intellectual intuition ، أو بتعبير أدق: أن لدينا خبرات فكرية معينة قد توصف كذلك. إن كل من «يفهم» فكرة ما أو وجهة نظر أو طريقة رياضية كالضرب مثلا، بمعنى أنه قد «أحس بها» قد يقال: إنه يفهم هذا الشيء حدسيا، وهناك خبرات لا حصر لها من هذا الصنف؛ غير أني من جهة أخرى أود أن أؤكد أن هذه الخبرات - على أهميتها لجهودنا العلمية - لا يمكن على الإطلاق أن تفيد في تأسيس صدق أية فكرة أو نظرية مهما اشتد شعور المرء حدسيا بأنها صادقة بالضرورة أو أنها «واضحة بذاتها»
self-evident . مثل هذه الحدوس لا يمكن أن تعمل حتى كحجة، رغم أنها قد تشجعنا على البحث عن حجج؛ فقد يكون هناك شخص آخر لديه حدس - ليس أقل قوة - بأن نفس النظرية خاطئة. إن طريق العلم مرصوف بنظريات بائدة كانت تعد يوما ما واضحة بذاتها، لقد كان فرنسيس بيكون - على سبيل المثال - يسخر من أولئك الذين أنكروا الحقيقة الواضحة بذاتها بأن الشمس والنجوم تدور حول الأرض التي كانت تبدو ثابتة على نحو واضح. إن الحدس ليلعب بغير شك دورا عظيما في حياة العالم، مثلما يفعل بالضبط في حياة الشاعر. إنه يقوده إلى اكتشافاته، ولكنه قد يقوده أيضا إلى إخفاقاته. وهو يظل دائما شأنه الخاص كيفما كان، فالعلم لا يسأله كيف حصل على أفكاره. العلم لا تهمه إلا الحجج التي يمكن أن يختبرها كل شخص. وقد وصف الرياضي العظيم جاوس هذا الموقف وصفا غاية في الدقة عندما قال متعجبا: «لقد حصلت على نتيجتي، ولكني لا أعرف بعد كيف الحصول عليها!» كل هذا ينطبق بالطبع على مذهب أرسطو في حدس ما يسمى بالماهيات، الذي انتقل بواسطة هيجل، وفي زمننا نحن بواسطة إدموند هسرل وتلاميذه الكثيرين، وهو يشير إلى أن «الحدس الفكري للماهيات» أو «الفينومينولوجيا الخالصة» - كما يسميه هسرل - هو منهج لا يخص العلم ولا الفلسفة. «من الميسور حسم السؤال الذي كثر الجدل حوله: أهو ابتكار جديد كما يعتقد أصحاب الفينومينولوجيا الخالصة أم هو ربما صيغة من الديكارتية أو الهيجلية؟ فالجواب أنه صيغة من الأرسطية.»
والمذهب الثاني الذي أتناوله بالنقد هو أكثر ارتباطا بالآراء الحديثة حتى من مذهب الحدس الفكري، ويتصل بصفة خاصة بمشكلة النزعة اللفظية
verbalism . منذ أرسطو أصبح من المعروف على نطاق عريض أن المرء لا يمكن أن يبرهن على جميع العبارات، وأن مثل هذه المحاولة مقدر عليها الإخفاق؛ لأنها لن تفضي إلا إلى نكوص لا نهائي للبراهين. ولكن لا أرسطو ولا العديد من الكتاب المحدثين - فيما يبدو - يدركون أن المحاولة المماثلة بتعريف معاني جميع حدودنا تفضي بنفس الطريقة إلى نكوص لا نهائي للتعريفات. والفقرة التالية من كتاب كروسمان «أفلاطون اليوم» خير تعبير عن وجهة من الرأي مبيتة في اعتقاد الكثير من الفلاسفة المعاصرين ذائعي الصيت (فتجنشتين على سبيل المثال): «... إذا لم نكن نعرف بدقة معاني الألفاظ التي نستخدمها فلن يمكننا أن نناقش أي شيء على نحو مفيد؛ فمعظم مجادلاتنا العبثية التي نضيع فيها الوقت جميعا تعود بالأكثر إلى حقيقة أن كلا منا لديه معان غامضة خاصة به للألفاظ التي يستخدمها ويفترض أن خصمه يستخدمها بنفس المعنى. فإذا ما بدأنا بتعريف ألفاظنا لكان بإمكاننا أن نخلص إلى نقاشات أكثر فائدة بكثير. مرة ثانية: بحسبنا أن نقرأ الصحف اليومية لكي نلحظ أن الدعاية (النظير الحديث للخطابة) تعتمد اعتمادا كبيرا من أجل نجاحها على خلط معاني الألفاظ. إنه لو أجبر السياسيون بالقانون على أن يعرفوا أي لفظ يريدون أن يستخدموه لفقدوا الشطر الأكبر من جاذبيتهم الشعبية، ولصارت خطبهم أقصر، ولتبين أن كثيرا من خلافاتهم هي خلافات لفظية محضة.» هذه الفقرة مميزة جدا لواحدة من التحيزات التي نعزوها لأرسطو، ومفادها أن اللغة يمكن أن تجعل أكثر دقة عن طريق استخدام التعريفات. فلننظر هل يمكن حقا إدراك هذه الغاية.
يمكننا أولا أن نرى أن «السياسيين» (أو أي شخص آخر) إذا «أجبروا بالقانون على أن يعرفوا أي لفظ يريدون أن يستخدموه»، فلن تقصر خطبهم بل ستطول إلى غير حد ؛ ذلك أن التعريف لا يمكن أن يؤسس معنى حد من الحدود أكثر مما يمكن للبرهان أو الاستنباط أن يؤسس صدق عبارة؛ فكلاهما لا يملك إلا أن يزيح هذه المشكلة إلى الخلف.
3
أما الاستنباط فينقل مشكلة الصدق خلفا إلى المقدمات، وأما التعريف فينقل المشكلة خلفا إلى الحدود المعرفة (أي الحدود التي تكون الصيغة المعرفة)؛ غير أن هذه (الحدود المعرفة) من المرجح لأسباب كثيرة ألا تكون أقل غموضا وخلطا من الحدود التي بدأنا بها؛ وسيكون علينا على أية حال أن نمضي لكي نعرفها بدورها؛ الأمر الذي يؤدي إلى حدود جديدة ينبغي تعريفها كذلك ... وهكذا إلى غير نهاية. بوسع المرء أن يرى أن المطلب الخاص بضرورة تعريف جميع ألفاظنا هو مطلب لا يقل تمنعا عن المطلب الخاص بضرورة البرهان على جميع عباراتنا.
للوهلة الأولى قد يبدو هذا النقد غير منصف؛ فقد يقال بأن ما يعنيه الناس إذا التمسوا تعريفات هو التخلص من الالتباسات التي كثيرا جدا ما ترتبط بكلمات من قبيل «الديمقراطية»، «الحرية»، «الواجب»، «الدين» ... إلخ. وإن من الواضح أن من غير الممكن تعريف جميع ألفاظنا، ولكن من الممكن تعريف بعض من هذه المصطلحات الأكثر خطورة وتركها عند ذلك الحد، وأن الألفاظ التعريفية ينبغي قبولها فحسب؛ أي إن علينا أن نتوقف بعد خطوة أو اثنتين كيما نتجنب النكوص اللانهائي؛ غير أن هذا الدفاع مغلوط: فصحيح أن الألفاظ المذكورة يساء استخدامها كثيرا، إلا أني أنكر أن محاولة تعريفها يمكن أن تصلح الأحوال؛ إذ لا يمكنها إلا أن تجعل الأحوال أسوأ. إن من الواضح أن تعريف السياسيين لمصطلحاتهم ولو مرة واحدة وترك الألفاظ المعرفة غير معرفة لن يمكنهم من تقصير خطبهم؛ ذلك أن أي تعريف ماهوي - أي الذي يعرف ألفاظنا (كمقابل للتعريف الاسمي الذي يدخل مصطلحات فنية جديدة) - يعني استبدال قصة طويلة بقصة قصيرة كما رأينا. وفضلا عن ذلك فإن محاولة تعريف الحدود لن يؤتي إلا المزيد من الغموض والخلط؛ فما دمنا لا نستطيع أن نطالب بتعريف جميع ألفاظنا المعرفة بدورها فإن بوسع السياسي أو الفيلسوف الحاذق بسهولة أن يجيب مطلب التعريفات. فإذا سئل مثلا ماذا يعني ب «الديمقراطية» فإن بوسعه أن يقول: «حكم الإرادة العامة» أو «حكم روح الشعب». وحيث إنه الآن قد قدم تعريفا، ووفى من ثم بأعلى معايير الدقة، فلن يجرؤ أحد على نقده مرة ثانية. وكيف يمكن حقا أن ينقد ما دام مطلب تعريف ألفاظ «الحكم» أو «الشعب» أو «الإرادة» أو «الروح» بدورها تضعنا على طريق نكوص لا نهائي مؤكد، بحيث تجعل أي شخص يتردد في طرح ذلك؛ على أنه إذا طرح هذا المطلب رغم كل هذا فبالإمكان إجابته بنفس السهولة. ومن جهة أخرى فإن النزاع حول مدى صواب أو صدق التعريف لا يمكن أن يؤدي إلا إلى خلاف فارغ حول ألفاظ.
هكذا تنهار وجهة الرأي الماهوية حتى إذا لم تحاول مع أرسطو تأسيس «مبادئ» معرفتنا واكتفت بالمطلب الذي يبدو أكثر تواضعا، وهو أن علينا «أن نعرف معنى حدودنا».
ولكن لا شك أن مطلب أن نتحدث بوضوح وبدون التباس هو مطلب شديد الأهمية وينبغي أن يجاب. فهل بوسع وجهة الرأي الاسمية أن تفي به؟ وهل يمكن للاسمية أن تتلافى النكوص اللانهائي؟
صفحة غير معروفة