ومن هو ذلك الشقي الذي أخذ حبه بمجامع قلبك وجاء يزاحمني على حبك؟ - إن من كانت زوجة مثلي ليس لها الحق أن تحب أو تذوق لذة العشق. - دعينا من هذه المراوغة يا مادلين واعترفي بالحق؛ لأن دموعك وعزلتك يشهدان عليك؛ فمن العبث أن تكتمي عني حقيقة حبك وغرامك، ألم تهبي قلبك لذلك الشريد الطريد الذي كان يئويه والدك في داره ويعيش من فضلات صدقتكم. - إن كنت تعني بهذا الكلام أخي «موريس» فهو أجل من أن يوجه إليه هذا الهجاء؛ لأنه رجل شريف أبي النفس، وقلبه مملوء من العواطف الشريفة والإحساسات الحرة، وهذا القلب هو أفضل من كنوز العالم كلها.
فلما سمع راعول مني هذا الكلام صعد الدم في رأسه ولاحت على وجهه علامات التهيج والاضطراب، وصرخ في وجهي بغضب شديد قائلا: كفى يا مادلين؛ فأنا لا أريد أن أحتمل منك أكثر من ذلك، ولا يمكنني أن أعيش مع امرأة لا هم لها إلا سكب العبرات وإصعاد الزفرات، وتذكر أيام اللهو والصبا. - وأنا لا أستطيع أن أعيش إلا كذلك يا سيدي.
فعند ذلك ازداد تهيجه وغضبه، ودنا مني رافعا يده ليضربني فناديته بأعلى صوتي: عار عليك يا راعول أن تهين فتاة مسكينة مثلي وتتطاول عليها بالضرب؛ فلم يصغ راعول لكلامي ولم أشعر إلا وقد انقض علي وطفق يوسعني لكما وضربا، ولما أردت أن أتناول حجرا من الأرض لأدافع به عن نفسي قبض على يدي وناداني بصوت منخفض: إياك أن تقولي كلمة أو تبدي حركة، وإلا قتلتك خنقا، وأرحت نفسي من شر أعمالك. وفي ذلك الوقت خارت قواي وضعفت عزائمي؛ فنظرت إليه نظرة المستغيث؛ فإذا به قد تقطب وجهه وانقلبت سحنته، وتطاير الشرر من عينيه، وأصبح منظره هائلا ومخيفا؛ فارتعدت حينذاك فرائصي، وسقطت على الأرض مغشيا علي.
الفصل السادس
ولما أفقت من غشيتي وجدت نفسي على فراشي في غرفتي، وبجانبي الطبيب يمرضني، وأمامي خادمتي «دانيز» ترمقني بعين الخداع والرياء؛ فجمعت حواسي، وتذكرت ما حل بي قبل هذا الإغماء، وابتدأت أفكر في كيفية التخلص من هذا «الزوج القاسي أو الوحش الضاري»؛ لأنه أكد لي أن حياتي معه أصبحت مهددة بالخطر، ولا شك فخطر على بالي أن أهجر هذه الدار التي استحكمت فيها حلقات الشر وأرجع إلى بيت والدي؛ فأقضي به ما بقي من أيام حياتي، ولو أني أعلم أن نير والدتي ثقيل، وضغطها شديد، ولكن الحكمة تقضي على العاقل بأنه إذا وقع بين شرين يجب عليه أن يختار أخفهما ضررا، ومن ثم عزمت على تنفيذ هذا الفكر وشرعت في التأهب والاستعداد.
ولكن الدهر إذا أخنى على أحد وأبى إلا معاكسته لم يترك أمامه بابا للفرج والخلاص؛ فإني بينما كنت أفكر في هذا الأمر ورد إلي نبأ مفجع ينعي لي وفاة والدي ووالدتي اللذين ذهبا فريسة النار على إثر حريقة هائلة التهمت دارنا فصيرتها رمادا ولم تبق فيها حجرا على حجر.
وقد هالني هذا الخبر المفجع والخطب الجلل؛ فأذرفت الدمع السخين، وبكيت بكاء الخنساء، ولكن ماذا ينفع هذا العويل والنحيب، وقد نفذ القضاء، وسبق السيف العذل.
ولا حاجة لي الآن يا سيدي أن أنبئك بما وصلت إليه حالتي من الشقاء والتعاسة بعد حلول هذا المصاب العظيم؛ فقد أصبحت تتنازعني عوامل الحيرة واليأس، وعدمت كل ساعد ونصير، ولكني كنت كلما شعرت بهذه المصائب علمت أني أستحقها أنا التي جنيت على نفسي، وسلمت لإرادة والدتي، ورضيت بهذا الزواج المشئوم؛ فيلزمني أن أتحمل تبعة خطئي وأكفر عن ذنبي.
وعلى ذلك رضيت البقاء تحت هذا النير القاسي، وحمدت الله على هذه الدرجة التي وصلت إليها، ثم أخذت أعتني بتربية ولدي اللذين رزقت بهما بعد مضي ثماني سنوات من تزوجي راعول، وهكذا تركت الأمور تجري في أعنتها، على أني رأيت بعد ذلك في سلوك راعول تغيرا عظيما، وانقلابا كليا؛ فبعد أن كان يلازم الدار ولا يغيب عني طرفة عين أخذ يتغيب كثيرا، ويقضي أوقاته خارجا عنها، وربما مضت عليه الأيام والليالي الطوال، وأنا لا أرى وجهه ولا أنكر عليك يا سيدي، إن هذا ما كنت أتمناه لأنفرد بنفسي، وألازم عزلتي، وأقتل الوقت بتذكر أيام النعيم والهناء التي مرت علي كأضغاث الأحلام؛ لأن هذا كان منتهى سلوتي وعزائي.
الفصل السابع
صفحة غير معروفة