الفصل السابع عشر
وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
قال الراوي: فلما انتهت مادلين من سرد حكايتها العجيبة وقصتها المحزنة تأوهت تأوه القنوط، وطفقت تصعد الزفرات وتسكب العبرات بحرارة شديدة ولهفة زائدة، وذلك السائح المجهول ينظر إليها نظرة الحنو والحزن ويرثى لحالها ويبكي لبكائها، وبعد مضي بضع دقائق ساد الهدوء والسكون ولازم الاثنان الصمت والسكوت، ثم التفتت مادلين إلى السائح واستأنفت الحديث فقالت:
هذه يا سيدي قصتي، ذكرتها لك على سبيل الإجمال والإيجاز، فهل لا ترى فيها كل الحكم والعبر وتقضي العجب مثلي من مقدرتي على احتمال كل هذه المصائب والبلايا التي تدك الجبال وتفتت الصخور، ولكن قل لي بالله عليك يا سيدي ها قد سمعت حكايتي ووقفت على حقيقة أحوالي، ألا يمكنك أن تنبئني بحقيقة أمرك وتطلعني على شيء من ماضي حياتك لأشاركك في عواطفك كما شاركتني أنت الآن؛ لأني أرى في نفسي ميلا عظيما ورغبة شديدة إلى ذلك؛ فمن تكون أنت يا سيدي إذن؟
قال السائح: قلت لي يا مادلين: إنه كان لك في أيام الصبا صديق حميم وحبيب مخلص يدعى «موريس»؛ فهلا تذكرت هذا الصديق في أيام شدتك الأخيرة وحن قلبك إلى رؤيته.
قالت: كيف لا وقد كان ركن سعادتي ورفيق صباي وشريك أفراحي ومسراتي، آه يا سيدي، إني لا أحب في العالم كله أكثر من حبيبي موريس وصديقي إميل وولدي روبير وجيلبير، وهؤلاء الثلاثة قد ماتوا أمام عيني، وأما حبيبي موريس فلم أعرف عنه خبرا ولم أقف له على أثر، وهذا ما يضاعف حزني ويزيد في غمي وشقائي، فأين هو موريس يا ترى الآن؟ وهل انتقل إلى العالم الباقي أو هو لم يزل حيا؟ وهل أتيح له بأن يعيش سعيدا ويتزوج امرأة جميلة تقر بها عينه وينشرح فؤاده أو قضي عليه أن يبقى تعيسا ذليلا مثل حبيبته مادلين.
قال السائح: إن موريس لم يعش سعيدا يا مادلين، ولو أنه أحرز ثروة واسعة وغنى وافرا. - ومن أين لك أن تعرف ذلك يا سيدي؟ - إن موريس تزوج امرأة جميلة، ولكنها كانت قبيحة السيرة والسريرة فنغصت عيشه وحرمته لذة الحياة، ولكنها ماتت أخيرا وأراحه الله من سوء تصرفها ودناءة سلوكها.
فازداد قلب مادلين خفقانا وحملقت إلى السائح مدهوشة مذعورة.
أما هو فاستمر في حديثه فقال: وموريس لم ينس حبيبته مادلين، ولم تبرح من باله تلك الأيام السعيدة التي قضاها بالقرب منها وهو الآن يجول مفتشا عليها في مشارق الأرض ومغاربها، وقد سأل عنها في جهة فوجير ولوريان وسان كولمب إلى أن علم من أحد الفنادق في سان مالو أنها أتت إلى هذا المكان.
صفحة غير معروفة