حديث في حرش صغير
وقد طابت الإقامة لسليم وكليم في هذا الحرش الصغير، فصارا كل يوم يقصدانه مرة أو مرتين للاستظلال به من حر الشمس؛ ولكنهما لم يكونا يجلسان في الظل ربع ساعة حتى يبردا فينهضا إلى الشمس فيسخنا فينهضا إلى الظل، وهكذا على التتابع، وكانا يصرفان الوقت هناك بالحديث ومطالعة أطايب الكتب.
فبعد أن مضى عليهما بضعة أيام في هذه المعيشة نظرا إلى نفسيهما ذات يوم، وهما في ذلك المكان، فإذا بهما قد صار جسمهما ممتلئا قوة وصحة، وتوردت وجناتهما، واكتسبا من هواء الجبال ثوبا زاهيا غطى ثوب الاصفرار والضعف الذي كستهما به المعيشة المدنية، وكانا ينظران إلى نفسيهما في المرآة ولا يصدقان؛ فالتفت سليم إلى كليم وقال: إن الذين يعيشون في السهول والمدن في الشام وغيرها يخطئون أشد خطأ إذا كانوا لا يصعدون مرة في العام إلى جبال كهذه الجبال لتجديد قواهم ودمائهم.
فأجاب كليم: أنا موافق على رأيك بعد ما شاهدته في صحتي من التحسن، تالله إنني أحسب نفسي أنني كنت ميتا وبعثت، فإنني آكل ولا أشبع، وأشرب ولا أروى، وأمشي ولا أتعب، وأحيانا أخشى لنشاطي وخفة جسمي أن أطير في الهواء. فضحك سليم وقال: ما رأيك بأصحابنا في الشام ومصر الذين يقصدون جبال سويسرة وبلاد أوروبا في الصيف، ويتركون هذه الجبال التي فيها المعيشة أرخص ما يكون؟ فقال كليم: من جهل شيئا لا يحفل به، فهم يجهلون فضائل هذه الجبال، هذا عدا عن أن طريقها وعرة.
1
وفي هذا الحين وصل إلى الحرش شابان، فصاح كليم بهما: أهلا بالخواجه فاضل والخواجه حنانيا. ثم جلس الشابان بإزاء رفيقيهما وأخذا في الحديث معهما، وكانا من رفاق كليم وأبناء وطنه، وهما مصيفان في القرية.
وكان حنانيا شابا تدل هيئته على (البساطة) ولكن في الزوايا خبايا، وكان بلحية ضاربة إلى الشقرة، وهو كثير التنحنح كلما فاه بعبارة، وكان رفيقه فاضل يكثر من ممازحته ومداعبته وكذلك كليم، وقد كان حنانيا يسر بهذه المداعبة على ما يظهر؛ لأنه لم يكن يستاء منها ولو جرحته أحيانا، وكثيرون - وفي جملتهم المؤلف - كانوا يعتبرون أن هذا الأمر ناشئ بالأكثر عن (طيبة) قلبه.
أما فاضل فقد كان شابا هادئا يحب الجد كما يحب المزاح، وقد كان في عينيه ما يدل على صفاء قلبه، وفي أساليبه وكلامه وسكوته ما يدل على أنه ربي في عائلة ذات نعمة، وكان من المشهور عنه أنه شديد الإخلاص والرغبة في نفع غيره، فلم يكن أحد يسأله شيئا في طاقته ويقعد عنه.
ولما دار الحديث بين الرفاق الأربعة قال فاضل: إن رفيقنا حنانيا ابتاع اليوم كرما، فقال سليم: وكيف ذلك؟ فقال فاضل: جرت عادته أنه كلما رام أن يأكل عنبا يقصد هذه الكروم الممتدة أمامنا من القرية إلى حرش الأرز الصغير المشرف عليها، وكلما شاهد عنقودا جميلا جلس كالثعلب بجانبه، وتناول منه أنضج حبوبه وأكبرها، ولا يزال يفعل ذلك حتى يشبع، ففي هذا الصباح بينما كان (يفطر) بهذه الطريقة نظره (ناطور) الكرم فصاح به وأسرع إليه، فأجابه صاحبنا بكل (برودة) قلب: ماذا تريد؟ فقال له (الناطور): اخرج من الكرم. فقال له بغضب: ولماذا؟ هل هو كرمك؟ قال: بلا شك. فقال له صاحبنا: أرني (الحجة) التي بيدك لأتحقق ذلك، ولعمري إن هذه خير الطرق للشبع من العنب بدون دفع بارة واحدة.
فقال كليم: إذن لا يظلم أهل القرية كثيرا ضيوفهم بمعاندتهم والرغبة في التخلص منهم إذا كانوا كلهم (على نسق) صاحبنا حنانيا.
صفحة غير معروفة