ثمة من يفسر تفشي الماهوية بأنها ظاهرة عرضية تاريخيا؛ فهي نتاج الفكر الغربي الحديث والتقاليد الثقافية والسياسية والتكنولوجيا؛ فنحن ماهويون في هذه الحقبة من التاريخ؛ إذ صار بوسعنا أن نطلع على العلوم ونلم بكيانات غير منظورة مثل الدنا والجزيئات؛ غير أن عزو نزعة الماهية للعرض التاريخي لا يتسنى له أن يفسر لماذا يماهي الأطفال قبل سن المدرسة!
وثمة من يرى أن الماهوية نتيجة مبيتة ومستأصلة في فعل التسمية؛ فنحن إذ نعطي أشياء محددة نفس الاسم إنما نقرر ضمنا وجود شيء تحتي ثابت تتشارك فيه هذه الأشياء؛ فالماهوية إذن نتيجة منطقية لاستخدام اللغة. ولكن إذا صح أن الماهوية هي نتاج استخدام الأسماء، فلماذا نحن نماهي في بعض المجالات أكثر مما نفعل في غيرها؛ لماذا تكون الماهوية «محددة المجال»
domain-specific ؟
وعلى خلاف ذلك تذهب سوزان جلمان إلى أن الماهوية عادة عمومية (عالمية) للعقل تشمل الناس جميعا؛ فالناس ماهويون بمعزل عن تفضل العلم وعن جمهورية أفلاطون، والناس ماهويون بمعزل عن اللغة واستخدامها. وتقول جلمان: إن رأيها أقرب إلى موقف التكيف التطوري الذي يقول بأن البشر قد طوروا نزوعا ماهويا عموميا؛ لأنه ذو فائدة في تفاعلاتهم مع العالم. يستمد هذا الموقف جاذبيته من قدرته على تفسير توارد الماهوية عبر الثقافات وعبر الأحقاب وعبر أعمار النمو. (9) دور اللغة في نزعة الماهية
من الأسباب التي تبث في النفس شيئا من نزعة الماهية أن ثمة كلمات معينة تعتمد معانيها - فيما يبدو - على شيء ما غير الخواص السطحية المعروفة. ويحاج كريبك وبنتام بأن معاني أسماء الأعلام «كريبك» وأسماء الأنواع الطبيعية «بنتام» لا تتأسس على قائمة من الخواص المعروفة بل بالأحرى على خواص «أعمق»؛ ما يمكن أن نسميه «خواص محملة بالنظرية»
theory-laden properties
متضمنة تلك الخواص التي قد لا تكون معروفة بعد. مثال ذلك أن الاسم «علي شوقي» لا يعرف بمجموعة من العلامات من قبيل «يرتدي نظارة طبية، يعمل ضابطا بالمطار، أقرب صديقين له يسميان رفعت ويوسف ...» ذلك أن علي شوقي إذا كان قد توفي عند ولادته لما كان له أي وصف من هذه الأوصاف؛ ومن ثم فهي لا يمكن أن تكون محددة لكونه علي شوقي. أما الملمح الوحيد الذي يبدو أنه متصل «بالضرورة» باسم «علي شوقي» فهو أنه ولد لأبوين معينين. يقول كريبك: إن أسماء الأعلام تشير ولكنها لا تصف. وأي وصف مرتبط باسم من الأسماء إنما يساعدنا فحسب في اختيار المرجع
referent (المشار إليه)، ولكنه لا يعرف المرجع.
وقد نقل كريبك وبنتام بخاصة هذا التحليل لأسماء الأعلام إلى ألفاظ النوع الطبيعي. وهما يحاجان بأنه بالرغم من أن مجموعة من الملامح المعروفة قد تستخدم لتعريف أعضاء فئة نوع طبيعي ما، فإن الملامح لا تعمل كمعايير ضرورية وكافية. مثال ذلك: أن الحيتان لها شكل شبيه بالأسماك، وتعيش وتسبح في الماء كما تفعل الأسماك، ولكنها ليست أسماكا. وبالمثل يقدم بنتام مثالا، فمعظمنا لا يمكنه التفرقة بين شجر الدردار وشجر الزان، ورغم ذلك يقرر أن كلمتي: «دردار» و«زان» مختلفتان في المعنى. يبدو أننا نفترض أن أشجار الدردار وأشجار الزان نوعان مختلفان من الأشياء؛ أي نفترض أن الفروق قائمة هناك في العالم بانتظار اكتشافنا لها، وأن بإمكان الخبراء أن يخبرونا أيها هذا وأيها ذاك (مشيرة أن التمييز واقعي). بذلك يحاج بنتام بقوة ضرورة التقسيم الاجتماعي-اللغوي للعمل، الذي وفقا له لا يلزم الناطق العادي أن يعرف كيف يميز ما إذا كان شيء ما هو «شجرة دردار» مثلا، ولكن الخبراء في المجتمع لديهم القدرة على هذا التمييز. وكما يؤثر عن بنتام فإن «المعاني ليست في الرأس». صحيح أن المعاني قد لا تكون في الرأس، لكن الأسس التصورية لمثل هذه المنظومة تتضمن نوعا من الماهوية «في الرأس».
تبين هذه المراجعة الموجزة أن اللغة تعمل وفقا لافتراضات ماهوية معينة؛ غير أنها تترك السؤال مفتوحا عما إذا كانت اللغة بما هي كذلك تسهم في التفكير الماهوي؛ فقد يكون الأمر غير ذلك ويكون التفكير الماهوي هو الذي يسهم في كيف تستخدم الألفاظ.
صفحة غير معروفة