تصباك الظمى
منها وحياك الوطف
13
وعناك من شمم هنا
لك ما عناك من الذلف
14
ورأيت معسول اللمى
قاني الشفاه له ازدلف
15
والشعر من شفق هفا
كالشعر من غسق رجف
والنور في بدر سرى
كالنور في رعد قصف
فتن شهدت زحوفها
كالجيش أهول ما زحف
فهتفت «فليحي الجما
ل» وقد يعاقب من هتف!
هذي معارض صنعة
لله تبهر من وصف
حي الجمال كما بدا
أو لا فدونك والجيف! •••
يا ويح قلبك من هدف
بين التعلل واللهف
كم ذا رأيت، وكم طمع
ت، وكم قنعت ولا أسف
أسرفت حتى قد عرف
ت القصد من هذا السرف
ما زال يطمع من رأى
ما زال يقنع من عرف
مدينة الشمس
صدقوا! فأنت مدينة الشمس
وهبتك من نور ومن قدس
كم للنهار عليك مائدة
من فيضه، كموائد العرس
16
تجد العيون بها كفايتها
ويزيد حظ القلب والنفس
لحسبت أرضك وهي مشرقة
تفتر عن لمحات ذي حس
بعض الضياء إذا نظرت به
أغناك عن سمع وعن لمس
17
شمس أسوان
شمس أسوان في الشتا
ء ارقصي أو تبرجي
إنك الشمس صورت
فوقنا للتفرج
لا لدفء كما ادعوا
أو لتوضيح منهج!
الجسم الخجل
أرى في البحر أجساما تشع
عليها من حياء الحسن درع
إذا ما الماء جمشها تراءى
لها خجل على الأعطاف بدع
وما خجل الخدود وذاك جسم
سنى الخجل المورد فيه طبع؟
القمراء
كلما أشرق في الليل القمر
وسها الناس ولاذوا بالحجر
خلت أرواحا تداعت للسمر
زمرا تهمس من حول زمر
أن هذا الحسن لا يمضي هدر
حينما أسفر نور وانتشر
وحلا في خلوة الليل السهر
فهنا لا ريب حس وبصر
شيمة المسحور يقفو من سحر
غزل ومناجاة
مباراة في مزايا الشفاه
تبارت شفاه حباها الإله
بشتى المزايا، وشتى النحل
لأي الشفاه تجيب السماء
وأي الشفاه هناك الأول •••
فنادى جبابرة العالمين
نداء المدل بأمر جلل
لنا وحدنا صولجان العلا
ومنا الرجاء، ومنا الوجل
إذا ما نطقنا توالت خطوب
وصالت شعوب، ودالت دول
وفي همسة تنجلي فتنة
وفي مثلها يتدانى أجل
ونادى العباقرة الملهمون
صحاح المعاني فصاح الجمل
لنا وحدنا جائزات الشفاه
إذا اختلفت سبلها في الجدل
فمنا الجمال، ومنا الهدى
ومنا العزاء، ومنا الجذل
وبالنطق يكتمل الآدمي
وفينا تكامل حتى اكتمل •••
وأقبل سرب الظباء الملاح
رخيم البغام
1
مليح الكحل
فقال وفي قوله لثغة
كأنك ترشف منها العسل
لنا القول فيكم رجال الكلام
لنا القول فيكم رجال العمل
لمسنا شفاها ففاضت سنى
وجرنا على جائر فاعتدل
ومنا تذوقون طعم الحياة
وهل طعمها غير طعم القبل
تسمونها قبلة واسمها
رحيق الخلود، وريا الأمل •••
فأطرق ربهم لحظة
ونادى بأقربهم فامتثل
وقبل مبسمه قبلة
تضرم منها مكان الخجل
وقال: أجل! تلك أغلى الشفاه
فأصغوا، وقالوا جميعا: أجل •••
بذا حكموا بعد طول المطا
ل، فليسمعوا رأيي المرتجل
إذا التمسوا مثلا للشفا
ه، قلت لهم شفتاك المثل
لثمت الحياة بلثميهما
وعاودت بعد السلو الغزل
المعاني الحية
أمواج حسن زاخره
تلك الوجوه الناضره
فتن على فتن وغا
مرة تليها غامره
طوفان نوح أنتم
ليت السفينة حاضره •••
يا جيرة البحر اقنعوا
منا بعين ناظره
ودعوا القلوب كليلة
ودعوا القرائح عاثره •••
من كل وهاب لكم
نعمى هبات وافره
خلع الإله عليكم
خلل الجمال الفاخره
والبحر نشوة خمره
خمر البحار الكاسره
والشمس ما تهدي الثما
ر الناضجات الباكره
ورأيت رفرفة النسي
م على الجسوم الطائره
فالآن ماذا تنظرو
ن من النفوس الشاعره
لم يبق في كنز الخيا
ل بقية من نادره
برزت معاني الشعر في
ثوب الحياة الظاهره
أنتم معانيه فما
تغني النفوس الحائره
أنتم عرائسه وها
تيك المسارح عامره
هيهات، ما لممثل
أو شاعر من خاطره
ما الترجمان وتلك أس
رار التراجم سافره
فإذا بخلنا بالقصي
يد فعاذر أو عاذره
غزل فلسفي: فيك من كل شيء
فيك من شمس الضحى العين التي
ترسل اللمح مضيئا في الظلام
فيك من بدر الدجى أحلامه
حين يسري نائما بين نيام •••
فيك من كل ربيع طلعة
تنبت النضرة عاما بعد عام
والشتاء الجهم لا يعدوك من
عهده العاصف برق وغمام •••
ما تغنى الطير إلا بعض ما
أنت راويه، ولا ناح الحمام
وإذا الجدول ناغى نفسه
فهي أصداؤك من غير كلام! •••
وصنوف الوحش هل ناظرتها
من نفار بينكم أو من وئام؟
لا انفتال الحوت تنساه ولا
سطوة النسر ولا خوف النعام •••
فيك من نار الحياتين الهوى
هل حياة الحي إلا من ضرام؟
والذي أرهبه وا أسفا
هجرك المدعو بالموت الزؤام! •••
فيك من دنياك نقص رائق
ومن الأخرى تباشير التمام
ومن الأملاك طيب ورضا
ومن الشيطان غي وأثام •••
ومن الخمرة سكراها إذا
أسلست في النفس أو طاش الزمام
ومن القوت غذاء، ومن ال
ماء ري، ومن الجوع هيام •••
فيك من أرضك حظ وافر
وحظوظ من سماء لا ترام
أجديد؟ إي نعم. قال الصبا
أقديم؟ إي نعم. قال الوسام •••
هذه الروعة هل تجمعها
في مدى يوم لحوم وعظام؟
لا وربي! بل دهور غبرت
قبلما تتقنها الأيدي الكرام •••
قبلما تتقنها الأيدي التي
نسقت أنوالها، وهي حطام
من وراء اللب صفا ينتهي
بعد صف، بين سدي
2
ولحام •••
فيك من هندسة علوية
ما استدار الخط فيه واستقام
ومن الفن مثال باذخ
هو للمثال والشادي إمام •••
فيك مني ومن الناس ومن
كل موجود وموعود تؤام
كيف بي أعذل إن أغنيتني
أنت حتى عن شرابي والطعام
إن نفوني اليوم من دنياهم
وأباحوا لي من الزاد المرام
ثم قالوا: ما تشأ منها فخذ!
قلت هذا، وعلى الدنيا السلام •••
قلت هذا، وتقدمت إلى
هوة الغيب ، وفي الثغر ابتسام
كيف لا يبسم من قبلته
تنظم الأوطار طرا في نظام؟! •••
وإذا قبلته مستضحكا
في تخوم الكون، والكون سدام
3
فهي سخري بالذي ودعته
واغتباطي بمقامي حيث قام
نضرة في الشتاء
يا نضرة في الشتاء أبصرها
أبهج من كل منظر نضر
كأنها والعيون تنهبها
والنفس تروى بحسنها العطر
ألف ربيع للعين مدخر
بل ألف حب للقلب مختصر
يا طيب ذاك الإكسير مجتمعا
من حسن شتى الرياض والغرر
أضمه كله وأرشفه
في قبلة كوثرية السكر
الشادن المتحيل
أشهدتني مكر الثعا
لب في الغزال الأكحل
وتركتني أرمي الشبا
ك لقى
4
وأكسر مغزلي
لا ألقينك بعدها
أبدا بفخ أعزل
فخان أولى باقتنا
ص الشادن المتحيل
القبلة
هي كأس من كؤوس الخالدين
لم يشبها المزج من ماء وطين
كلما أفرغتها منتشيا
ملئت من كوثر الخلد المعين
5
وإذا أمتعك الري بها
بدأ الشوق إليها والحنين
قد شربناها معا في ليلنا
فروينا، وافترقنا ظامئين!
حسرة متلفة
يا له من فم
يا لها من شفه!
يا لشهد بها
كدت أن أرشفه
يا لزهر بها
كدت أن أقطفه
حلوة ويحها!
غضة مرهفه
حسرتي بعدها
حسرة متلفه
الجملة والتفصيل
جمعت محاسن في صباك تفرقت
في صنعة الخلاق أي تفرق
في الشمس، أو في الروض، أو في الطير أو
في الجدول المترقرق
فإذا نعمت بها لديك فحبذا
نعماي في ظل الجمال الريق
وإذا ضننت بها رجعت أرودها
في حينما افترقت، ولما نلتق
راووق النور
لا أرى الدنيا على نور الضحى
حبذا الدنيا على نور العيون
هي كالراووق للنور فلا
صفو إلا صفوها العذب المصون
النظرات تلتقي
نظرات العين في العين
جمعت أشواق نفسين
تلك أحلى ما حلمت به
من نعيم في الحياتين
الجسم الضاحك
ثغرك الضاحك، لا بل
وجهك الضاحك، لا بل كل جسمك
لا بل الدنيا التي تو
مض نورا حول نجمك
هكذا فليبسم البا
سم إن شاء كبسمك
أو فينسى البشر حتى
ينقل البشر، بلثمك
لا يلام العابس اليا
ئس إلا بعد لومك
إلى الغرق
دعتك العرائس في بحرها
ففيم الوقوف على الساحل؟
إلى الماء! لا بل إلى السابحي
ن، لا بل إلى الغرق العاجل
فليس على البحر إلا غريق
وإن لم يكن فيه بالنازل!
سواحره احتشدت كلها
علينا. فيا ويح للغافل
لست بلحم ودم
رائع يخطر في مشيته
خطرة الطيف لمن لم ينم
لم يرعني حينما أبصرته
حلما تم تمام الحلم
ما قضيت العمر إلا حالما
كيف بالروعة من ذي قدم
أنت وهم لم تزل في خاطري
لست يا صاح بلحم ودم
مائدة
مائدة أسرف في طهيها
عشرين عاما عبقري الزمان
أكرمنا الطاهي بها ساعة
فكيف بالمكرم يلقى الهوان
حسن وأنس وحياء معا
وطلعة البدر ونفح الجنان
مدت لنا طوعا فما عذرنا
إذا تركنا لقمة في الخوان
6
يوم مزيف
لك وجه كأنه طابع الصد
ق على صفحة الزمان المأوف
7
إن يوما يمر بي لا أراه
هو يوم أعده في الزيوف
سعادة في قمقم
هنا قمقم سابح في الدم
أسائل عنه، ولم أعلم
جهلت خباياه حتى أتى
عريف الطلاسم بالمعجم
8
ففيه كما قيل مسجونة
سعادة بعض بني آدم
تجن جنونا بنور الضحى
وتذبل في حبسها المظلم
وقد زعموا أن إطلاقها
رهين بهمسة ذاك الفم
بسر على شفتي فاتن
يباح إلى شفتي مغرم
فهل أنت مطلقها منعما
فديتك، أم لست بالمنعم
وما أنا بالمشتهي قبلة
ولا بالحريص على مغنم
ولكنما أنا أبكي أسى
لتلك الشهيدة في القمقم
خير ما فيهن
غفر الذنب من بكائي عليك
أنني لا أعود ما عشت أبكي
لا يساوي - وقد تعلمت منك -
نسل حوائكن دمعة شك
خير ما في النساء ساعة ضحك
زهرة لا تذبل
في الصيف يزكو عند مس السموم
أجل، ويزكو عند مس الشتاء
خدك هذا أي نبت يدوم
ريان في كل أوان سواء؟
يا ويلتا من نبت هذي الكروم
فالجوع موصول بذاك النماء
وهل ترانا كل يوم نصوم؟
ليلة البدر
هات لي الذكرى وجدد ما مضى،
عندك الذكرى ورجعاها معا
هات ما كان كما كان انقضى،
أو فجدد غيره مبتدعا
ليلة البدر، وقد كان الرضى
موعد الأهرام نبغي مطلعا
فقضى الله سواه غرضا •••
قد نوينا ونوى الغيب لنا
نية أمتع للمستمتع
خسف البدر وأمسيت أنا
أدعي من نشوة ما أدعي
كلما ناديتني هيا بنا!
قلت: هيا! وأنا في موضعي
السنا عندي فما لي والسنا؟! •••
خسف البدر وما كان الخسوف
شيمة البدر الذي بين يدي
نشر الناس وطافوا بالدفوف
وأنا والبدر في نشر وطي
خل من شاء كما شاء يطوف
إن بدري طالع منه إلي
لا أحب البدر ترعاه الألوف •••
يا سمير الليل يا نعم السمير
ما لنا والصبح ما دمت أراك
أنا في نور وروض وعبير
حينما ألقاك لا ألقى سواك
رشفة من ثغرك العذب النضير
أو من الكأس احتوتها شفتاك
وسلام أيها الكون المنير! •••
هات لي من فيك أنفاس الغرام
أو فقل إن شئت أنفاس الحياة
واسقني الخمرة من أعذب جام
لا من البلور في أيدي السقاة
ثغرك الضاحك كأس ومدام
ونديم لي، وراو في الرواة
ينشد الشعر فيشجيني الكلام •••
ينشد الشعر جديدا كالصبا
وأنا ناظمه منذ سنين
بث فيه من صباه عجبا
فإذا قلت ارتجال لا تمين
هات لي الحسن وهات الأدبا
واسقني الخمر من الثغر المبين
ذاك حسبي في زماني مطلبا!
أشعب الأهواء
كلما أمسيت في وكري
قلت: يأتي! كيف؟ لا أدري
أمل غطى على فكري
فهو ذنبي فيك أو عذري •••
لم تزرني غير مصطحب
كيف أرجو قربة القرب؟
أشعب الأهواء غرر بي
فرجوت الصدق في الكذب
حجاج وروما
آل روما لكم منا الولاء
وثناء عاطر بعد ثناء
وسلام كلما ضاء لنا
شارق الصبح، أو اظلم المساء
في حماكم كعبة ترمقها
مهج منا وآماق ظماء
كعبة لا كالتي يعمرها
بينكم رهط القسوس الحنفاء
9
من حياة هي لا من بنية
شادها صخر ووشاها طلاء
كرمت روما وذكراها بها
وبنو روما، وما تحت السماء
نزلت ثم حجيجا داعيا
وهي أولى بحجيج ودعاء •••
قبلتي يا «حسن» من ذاك الحمى
أنت لا القبلة من ذاك البناء
ورجائي اليوم في مغربها
وجهك الباسم لا وجه ذكاء
10
سلمت روما التي أنت بها
وسرى يمنا بها ساري القضاء
وكساها لك نساج الربى
كل يوم زينة شتى النماء
وجلاها لك من يجلو لنا
بشعاع منك آفاق الرجاء
والذي أولاك من أنعمه
بهجة النورين: حسن وذكاء
ليت شعري كيف ألفيت بها
سيرة العصر وذكرى القدماء
أترين اليوم فيها عجبا
أم قديما كل يوم في رداء؟
وبنو الرومان هل هم بدعة
أو هم الناس رياء في رياء؟
أحسب الأيام بحرا واحدا،
ما اختلاف الموج فيه والهواء؟
من ير النفس من الباطن لا
يحفل الظاهر في الدور القواء
11
من ير الفن خيالا فله
بالرؤى
12
عن نظرة العين غناء
بيد أن النفس من عادتها
تخلق الأشباح في كل فضاء
وتحب الظل حينا والصدى،
وأصول الظل فيها والغناء
13 •••
أنت في روما وفي مصر أنا
بعدت شقتنا لولا النجاء
14
بيننا جيرة نور ساطع
فوق رأسينا، ونور في الخفاء
أرقب البدر إذا الليل سجا
فلنا فيه على البعد لقاء
وأورد الشعر في مثل الكرى
فإذا فيه من الطيف عزاء
15
حلم الصادي!
16
فمن يوقظه
وعلى فيه من الماء شفاء
أنت يا «حسن». وهل أنت سوى
حلم في يقظة القلب أضاء؟!
الأزاهير الآدمية
الأزاهير في الشجر
لا اختلاف ولا صور
والأزاهير في الغرر
17
حيرة القلب والبصر
بينها الزهر والثمر
بينها الشمس والقمر
بينها التبر والدرر
والمصابيح والشرر
عين يا عين لا نظر!
ها هنا! ها هنا الخطر
عيد ميلاد
كان الأقدمون يحتفلون بانتقال الشمس في الموعد الذي اختاره المسيحيون لإحياء مولد السيد المسيح بعد ذلك، وكلا هذين الموعدين يوافقان يوم الميلاد المعني في القصيدة التالية:
أقبلت والشمس والمسيح
في مولد واحد، سواء
في وجهك المشرق الصبيح
هداية الحق والضياء •••
تهيأ الكون من قديم
ليوم ميلادك السعيد
فعابد الكوكب العظيم
أحيا ببشراك يوم عيد
ومولد «السيد» الرحيم
وافقه المولد الجديد
يوم تهدى على المديح
وزفه الخلد بالثناء
فالدهر في عمره الفسيح
عوده البشر والدعاء •••
النور والحسن واليقين
تحتفل اليوم في مكان
إحدى وعشرين من سنين
قد تم في أوجها القران
ثالوثكم تم بعد حين
فليمض ما شاء في أمان
وليهتف المنشد الفصيح
بالحمد في العيد والغناء
كلاهما مغنم ربيح
لعاشق الأرض والسماء
لو كان إلها
قال الشاعر الفرنسي «دوجيرل» لحبيبته:
لو كنت إلها لأعطيتك الأرض والهواء وما على الأرض من بحار، ولأعطيتك الملائك والشياطين الحانية بين يدي قدرتي وقضائي، ولأعطيتك الهيولى وما في أحشائها من رحم خصيب، بل لأعطيتك الأبد والفضاء والسماوات والعالمين؛ ابتغاء قبلة واحدة.
وسئل صاحب هذا الديوان: «وماذا تعطيني أنت لو كنت إلها؟»
فقال:
أعطيك؟! كيف وما العطاء بخير ما
تبدي القلوب من الغرام الصادق؟!
بل لو غدوت كما اشتهيت وأشتهي
ربا، أخذتك أنت أخذ الواثق
فترين أنك حين فزت بخطوتي
أحلى وأكمل من جميع خلائقي
وتسيطرين على الصروف، وفوقها
نبضات قلبي المستهام الوامق
إن كان رب الكون عندك قلبه
أهون لديك بأنجم وصواعق
وبكل شمس في السماء وضيئة
وبكل بحر في البسيطة دافق!
حرمان أو عطاء؟
مائدة كم بت أشتاقها
ألقيت في صفحتها بالذباب
أرحتني منها، فقد عفتها
فليس فيها مورد مستطاب
فيا زمانا جاد لي منعما
بالضن، أو أسعدني بالعذاب
إن تطلب الشكر على راحتي
ما أجدر اللوم بذاك المصاب!
أيعشقون؟
أيعشق الناس يا حبيبي؟
هيهات! بل تكذب العيون
إن لم يحبوك يا حبيبي
واعجبا! كيف يعشقون
ما الحب لولا هواك إلا
رجم الأساطير والظنون
أحببت حتى حسبت غيري
إن ذكروا الحب يقتدون
معرفة متأخرة
بعد سبع من السنين وعشر
عرف الناس فضل ذا الميلاد
عرفوا أي نعمة زارت الأر
ض بأضعاف حسنها المرتاد
عرفوه لما رأوا بينهم شم
سا مع الشمس أشرقت في البلاد
عجبوا كيف فاتهم يوم وافى
فرعوا عهده بذكر معاد
ذاك ميلادك السعيد هنيئا
للذي فاز فيه بالإسعاد
ماذا عليه؟
ماذا عليه إذا استوى
وإذا التوى ماذا عليه
هذا القوام جماله
مهما تعسف، في يديه!
أنى تمايل عطفه
مالت جوانحنا إليه
أشتاق بعض نفاره
شغفا برؤية صفحتيه
ملتقى الربيع
هات الربيع الغض لي كله
في روضة، بل طلعة، بل شفه
إن فاتني جمع أزاهيره
في قطفة، فالرأي أن أرشفه
نبضات جديدة
خفقات تلك من وزن جديد
أيها القلب! فأسمعني صداك
ذلك الوجه، وما العهد بعيد!
أنت تهواه فلا تنكر هواك •••
أنت تهواه وتسعى بي هنا
كل يوم بعد يوم كي تراه
لا تراوغني وقل هيا بنا
في صريح القول، نستجلي سناه •••
تحسب الرقة فيه ألما
فإذا أنت من الوجد تذوب
لا يكون الحب إلا هكذا
أنا لا أجهل أسرار القلوب •••
كاصفرار الشمس في ثوب الغروب
واصفرار العاج في ثوب القدم
ذلك اللون نسميه الشحوب
وهو في الحسن شفيع للسقم •••
رحمة للقلب من ذاك الوجيه
صيغ من ذوبي حنان وحنين
كلما رفرفت بالعين عليه
شبه الفرحان عندي بالحزين
إن أشأ قلت خيال في الكرى
أو أشأ قلت عيان لا خيال
جمع الأمران لي فيما أرى
حين صح الحلم في خير مثال
سنة جديدة
أدركنا موكب السنين
في موكب الحب سائرين
والحب من يغش ركبه
يساير النجم كل حين
راجع حساب السنين يا
نجم، فما نحن حاسبين
أبالألوف احتسبتها؟
أم لم تزل تجمع المئين؟! •••
يا سنة أقبلت لنا،
أقبلت ميمونة الجبين
وداعنا فليكن غدا
كما التقينا ... أتسمعين؟
في موكب الحب نلتقي
وفيه نمضي مودعين
قوميات واجتماعيات
إلى المحسنين
ألقيت هذه القصيدة في الاحتفال السنوي الذي أقامته جماعة الإحسان بطنطا في سنة 1930:
يا جيرة الإحسان والمحسنين
لبيكم! لبيكم! أجمعين
من يسمع الملهوف حق له - لا ريب - أن يسمعه السامعون
من عين شمس جئتكم ناهلا
من عين شمس لا تراها العيون
لا بل يراها كل قلب رأى
ظلم الرزايا، وظلام الشجون
يا حسنها من نير مرشد
في حيرة اليأس بنور اليقين •••
حييت في محفلكم إخوة
بناتها في الخير صنو البنين
مريمكم أخت لعيساكم
وكلكم آمنة أو أمين
تعددت أديان قصادكم
وما لكم في برهم غير دين
كونوا لمن ليس له شافع
في هذه الدنيا ولا من معين
للطفل، من للطفل في ضعفه؟
للشيخ، من للشيخ حاني الجبين؟
هما رضيعا رحمة ثديها
لا يفطم الأبناء فطم السنين
لا خير في الدنيا ولا أمنها
إن لم يكن هذان في الآمنين
كلاهما عنوان ما عندنا
من نصرة للعيش أو للمنون •••
أقوى بني الإنسان في بأسه
من يرحم الضعف ويأسو الحزين
من يصرع الجبار دون الذي
يصرع جبار الشقاء المكين
ذاك العدو المستطير الأذى
في حاضر العهد وماضي القرون
هيا اصرعوه صرعة من يد
رقيقة المس وصدر حنون
فالمجد في تجفيف دمع جرى
لا في دم تجريه حرب زبون
1 •••
يا غارسي الإحسان في «طندتا»
ما خصبكم فيها بماء وطين
دوحتكم في أرضها أثمرت
ما تثمر الجنة للمتقين
ظل ظليل، وجني رحمة
ريان يؤتي أكله كل حين
أحسنتم بدءا وأحسنتم
عودا، وعقبى الصبر للمحسنين
وكان منكم كل خير لها
وحبذا من بعده ما يكون
إلى غاندي يوم إفطاره
غاندي لك النصر المبين على المدى
ولشانئيك الخسر والخذلان
لم ألق قبلك من يحرر قومه
وهو السجين الجائع العريان
بالجوع والحرمان تصلح أمة
أخنى عليها الجوع والحرمان
خذ من قرارة دائهم لدوائهم
بعض السقام من السقام ضمان
ومن العجائب أن يقدس بينهم
بقر السوام ويلعن الإنسان
عكسوا الأمور فكان عكس أمورهم
بعض الجزاء، ومن أهان يهان
فاشفع لنقص القوم عند كمالهم
فكذاك تغفر ذنبها الأوطان
2
عيد الاستقلال السوري
ألقيت هذه القصيدة في احتفال أقامه إخواننا السوريون لذكرى عيد الاستقلال في سنة 1930:
ربع الشآم أعامر أم خال
اليوم عيدك عيد الاستقلال
إني لأرجع بالسؤال أطيله
لو يملك الشهداء رجع سؤالي
سكتوا وأقفرت المنازل منهم
إلا منازل من صوى
3
ورمال
بوركت من وطن يجل شهيده
في حيثما ألقى عصا الترحال
وطن تضيق الأرض عن أبنائه
وإليه موئلهم مع الآمال
يستبدلون الخافقين ببضعة
منه، وما قنعوا بالاستبدال
ذهبوا بأفئدة تفرق شملها
شيعا، وما فيهم فؤاد سال •••
يرتاد راحلهم وخلف ركابه
حلم يبيت به مع الحلال
يصحو على «الشاغور» من لبنانه
وينام من «بردى» على السلسال
وتهزه من «عشتروت»
4
خميلة
تلتف بين جداول ودوال
وتليه من وادي العرانش نسمة
سكرى الضحى رفافة الآصال
أنى استقر وحيث سار هفا به
همس من الجيل الأشم العالي
أين السلو؟ ولا سلو لعابر
فيه، فكيف بمولد وفصال •••
هذي مواطنكم وتلك قلوبكم
وشجت
5
على الأهواء والأهوال
ما في المدامع من شعار كنيسة
يوم الحنين، ولا شعار هلال
فيم اختلاف مصفدين تضمهم - قبل الوفاء - سلاسل الأغلال؟!
أمنازعون على السماء وأرضكم
نهب لكل منازع وموال؟!
كونوا - ولا نصح لجيل نبوة -
في العالمين هداية الأجيال
من بعلبك خذوا المثال لرأيكم
يوم الخلاف، وتلك خير مثال
فيها لموسى والمسيح وأحمد
أثر، وللوثن القديم البالي •••
أنتم بنو ماض على أحزانه
نعم البشير لكم بالاستقبال
ماض بأمثال التجارب حافل
ومن التجارب حكمة الأمثال
لا تلهينكم الهموم بحاضر
مر الحوادث فيه مر خيال
إن الحقائق في الحياة تجمعت
ما بين سابق سيرة أو تال
بيتوا على أمل وطيب تذكر
تجدوا الحوادث منكم بمنال
6
لا يستقل القوم في آمالهم
إلا استقلوا بعد في الأفعال •••
يا جيرة الوادي تحية أمة
وقفت تحيتها على الأبطال
لو بين الوادي القديم لقالها
كلمات صدق من لسان الحال
إنا بنو وطن تقرب بينه
سيناء في قدسية وجلال
الشمس تجمع في المطالع بيننا
والأرض في حرم الجوار الغالي
ومعالم التاريخ في كتب وفي
عقب، وفي نصب، وفي أطلال
ولسان صدق في اللغات تألفت
فيه القلوب تألف الأقوال
شكواكم شكواي، أو سلواكم
سلواي، أو أشغالكم أشغالي
ومطالب الغازين في بيدائكم
كمطالبي، ومآلكم كمآلي
فخذوا التأسي من مؤسي نفسه
فيما يطيف بكم من الأوجال
وخذوا التهانئ من مهنئ نفسه
بغد يطالعكم بالاستقلال
على قبر سعد
خلا قبر سعد مثلما كان بيته
خلا منه حينا ثم آواه رحبه
أمر به في كل يوم وربما
مررت به يوما وفي القبر ربه
اكتفينا بما تقدم في هذا الباب، ولم ننشر فيه القصائد التي نظمت في المناسبات المصرية رعاية لعهد الائتلاف.
فكاهة
كفاية!
إن تغض عيناك من تيه فلا عجب
عيناي ضاعفتا في حسنك النظرا
أنت الذي تطلب العينان رؤيته
فأغض تيها كما أحببت أو خفرا
إنا هنا اثنان أمسينا، وفي نظري
بلاغ إلفين! فاترك لي أنا السهرا
مفاخرة
أمسيت تفخر بالشباب وتزدهي!
وطفقت تنشر ريشه وتخايل
فالآن أجزيك الفخار بمثله
وأقول، والإنصاف ما أنا قائل
عشرون عامك هذه ألقي بها
طوعا، وعندي بعد عمر كامل
فافخر، وألق بها كما ألقيتها
ماذا تكون؟ وأنت منها عاطل!
ناسخ النور
قد نقص النور ولم ينطفئ
لكن وجه الشؤم قد لاحا!
فعوضوا الدار وزيدوا بها
على ثريا النور مصباحا!
وراقبوا «العداد» تحصوا به
كم فاض من شؤم وكم ساحا
حديقة حيوان آدمية
هذه الحديقة لا تجمع إلا الفنان أو المحب للفنون، سمي كل زميل من زملائها باسم حيوان يلاحظ في اختياره اتفاق الشبه في الملامح والعادات.
وقد جمعها الفن كما كان أورفيوس المعروف في أساطير اليونان يجمع الأحياء حين يغني ويعزف فتقبل عليه من كل فصيلة، وهي لا تشعر بخوف أو تهم بعدوان:
أورفيوس الفن سوى بينها
فتلاقى الدب فيها والقرود
وتغنى فرس البحر بها
يا له من فرس طلق النشيد!
ومشى الأرنب والحوت لها
صاحبا القاعين من لج وبيد
وتآخى الجدي والضبع وما
بين هذين سوى الثأر اللدود
وجرى «السيسي» فيها شوطه
وهو ناهيك بسيسي عنيد
ولغا «البطريق»
1
فيها لغوه
وهو من قطب جنوبي بعيد
وكأني بالزرافى
2
اجتمعت
وحمير الوحش منها في صعيد
وأوى السنور والجرو إلى
نمر فيها، على غير الوصيد
3
والسلحفاة تجاري عندها
أرنب البيداء والكلب الصيود
فتحت أقفاصها واختلطت
لا سدود، لا قيود، ولا حدود
حيوانات نماها آدم
وهي من أبنائه نسل فريد
حيوانات ولكن بينها
كل ذي لب سماوي رشيد
أورفيوس الفن سوى بينها
فاستوى المنشد فيها والمعيد
معنى طازج!
تنشقت من فيك عطر الثما
ر، أو نكهة العنب الناضج
فلو قلت «أطعمتني» قبلة
لأنبأت عن صدقي «الطازج»!
الحب السريع
سألت: ما بالهم قد تركوا
غزل العشاق في الشعر الجديد؟
قلت: هل دام غرام بينهم
ريثما يفرغ من نظم القصيد؟
سنرى العهد الذي يروي لنا
كل عشرين غراما في نشيد!
زهرة القبح
من رأى زهرة الجمال فهذي
زهرة القبح أسفرت تتحدى!
طلعة الشؤم من رآها يخلها
خلقت من وجوه سبعين قردا
رثاء كلب
حزنا على كلب طاهر
4
فإنه طاهر الكلاب!
تشابها في خليقة
واتفقا - شيمة الصحاب
وربما عي طاهر
وكلبه حاضر الجواب
فليس يوفيه حقه
من اكتئاب أو انتحاب
إلا إذا بات نابحا
نبح المساعير في الخراب
عوعو، عوووو. بلا ونى
ولا انقطاع ولا اقتضاب •••
لا تسألوا رحمة له
قد رحم الله واستجاب
لعله مات قانطا
من «أزمة» الأكل والشراب
منتحرا في شبابه
وهكذا يفعل الشباب
أراحه الله من ضنى
أنقذه القبر من عذاب
فليحمد الله ربه!
من جاع فليرض بالتراب
كلب ضائع أو ديوجين الكلبي
أمست كلابك شتى
وأنت يا صاح أنتا
كلب نجا وهو حي
وآخر فر ميتا
ما بين تارك دنيا
وتارك لك بيتا
قل لي بربك ماذا
على الكلاب جنيتا
حتى «ديوجين»؟
5
قل لي
يا شيخ ماذا صنعتا
والله ما كان يأبى
لو صادف الخبز بحتا
أو جدت يوما عليه
فصادف الأدم زيتا
زعمته راح يهوى
من قومه الغر بنتا
لا تلزم الحب ذنبا
من الصيام تأتى
فاحمل رغيفا تجده
في أي صوب نظرتا
مصباحه
6
ليس يجدي
فلا تضع فيه وقتا
أنعم به من حكيم
إلى ديوجين متا
رأى السلامة حقا
ومن رأى الحق أفتى
حظ بصير
إذا كان حظ الناس أعمى فإن لي
على الغيب حظا لا يزال بصيرا
يظل يحاشي كل خير كأنه
يحاذر فخا، أو يرد مغيرا
متفرقات
إهداء الكتاب
نظمت هذه الأبيات في إهداء كتابي عن علي بن العباس المشهور بابن الرومي إلى جراح مصر الكبير علي إبراهيم باشا:
يا جاعل الطب فنا
من الفنون جميلا
ويا أمينا حفيظا
على الحياة وكيلا
هذي حياة أديب
للفن كان رسولا
يا رب معنى نبيل
كساه لفظا نبيلا
كالروح تكسوه جسما
غض الإهاب صقيلا
علي هذا علي
يرجو لديك قبولا
المثاني في مشروع القرش
كن قطرة من سحاب مثمر غدق
ولا تكن ذرة من رمل صحراء
ولا تقل هان «قرش » أنت باذله
ما مصر؟ ما النيل؟ لولا قطرة الماء •••
أيصول بالسيف الكمي
1
ونحن لا
ندري الصيال بمغزل وبمنسج
بالأمس كان عقيمهم من لم يلد
وأرى العقيم اليوم من لم «ينتج» •••
الشباب اليوم يستأدبكم
درهما فردا فأدوه الحساب
إن مصرا كلها في غدها
هي ميراث مصون للشباب •••
كن صانعا أو لا فلست بصانع
شيئا ولست بدافع من يعتدي
وابذل زهيدك للصناعة تجتمع
لبني بلادك ثروة لم تزهد •••
أوجه ذي الوجهين في الوجود
قرش عديد من أب وحيد
قوته للوطن المعمود
أقوى من العدة والعديد •••
أرى القرش أصبح ذا قيمة
وإن صغروه وإن حقروه
يتيه بوجهين من حسنه
وتأتي منافعه من وجوه
الشهرة العوراء
دع الشهرة العوراء تقتاد غافلا
على حكمها يجري، وإن طاش أو ظلم
إذا الدهر لم يعرف لذي الحق حقه
فللدهر مني موطئ النعل والقدم
إذا جاز بيع الذكر في شرع أمة
فلا كان من ذكر ولا كانت الأمم
عتاب وطن
جوزيت من وطن يبكي الوفي به
وما بكى خائن فيه وإن جارا
لقد شقيت على كره وموجدة
2
وهان ذلك لو لم تشق مختارا
نعي كاذب
لقد كذب الناعي وأنعم بكذبه
فلا صدق الناعون يوما، ولا هموا
فزعت الخطب الموت، والموت واحد
فكيف احتمالي فيك موتين يا أم
إلى الصديق الراحل
نظمت في رثاء الكاتب الكبير «محمد السباعي» يوم وفاته:
غاية الحي ساعة من زمانه
ينتهي عندها مدى جثمانه
طويت صفحة السباعي فينا
وهو طاوي الطروس في تبيانه
مسمح النفس في الحياة تولى
مسمح النفس في الردى قبل آنه
لم يطامن لصرعة الموت رأسا
من صراع الحياة لهو رهانه
3
ذاقها صابرا وساغ مريرا
من جني دهره ومن إنسانه
وتأسى، ومثله من تأسى،
ضاحكا من كرامه وهجانه
فتنته غواية الأدب الحر
ر فأودى بقلبه في افتنانه
وثنى راحتيه عن خفض عيش
كان حينا أقصى منى أقرانه
4
ما أراه على الحياة حزينا
بعض حزن الصحاب يوم احتجانه
5
يا سليم الفؤاد في باطن الرأ
ي سليم الفؤاد في إعلانه
مرض الدهر فامض عنه معافى
من أكاذيبه ومن أدرانه
أنت خدن الكتاب، والموت سفر
صدقه ظاهر على عنوانه
على قبر حافظ يوم وفاته
أبكاء وحافظ في مكان؟
تلك إحدى طوارق الحدثان
كنت أنسا، فكيف أمسيت يا حا
فظ تدمى لذكرك العينان
كنت تتلو الرثاء معنى فمعنى،
كيف أمسيت بعض تلك المعاني!
كنت أعلى الجموع صوتا فهلا
نطق الآن صوت ذاك البيان
وعزيز على بلادك أن تذ
هب يوم انبريت للميدان
يوم أطلقت من إسارك حرا
وأبيت الإسار للأوطان
يوم أرسلتها على ظالمي الأو
طان طعانة كحد السنان
ألهم الله مصر فيك عزاء
لا بل العرب في شفيع «اللسان»
كلنا صائر كما صرت يوما
والذي قد صنعت ليس بفان
على ضريح سعد يوم الخروج من السجن
إلى الذاهب الباقي ذهاب مجدد
وعند ثرى سعد مثاب ومسجد
إلى مرجع الأحرار في الشرق كله
إلى قبلة فيها الإمام موسد
نحيي من الدنيا التي نستعيدها
مكانا من الدنيا له العود أحمد
مكانا من الدنيا يخلو قفرها
وقد قل في أمصارها ما يخلد
خرجت له أسعى وفي كل خطوة
دعاء يؤدى أو ولاء يؤكد
لأول من فك الخطى من قيودها
أوائل خطوي يوم لا يتقيد
بواكير من حرية أستزيدها
لديه، وقد يرعى البواكير معبد
6
وأعظم بها حرية زيد قدرها
لدن فقدت، أو قيل في السجن تفقد
عرفت لها الحبين في النفس والحمى
وكان لها حب - وإن جل - مفرد
وكنت جنين السجن تسعة أشهر
فهأنذا في ساحة الخلد أولد
ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجى
وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد
وما أقعدت لي ظلمة السجن عزمة
فما كل ليل حين يغشاك مرقد
وما غيبتني ظلمة السجن عن سني
من الرأي يتلو فرقدا منه فرقد
7
عداتي وصحبي لا اختلاف عليهما
سيعهدني كل كما كان يعهد
وحي الأربعين
سميت هذا الجزء «بوحي الأربعين»؛ لأن أكثره نظم حوالي سن الأربعين، وقد كنت جمعت الأجزاء الأربعة الأولى من الديوان، ولاحظت في تسميتها أن يقابل كل جزء منها السن التي نظم فيها ، فبدأت فيها بيقظة الصباح وانتهيت بأشجان الليل، وفي تسمية هذا الجزء «بوحي الأربعين» متابعة للسنة التي جريت عليها حين جمعت تلك الأجزاء.
صفحة غير معروفة