فقال سليم لرفيقه: حقا إنني لما كنت أسمع كلام صاحب المحل خيل لي وأنا أفرك يد هذا المريض أن يدي تمس الآن يد مجنون ليلى أو غيره من عشاق العرب المشهورين، ومن العجب أن يبقى اليوم في الأرض أناس رقاق الشعور شديدو الانجذاب النفسي؛ حتى إنهم يجنون بسبب الحب مع ما هو معروف في هذا العصر من اندفاع تيار الشهوات الحيوانية التي تقتل ذلك الشعور الدقيق.
فسأل كليم صاحب المحل: وما اسم هذا الرجل التعيس؟ فأجاب: إن الناس يسمونه مخلوف.
وفي هذه البرهة اختلج مخلوف اختلاجا شديدا وصار يصرخ صراخا هائلا ويخبط بيديه ورجليه؛ فأمسكه بها الثلاثة الحاضرون لئلا يؤذي نفسه. وكان قد اجتمع عليهم بعض الأولاد وهم يعجبون من دنو سليم وكليم منه؛ لأن أكثر العامة في أقطار الشام يخافون كثيرا ممن يغمى عليه ذلك الإغماء؛ لاعتقادهم أن فيه شيطانا يسبب ذلك الاضطراب، وهم يسمون المغمى عليه «واقع في الساعة».
وبعد حين ارتخت أعضاء مخلوف وتنهد تنهدا عميقا، ثم فتح عينيه وصار يضحك لمن حوله ضحكا لطيفا كضحك الأولاد؛ فقال له كليم: كيف حالك الآن يا مسيو مخلوف؟ فأجاب مخلوف: حالي كما ترى. فقال سليم: هذا أمر بسيط، وكثيرا ما يقع فيه الناس، إما بسبب الحر أو ضيق الصدر أو التعب. فجلس مخلوف حينئذ وقد ظهر الغضب في وجهه وصاح: لم يؤثر في الحر ولا ضيق الصدر ولا التعب، وإنما هذه الجريدة الملعونة، فكيف تجيز لها السماء والأرض أن تتركه وتذهب، هو يحبها كما يحب إلهه، هو يطرح تحت قدميها اسمه وميراثه وشرفه لتتنازل وتأخذها وترضى فقط بالابتسامة له، ومع ذلك فإنها ترد هذه الهبات بقدمها وتفر منه كالبرق وتختفي، فما هو جزاؤها يا ترى؟ أليس القتل، والخنق، والحرق، والشنق، والدوس بالأقدام، والتقطيع قطعة قطعة؟!
وكان مخلوف قد بلغ به الغضب عند هذه الكلمات مبلغا عظيما؛ فجحظت عيناه، وانتفخت أوداجه، وصعد الدم إلى رأسه فكاد يخنقه، وبدا الزبد على فمه كالجمل الهائج، فهال منظره سليم وكليم، وعلما حينئذ أنه قرأ في الجريدة الإنكليزية هذه الحادثة فأذكرته حادثته.
فتلافى سليم الأمر رغبة في تسكينه وتعزيته، وقال: لقد نطقت بالحق؛ فإن تلك الفتاة تستحق أكثر مما ذكرت، ولكن هل قرأت تتمة حادثة مس (لنهيم) التي تشير إليها؟ فأجاب مخلوف وهو يلهث تعبا من أثر الهياج: لا، فماذا جرى لهذه الخبيثة بعد تركها حبيبها؟ فقال سليم: لقد لقيت عقابها. فصاح مخلوف حينئذ وشرر الجنون واليأس تتطاير من عينيه: هل ماتت؟! فارتعدت فرائص سليم وكليم لذلك الصوت الذي حكى صوت وحش جرح برصاصة، وأجاب سليم: كلا كلا؛ فإنه لا يموت أحد الحبيبين إذا افترقا، وخصوصا إذا كان أحدهما مظلوما إلا بعد اجتماعهما.
فبهت مخلوف يتأمل قليلا ثم قال: وكيف ذلك؟ فقال سليم: روى فرفوريوس عن نيقوديموس عن أفلاطون عن أرسطاطاليس أن كل نفس مظلومة لحبها نفسا أخرى - لا تموت إذا ثبتت في حبها، وصدقت قبل أن ترى النفس المحبوبة. ولذلك فكل فتاة تهجر فتى يحبها، ويثبت الفتى على حبه لها تعود إليه ذليلة من تلقاء نفسها بعد ذلك وتستغفره عن ذنبها، وتطلب إليه أن يشاركها في حياتها، وهكذا جرى لمس لنهيم التي قرأت في الجريدة حادثتها، فإنها عادت بعد مدة ذليلة واستصفحت خطيبها.
فهنا استوى مخلوف جاثيا على ركبتيه، وأبرقت عيناه برقا غريبا، وقال: وإذا كان قد انقضى على غيبتها عدة سنوات؟
فأدرك كليم في الحال ما قام في نفس ذلك المجنون التعيس، فهمس في أذن رفيقه: إنك تحاول نفعه بالأمل ولكنك ستضره. فأجاب سليم: وهل بعد الجنون من ضرر؟! فإنني الآن أجرب طريقة لإصلاح شأنه، وتسكين جهازه العصبي إلى حين.
ولما سأله مخلوف السؤال الذي تقدم أجابه سليم بقوله: سواء كان الوقت قصيرا أو طويلا فإنها تعود رغما عن أنفها، ولكني لم أذكر لك الطريقة التي استعاد بها المستر (أرثور) حبيبته المذكورة، فإنه قبل كل شيء ثبت على حبها ثبات الأبطال، فكان لا يذكرها بكلمة سوء ولا يحكي قصتها لأحد، ثم كان يتظاهر باللطف والبشاشة دائما ولا يضر أحدا من الناس، وينفعهم بقدر استطاعته، وكان على الخصوص يعتني بنفسه، فيأكل من الطعام ما يكفيه، ولا يتعب كثيرا بالطواف في البلاد، ويداري صحته ما أمكنه، وبهذه الطرق صار رجلا جميل المنظر لطيفا محبوبا من الناس، فما لبثت حبيبته أن عادت إليه تطلب منه الصفح عن هجرها إياه.
صفحة غير معروفة