غير أن النتيجة ظاهرة الكذب. هكذا واجهت المفارقة الرواقيين مثلما واجهت المنطقي الكلاسيكي الحديث. كما أن مثل هذه المفارقات ليست ألغازا منعزلة، فمن الممكن التعبير بهذه الطريقة عن مفارقات كومة لا حصر لها. بإمكان المرء على سبيل المثال أن يطرح أحجية «الرجل الأقرع» بهذه الطريقة، فما دام رجل ذو شعرة واحدة في رأسه هو رجل أقرع، وإذا كان رجل ذو شعرة واحدة أقرع؛ إذن رجل ذو شعرتين هو أقرع. ومرة ثانية إذا كان رجل ذو شعرتين أقرع؛ إذن رجل ذو ثلاث هو أقرع ... وهكذا؛ إذن رجل ذو عشرة آلاف شعرة في رأسه هو أقرع؛ غير أننا نشعر بحق أن مثل هذا الرجل غزير الشعر؛ أي ليس أقرع. ويبدو حقا أن أي محمول غامض يتيح مثل هذه المفارقة: مفارقة الكومة والمحمولات الغامضة موجودة في كل حدب صوب.
ومثلما تمضي مفارقة الكومة والرجل الأقرع بالإضافة، فإن بالإمكان أيضا أن تمضي بالعكس، بالطرح. فإذا كان المرء مهيئا لأن يسلم بأن عشرة آلاف حبة رمل تصنع كومة فإن بإمكانه إذن أن يحاج بأن حبة واحدة تصنع كومة؛ حيث إن إزالة أي حبة رمل واحدة لا يمكن أن تصنع الفارق. وبالمثل إذا كان المرء مهيئا لأن يسلم بأن رجلا ذا عشرة آلاف شعرة في رأسه ليس أقرع، فلن يمكنه إذن أن يحاج بأنه ليس أقرع حتى لو كان ذا شعرة واحدة في رأسه؛ حيث إن إزالة شعرة واحدة من فروة رأسه المشعرة أصلا لا يمكن أن تصنع الفارق. هكذا كان متبينا حتى في العصر القديم أن حجج الكومة تأتي في أزواج، مستخدمة: «ليس كومة» و«كومة»؛ «أقرع» و«مشعر»؛ «فقير» و«غني»؛ «قليل» و«كثير»؛ «صغير» و«كبير»؛ «قصير» و«طويل» ... وهكذا. فلكل حجة تمضي بالإضافة هناك حجة أخرى معكوسة تمضي بالطرح.
ومن عجب أن المفارقة لم تنل - فيما يبدو - اهتماما لاحقا يذكر حتى أواخر القرن التاسع عشر، فنجد من المدرسة الهيجلية الجديدة فلاسفة ماركسيين مثل بليخانوف يذكر المفارقة كدليل على فشل المنطق «المعتاد» وعلى أفضلية «منطق التناقض». هكذا حاول بعض المنظرين الماركسيين تأسيس انتصار الديالكتيك. وفي نفس الوقت أخذ المنطق الصوري في الفلسفة الأنجلو أمريكية مرة ثانية دورا محوريا، وفي صورته الكلاسيكية برزت لفريجه ورسل مشكلات في تناول ظاهرة «الغموض». وقد أقرا بأن ظاهرة الغموض ومفارقة الكومة المرتبطة بها هما أشياء خارج مجال المنطق؛ ومن ثم لا يشكلان تحديا له. ومنذ زوال مذهبي اللغة المثالية عند رسل وفريجه في النصف الثاني من القرن العشرين زاد الاهتمام بأوهام اللغة العادية (وبخاصة مفارقة الكومة) زيادة عظيمة. (4) عود إلى «الذهن المتقطع»
متى تبدأ الحياة إذن ومتى تنتهي؟ للوهلة الأولى يبدو الأمر واضحا؛ فنحن في ظروف الحياة اليومية لا نجد مشكلة في تقرير ما إذا كان شخص ما «ميتا» أم «حيا»، ولكن المشكلة هي أن «الحياة» (شأنها شأن جميع «فئات التكافؤ»
equivalence classes
التي توجد لأنها تبسيطات نافعة غاية النفع) ليست «ماهية»؛ فحدودها غائمة ضبابية لا يمكن تحديدها بدقة. هب أنني انتزعت من رأسي شعرة؛ ثمة احتمال بأن تكون هذه الشعرة محتفظة ببصيلتها، وهذه البصيلة مكونة من خلايا حية؛ ومن ثم فإن بوسعنا أن نستنتج أن البصيلة حية. ولكن هل هي كذلك حقا ؟ إن هذه الخلايا سوف تموت بالتأكيد وهي خارج جسمي ولن تكون لها فرصة ل «الحياة» بمعزل.
ودمي أيضا مليء بالخلايا الحية، ولكن من ذا الذي يعتبر قطرة من الدم شيئا حيا؟ وماذا عن الخلايا المزروعة في صحفة بتري
بالمختبر؟ هي بكل تأكيد حية، ولكن ما الفرق بالضبط بينها وبين قطرة الدم؟ لا فرق؛ فمن قال: إنه من غير الممكن بالضرورة حفظ الخلايا البيضاء - في قطرة دم - حية في صحفة بتري؟
إن الأمثلة السابقة تافهة وقد استعنت بها خصيصا خشية أن تشوش أطروحتي متضمنات أخلاقية. الفكرة الأساسية هي أننا ما إن نشرع في النظر إلى المنطقة التي تبدأ فيها الحياة وتنتهي حتى نراع لعدم وجود خطوط فاصلة محددة؛ ومن ثم لا يمكننا عزل الحياة وتعريفها بأي طريقة موضوعية. إن مفهوم «الحياة» يصبح بلا معنى عندما تطلب تعريفا موضوعيا. ولا يتحلى بالمعنى إلا إذا تقبل المرء (أو بالأحرى أغفل) استحالة التعريف الدقيق.
هكذا تجد المغالطة الماهوية أرضا خصبة لتبدي كل خبثها. يغفل معظم الناس استحالة تعريف الحياة ويمضون في استخدام المفهوم حتى حيث يكون مريبا حقا؛ أي عند بداية حدود الحياة ونهايتها. يفضي ذلك إلى أخطاء وفظائع وأباطيل، حيث باسم الحياة قد نطيل عذاب أجسام شبه ميتة (بما يكافئ تماما في بعض الحالات «إنقاذ» قطرة دم باستنباتها في صحفة بتري)، أو نقرر اعتباطيا أن زيجوتا ما هو «شخص» مسبغين على خلية فردة أهمية لا تتناسب معها، متناسين في الأغلب ذلك الشخص التام التكوين الذي يحملها.
صفحة غير معروفة