هذه الحالات الأخيرة - كما ترى - ليست موضوعات فلسفية تافهة تليق بالأرائك الوثيرة، إنها موضوعات حقيقية تهمنا جميعا، ولكن ما زال موقفنا العام تجاهها هو أننا نقاربها بألفاظ ماهوية، حتى إذا بات واضحا للجميع أن ذلك ليس خطأ تصوريا فحسب، بل خطرا أيضا وخسرانا مبينا.
إذا كنت غير مقتنع بعد فانظر إلى العرق: نحن نشير إلى الناس على أنهم قوقازيون، سود، سمر ... إلخ، وبألف طريقة بناء على مظهرهم الخارجي. ولكن الحقيقة العلمية هي أن من غير الممكن وضع حدود واضحة للعرقية؛ فنحن جميعا «مخلطون» إلى حد ما. بل إننا لنقيم سياساتنا على هذه التصنيفات التي لا أساس لها. قد يكون هناك ما يبرر هذه التصنيفات في بعض الحالات، ولكن المشكلة هي أن معظمنا يكون سعيدا بإغفال حقيقة أن التعريفات القائمة على الإثنية هي من بين أبشع ما يمكن من التبسيطات، وينبغي أن تعامل على أنها كذلك؛ غير أن الكثير من الناس يكون سعيدا إذ يعتقد أن الأعراق شيء تحدده ماهية أو أخرى؛ الأمر الذي يديم (ولا أقول يولد) العنصرية وجميع الفظائع التي تترتب عليها.
وتنطبق نفس المخاطر على أغلب الاعتبارات الأخلاقية؛ فنحن نحكم على الناس وعلى الأحداث بناء على فئات عريضة وغير محددة موضوعيا، ونتخذ من ثم قرارات وكأن هذه الفئات فئات حقيقية. من شأن هذا أن يولد الكثير من الأخطاء المريعة والمؤذية، ونحن كالعادة لا نلحظ ذلك. ما أريد أن أقوله هو أن مغالطة الماهوية ليست فقط عادة فكرية معتمة وغير ذات صلة؛ إنها مصدر بعض من أفدح الأخطاء التي تم ارتكابها على الإطلاق. إنها شائعة في كل مكان، وتؤثر فينا جميعا بمن فينا الأساتذة والعلماء والفلاسفة، بل الأسوأ هو أنها شائعة بين رجال الدين والسياسيين والمواطنين. (5) الاستثناءات
كل ما قلناه آنفا إنما هو حجة تصورية، هي ذاتها تتناول رموزا، وهي تستحق الاستكشاف؛ لأنها - فيما نرجو - تبسيط مفيد؛ لذا فإن ثمة تنبؤا واضحا: أنها لا يمكن أن تكون حقيقة مطلقة، ولا بد أن هناك استثناءات. أبرز هذه الاستثناءات الرياضيات. ولكن بصفة عامة فإن الأفكار نفسها قد لا تكون عرضة للأخطاء الماهوية، حين يكون موضوع تفكيري مجبولا من فئات التكافؤ مباشرة، حينئذ يتناول الذهن موضوعه مباشرة ولا يتناول مجرد رموز لموضوعه. ومن الجهة النظرية: إذا كنت أفكر حول فئات تكافؤ فإنني أفكر حول النوع الوحيد من البناءات التي لها حقا ماهية. ينتج من ذلك أن المرء حين يفكر حول مفاهيم فإن بوسعه (نظريا على الأقل) أن يؤسس حقائق مطلقة. وهذا يختلف جذريا عن «البحث عن تبسيطات مفيدة». والمثال النموذجي هنا هو الرياضيات: فهي تتعامل حصرا مع مفاهيم مجردة؛ ولذا يمكنها إيجاد الكثير من الحقائق المطلقة. إن 2 + 2 تساوي 4 بلا استثناءات.
والأمر نفسه ينطبق على عملية تقييم نظريات مختلفة ومتنافسة أو منظومات من «التبسيطات المفيدة». إن بوسعي بغير شك أن أستنتج أن فكرة استواء الأرض أقل دقة من تقريب العالم على أنه كروي. إن كلتا الفكرتين خطأ، ولكن الأخيرة أقل خطأ. والشيء نفسه ينطبق على نظرية الخلق ونظرية التطور؛ فلا شك أن نظرية التطور تقريب للعالم أفضل من نظرية الخلق. وبوسعي في كلتا الحالتين أن أدعي أن النتيجة موضوعية؛ لأنها تتعلق بمفاهيم هي نفسها مكونة من فئات تكافؤ.
كذلك الحال بالنسبة للمصنوعات أو المنتجات - الكوب مثلا - إنه من صنع الإنسان، ونتاج تفكير تدفعه فئات التكافؤ. وهو مصنوع بشكل معين ومادة معينة؛ لأن مصممه كانت لديه بالفعل فكرة عما ينبغي أن تكون عليه الأكواب. إن جانبا على الأقل مما تكونه جميع الأكواب هو نتاج تفكير ماهوي. لقد صنع الكوب بقصد مثول نسخة من الفئة التصورية «كوب»؛ ومن ثم فإن بوسع المرء أن يقول بأن للكوب جانبا ماهويا حقا.
هذا حق، ولكن فهم الأشياء الصنعية في حدود ماهياتها (المقصودة) على وجه الحصر يظل منكرا (أو غير مكترث) لفيزيقيتها الخاصة. والنتيجة النهائية هي أننا بإزاء حافة غائمة أخرى: إن للأشياء المصممة (إلى حد ما وإلى حد متفاوت) ماهية، وهي من ثم أقل تعرضا لمغالطة الماهوية؛ غير أنها تبقى بناءات فيزيقية، ولها بما هي كذلك بعض الصفات أيضا التي لا يمكن وصفها تماما في حدود ماهوية. وكلما ازداد الجانب التصوري للشيء (مثال ذلك العتاد الرخو
software
بل والكتب والرواية أيضا) كان أكثر قابلية للتحليل الماهوي.
وصفوة القول: إنه ينبغي على جميع الجهود الفكرية أن تكون على وعي جيد بالمغالطة الماهوية، وأن تكيف مناهجها ودعاويها وفقا لدرجة انطباق هذه المغالطة على مجالها الخاص؛ ذلك أن إغفالنا لذلك قد يؤدي إلى أخطاء كارثية، وبعض هذه الأخطاء قد أفضى بالفعل إلى أفظع مشاهد التاريخ البشري. (6) نزعة اللامعصومية
صفحة غير معروفة