قال القاضي عياض: كان مالك إذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى ذلكعلى جلسائه، فقيل له يوما في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم على ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا يكاد تسأله عن حديث أبدا إلا بكى حتى ترحمه ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم عنده إنسان فينظر إلى لونه كأنه ينزف منه الدم وقد جف هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كنت آتي صفوان وكان من المتعبدين المجتهدين فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فلا يزال يبكي حتى تقوم الناس عنه ويتركونه وفي (شعب الإيمان) للبيهقي عن مالك وكنا ندخل على أبوب السختياني فإذا ذكر له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه فهذا حال العلماء رحمهم الله تعالى في الأدب والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا ومن إعظامه وإكباره إعظام جميع أسبابه وإكرام مشاهده وأمكنته ومعاهده وما لمسه صلى الله عليه وسلم بشيء من جسده وقد أفتى الإمام مالك رحمه الله فيمن قال: تربة المدينة ردية بأن يضرب ثلاثين درة وأمر بحبسه وكان له قدر، وقال: ما أحوجه إلى ضرب عنقه، تربة دفن فيها صلى الله عليه وسلم يزعم أنها غير طيبة؟.
وروى القاضي عياض في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) صلى الله عليه وسلم أن أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور ناظر مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله أدب قوما فقال: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) الآية ومدح قوما فقال: (إن الذين يغضون أصواتهم) الآية وذم قوما فقال: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) الآية وإن حرمته ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعوا؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعك تعالى قال الله تعالى (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) الآية.
وأظن العلامة مجد الدين الشيرازي أخذ من هذا قوله: ولأنه رأى من كان بالمسجد الشريف القبر المقدس في صلاة ولا غيرها من الأحوال ويلتهم الأدب شريعة وحقيقة في الأقوال والأفعال فقد ذكر ابن السبكي في ترجمة الإمام الخبوشاني أن القاضي الفاضل وزير السلطان دخل يوما لزيارة الشافعي رضي الله عنه فوجد الشيخ يعني الخبوشاني يلقي الدرس على شيء ضيق فجلس على طرف وجنبه إلى القبر فصاح الشيخ قم، قم ظهرك إلى الإمام فقال الفاضل: إن كنت مستدبره بقالبي فأنا مستقبله بقلبي فصاح فيه أخرى وقال ما تعبد يا هذا فخرج الفاضل مدهوشا.
صفحة ١١٠